ونحن على مشارف الانهيار التنظيمي لـ«الخلافة» الداعشية الإرهابية: الأبعاد الفكرية والنفسية في الحرب على الإرهاب

يوما بعد آخر يتأكد انهيار «حلم» الخلافة الداعشية الإرهابية ..هذا «الحلم» أو بالأحرى هذا الكابوس الذي عرف ذروته مع احتلال الموصل في جوان 2014 وتمدد سريعا في العراق وسوريا ثم ليبيا إلى أن جاءت نكسته الأولى في بن قردان في 7 مارس 2016 والآن هو في حالة

تراجع حادة في ليبيا وعلى وشك الانهيار النهائي في العراق وفي الموصل تحديدا قلب مشروعه الإرهابي السلفي الجهادي المعولم وهو بصدد خسارة مواقعه الواحد تلو الآخر في سوريا ..وهذا الانهيار العسكري الوشيك مؤذن بنهاية مرحلة وبداية أخرى في الحرب الوطنية والإقليمية والدولية على الإرهاب. وينبغي على تونس أن تستعد لهذه المرحلة الجديدة للإرهاب السلفي الجهادي المعولم ما بعد «الخلافة» الداعشية..
لا أحد يعلم بالضبط مواصفات هذا الإرهاب الذي سيقوم على أنقاض هذه «الخلافة» الإجرامية وإن كنّا نرجح بأنه سيكون أكثر وحشية ودموية في نوازعه (استهداف كل الناس وكل المواقع متى تيسر له ذلك) ولكن الخطر العسكري لشظايا الدواعش سيكون اقل بكثير من هذه السنوات الأخيرة.

هذا المنعرج القادم في التمظهرات الجديدة للإرهاب السلفي الجهادي المعولم ما بعد «الخلافة» الداعشية لا يعني نهاية الحلّ الأمني ببعديه الاستخباراتي والعسكري ولكن يعني الاستعداد لدعم هذا الجهد الوطني بأبعاد جديدة ظلت ضامرة إلى حدّ الآن في حربنا على الإرهاب ..

تحطيم التنظيم المركزي للدواعش سوف يقضي دون شك على جلّ قدراتهم العسكرية على التمدد وحتّى على الدفاع عن المواقع التي احتلوها خلال هذه السنوات الثلاث الأخيرة ..والمتوقع أيضا أن تسعى الحلقات الأضعف من هذا التنظيم إلى الهرب الجغرافي والنفسي وان تعود إلى ما يشبه حياتها الأصلية قبل الالتحاق بهذه المجموعات الإرهابية ساعية قدر جهدها إلى التخفي عن أعين الأمن والتوقي من انتقام «الأخوة» القدامى..كما يرجح بعض المختصين صراعات وتشققات داخل القيادة الناجية من هذه الهزيمة العسكرية النكراء ولجوء بعضها إلى أساليب أكثر وحشية ودموية (وهذا «برنامج» في حدّ ذاته) من الوحشية المشهدية الداعشية..

ولكن الدواعش كأفراد وكخلايا لن يندثروا بين عشية وضحاها كما أن قدرتهم الاستقطابية – حتى وان ضعفت كثيرا – إلا أنها تبقى تمثل خطرا محدقا ببعض شبابنا الواقع في دوامة هشاشات متنوعة والحامل لحقد على الذات وعلى الآخرين يمكن أن يتحول بسرعة إلى عنف تدميري..

والفكر السلفي الجهادي الإرهابي المعولم لن يقضى عليه كذلك بمجرد خسارة عسكرية مهما كانت أهميتها..وكلّ هذا يدفعنا إلى الاستعداد لمعارك حاسمة ضد الإرهاب فكريا ونفسيا حتى تكون الانتصارات الأمنية نهائية وحتى نقضي على هذا الكابوس الذي وان لم يعد يهدد الدولة في كيانها لكنه يهدد المئات بل الآلاف من شبابنا بما قد يطيل مدة هذه الحرب ويثقل من كلفتها البشرية والمادية على البلاد..

نعلم جميعنا ـ حدسا على الأقل - بان في الحرب على الإرهاب معارك شتى معقدة ومتداخلة فمع البعد الأمني الضروري والدائم أيضا لابدّ من سياسات ومعارك فكرية ودينية واجتماعية وتنموية ونفسية دائمة هي الأخرى كذلك ..
المعركة الفكرية فيها بعدان متلازمان :

تحصين المجتمع ككل ولكن الأهم هو تحصين الفئات الشبابية الهشة وتوفير الحد الأدنى من المناعة الفكرية لهم ليصمدوا أمام الدعاية الداعشية وكذلك استعادة اكبر عدد ممكن من الذين استهوتهم هذه الدعاية قبل سقوطهم في المحظور والتحاقهم بالخلايا الإرهابية ..
وقد قلنا عمدا الحرب الفكرية ولم نقل الدينية لأنه من الخطإ حصر هذه المعركة المصيرية في حرب دينية بين الفكر الداعشي وفكر « إسلامي معتدل» لأننا بهذا نعطي نوعا من المشروعية لهذه الإيديولوجية التدميرية ونضطر إلى أن نضع أنفسنا على نفس مستوى المفاهيم الأساسية لهذه التنظيمات الإرهابية : آية ضدّ آية وحديث ضدّ حديث وفتوى ضدّ فتوى..

