Print this page

الأطباء غاضبون !

لأوّل مرة في تاريخ تونس يجتمع اليوم كل الأطباء في كل الاختصاصات وفي القطاعين الخاص والعام وكذلك المهن شبه الطبية للتعبير المشترك عن سخطهم المشترك ..

السبب المباشر وراء حالة الغضب هذه هو عدم الإفراج عن الطبيب سليم الحمروني والممرض صالح عبد اللاوي رغم ما يبدو انه تبرئة تقرير الطبّ الشرعي لهما اثر الحادث الأليم الذي جدّ بمستشفى قابس ..
ولكن سبب الغضب المباشر هذا يخفي أسبابا أعمق وشعورا متناميا لدى جلّ الأطباء والاطارات شبه الطبية بأن الظروف النفسية لممارسة هذه المهنة الشريفة بصدد التدهور السريع والخطير وكأن الطبيب إحدى الشماعات التي يضع عليها التونسيون جزءا من مخاوفهم ومن هلوساتهم الجماعية ..

عندما نتجاوز الحدث الآني نرى أن الإشكال يكمن في التهديد الذي أصاب عقد الثقة بين التونسي وبين الطبيب ومن ورائه سائر المنظومة العلاجية..

في الماضي القريب كانت هنالك مهن تحوم حولها قداسة شبه دينية: المربّي والطبيب.. وكان المريض أمام طبيبه كالميت أمام غاسله حسب العبارة الصوفية..أي تسليم بلا جدال وطواعية دون أدنى تمرّد ..ولكن تطور المجتمع وتعقده و«دمقرطة» مهنة الطبّ وصعود الوعي بالحقوق أمام كل سلطة مادية أو رمزية أزاحت تدريجيا هذه القداسة وبدأ تذمّر بعض المرضى ممّا يعتبرونه سوء معاملة أو حتى أخطاء طبية لحقت بهم أو بذويهم ..وبدأ التظلم وحتى التقاضي ..ونحن هنا لسنا أمام حالة تونسية بل تطور عالمي ..وهذا ما استدعى في تجارب عديدة ضبط العلاقات الأخلاقية والقانونية التي تربط المهن الطبية بالمريض /المواطن..

لابدّ من الإقرار بان كل الانفلاتات التي جدّت بعد الثورة عقّدت إلى حدّ كبير العلاقة بين الطبيب والمجتمع إذ أصبحت المنظومة الصحية ككل عرضة لمنسوب مرتفع من العنف اللفظي والمادي وتكاثر الحديث عن «أخطاء» طبية على شبكات التواصل الاجتماعي وفي بعض وسائل الإعلام أيضا..

واستمعنا إلى «شهادات» عديدة لا يعلم غثها من سمينها بالإضافة إلى بعض القضايا العامة كقضية اللوالب القلبية المنتهية الصلوحية وغيرها فتدهورت صورة المنظومة الصحية وصورة الطبيب كذلك وقدّمه بعضهم في صورة المتلهف على المال والمهمل لمرضاه والمتهرب من دفع ضرائبه.. وممّا زاد الطين بلّة كما يقال لجوء القضاء إلى إيقاف أطباء وممرضين في قضايا يشتبه فيها حصول خطإ طبي (سوسة ،قابس) وذلك قبل التأكد من التهمة وهل نحن أمام خطإ طبي، في صورة حصوله، يندرج في جوهر عمل الطبيب ولا يمكن محاسبته عليه لأنه لا وجود لتدخل طبي مهما كان بسيطا دون أخطار محتملة على صحة المريض أم أننا فعلا أمام حالة إهمال تم إثباتها طبيا وإداريا بما لا يدع مجالا للشكّ..

التوازن المطلوب بين حماية الإطار الطبي أثناء أدائه لعمله وضمان حقوق المريض الذي قد يكون تعرض لخطإ أو لهفوة طبية غير موجود الآن وأننا بحاجة إلى إطار قانوني يحمي الطرفين ويضبط الحقوق والواجبات المعنوية والمادية المرتبطة بممارسة هذه المهنة التي تعد من أنبل المهن في كل الحضارات والشعوب..

ولكن هذا لا يكفي إذ يجب إعادة تجسير الثقة المرتفعة بين الطبيب والمريض .. ثقة لا تعني عدم المطالبة بالحقوق ولكن تعني توفير المناخ النفسي الضروري لممارسة هذا العمل المضني والشاق وان تتولى وسائل الإعلام جميعها تأطير الحوار الوطني الضروري لتفسير معنى الخطإ الطبي وحدوده وطرق التعامل معه ولابدّ أيضا أن يعلم الرأي العام أن الطبيب الذي يخرق الميثاق الأخلاقي لمهنته سيعاقب من قبل هياكل المهنة أولا والقضاء ثانيا لو ثبتت حالة تقصير فادحة..
ينبغي أن نعلم أن حالة حرب الكل ضدّ الكلّ مخرّبة للعيش المشترك وأن الارتياب المبالغ فيه مجلبة للفوضى العامة ..

لا أحد يطالب اليوم بإعادة هالة القداسة على مهنة الطبيب أو غيرها من المهن ولكن تهديم الثقة بين الطبيب والمريض جريمة في حق صحة عموم التونسيين..

شعار جميل رفعته طبيبة في إحدى المظاهرات الاحتجاجية «نحبكم أيها المرضى» ومن حق هذه المهنة التي تعرف اليوم نوعا من الاستهداف أن نرفع جميعا شعار «نحبكم أيها الأطباء ونثق فيكم» فعندما تعود الثقة وتتوضح العلاقة الأخلاقية والقانونية بين كل الأطراف نكون قد خطونا خطوات جبارة في تأسيس مجتمع عصري متضامن ..أما الاتهامات المتبادلة والارتياب المبالغ فيه فإنهما يمهدان للعودة إلى قانون الغاب ..

المشاركة في هذا المقال