لاشك أن الفكر الديني سيكون احد أبعاد هذه المعركة الفكرية ولكن حصر حربنا على الإرهاب في صراع مذهبي داخل التيار السني وفي قراءة نصوصية مباشرة هو خطر على البلاد واعتراف ،ولو غير مباشر، بان للإرهابيين حججا دينية يمكن أن تناقش..وأن الوحيدين القادرين على القيام بهذا الدور هم «مشائخ» الإسلام «المعتدل» سواء أكانوا ينتمون للمؤسسة الدينية الرسمية أو للإسلام السياسي الذي يريد تحيّن هذا الفرصة حتى يعود إلى محور حياتنا الفكرية..

ثم إن ننسى فلا ننسى أن بيان زيف الإسلام السياسي هو الشرط الأول لهذه المعركة الفكرية ولتحصين المجتمع بأسره من جرثومة التطرف الديني..

نحن نتحدث عن الإسلام السياسي كايديولوجيا لا كتنظيمات حزبية..وهذه الايديولوجيا تقوم على فكرة : مركزية الإسلام نظام شامل للحياة لا يميّز بين الجوانب الشخصية والجماعية وبين العبادات والنظم الاقتصادية والاجتماعية وهو يهدف إلى تأسيس دولة إسلامية تحكمها الشريعة..

لاشك أن هنالك اجتهادات شتى داخل هذه المدرسة فيها المتشدد المتعصب وفيها الأكثر انفتاحا ولكننا نبقى داخل نفس البوتقة وهنا يجد الإرهاب السلفي الجهادي المعولم فضاءه الطبيعي ويقدم في هذا الإطار القراءة الأكثر تناسقا والأكثر نصوصية والأكثر راديكالية ..
فالانحراف الفكري لا يكمن فقط في التيار السلفي الجهادي بل وبصفة أعم في كل تيارات الإسلام السياسي التي تريد أن تحوّل الدين والتديّن إلى إيديولوجيا نضالية من اجل افتكاك السلطة أو السطوة داخل المجتمع..

ثم أن الفكر أوسع بكثير من أن يحصر في الدائرة الدينية الضيقة ومقاومة التطرف الديني تكون أولا وقبل كل شيء بانفتاح الذهن على الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع وعلى الثقافة العلمية وعلى إعطاء أدوات الفهم والتحليل الشخصي لكل شبابنا بدءا بالمدرسة وصولا إلى كل فضاءات المجتمع..فالدين جزء من الحياة وليس هو كل الحياة..هذه الحقيقة البديهية هي التي ينبغي أن نتحاور فيها مع شبابنا حتى ذلك الذي تستهويه اليوم الدعاية الداعشية الإرهابية .

هذا البعد الفكري بمعناه الواسع والشامل مازال غائبا في مدارسنا وفضاءاتنا الشبابية ووسائل إعلامنا وحياتنا الجمعياتية والحزبية رغم توفر بلادنا على جيل من المفكرين والمثقفين والمبدعين بإمكانه أن يقود هذه المعركة بكل اقتدار لو توفرت السياسات العمومية الملائمة..
ولكن لا ينبغي أن ننسى أننا نخاطب في كل هذا سائر أفراد المجتمع ولاسيما شبابنا الذي تشكو فئات منه هشاشات عدة : اجتماعية ودراسية ومجالية وعاطفية تتظافر أحيانا فينجر عنها عند بعضهم تراكم وتكثيف لمنسوب العنف ضدّ الذات وضدّ الآخرين وهكذا يصبحون لقمة سائغة للدعاية الإرهابية..

الواضح هنا أن تحصين هذا الشباب لا يمكن أن يكون فكريا فقط بل لابدّ ألاّ نترك هؤلاء الشباب معزولين في هامشيتهم المضاعفة ..

لابدّ أن نفكر في نزع فتيل العنف ما آمكن وذلك لن يكون إلا بسياسات متعاضدة تعيد الأمل إلى مناطق التخوم عبر التنمية والتشغيل والمرافق العامة ومحيط الحياة والثقافة والترفيه والرياضة..
هذه بعض أبعاد المعارك المتعددة لدحر آفة الإرهاب ولكي لا نبقى فقط في مستوى المجابهة الأمنية لمظاهره..

يبدو لنا أن التحولات القادمة إقليميا ودوليا رغم أنها تحمل بعض المخاطر المحدقة كاحتمال عودة بعض عناصر هذه الجماعات الإرهابية إلى ارض الوطن إلا أنها توفر لنا كذلك فرصة هامة جدّا لكي نبدأ في تطويق فكري واجتماعي وبشري لهذه الآفة بعد أن نجحنا بوضوح في الحدّ من خطورتها العملياتية بفضل قواتنا الأمنية والعسكرية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115