Print this page

بعد مسلسل التوريث والانشقاقات وصراع اللوبيات ومهزلة التسريبات: أيّ مستقبل لما بقي من نداء تونس ؟

بالأمس القريب فاز حزب نداء تونس بالانتخابات التشريعية وكذلك بالرئاسية محققا بذلك النتائج التي حلم بها مؤسسوه وأولاها إحلال التوازن في المشهد السياسي بعد انخرامه سنة 2011 بحكم هيمنة الحركة الإسلامية شبه المطلقة رغم أنها لم تحصل إلاّ على %37 من أصوات ناخبي المجلس التأسيسي..

ولكن مهازل مسلسل التوريث وما صاحبه ونجم عنه من انشقاقات ومن اختراق الحزب من لوبيات مشبوهة وآخرها مسلسل «التسريبات» الذي بيّن مدى ترهل المناخ السياسي عند القيادة الحالية لهذا الحزب وتصورها الزبوني والغنائمي للدولة ، عاد السؤال من جديد : هل مازال هذا الحزب قادرا على لعب الدور الوظيفي الذي تأسس من اجله وهو إحداث التوازن في المشهد السياسي .. وهل أنّه قادرا ، قبل ذلك، على أن يكون فعلا حزب حكم له تصورات واقتراحات وقدرة على تأطير جزء من المواطنين أم أن أزماته الداخلية المتلاحقة ستجعل منه نسيا منسيا ؟

أسئلة جوهرية لا تعني فقط مناضلي هذا الحزب وأنصاره بل البلاد بأسرها لأن الأزمة السياسية والتنظيمية والأخلاقية للحزب الأول في البلاد لا يمكن لها ألا تنعكس سلبا على كل وجوه الحياة العامة..

ولكن يخطئ من يعتقد بأن هذه الأزمة تعني بصفة آلية انهيار هذا الحزب انتخابيا..فكل عمليات سبر الآراء حول نوايا التصويت وآخرها التي أجرتها مؤسسة سيغما حول الانتخابات البلدية والتي نشرناها يوم أمس ، تثبت بأن حزب نداء تونس مازال ، وفي أسوإ الأحوال، الحزب الثاني في البلاد ويتقدم على الحزب الثالث بحوالي 20 نقطة كاملة وذلك رغم ان جلّ مؤسسات سبر الآراء ترصد فقدان النداء لحوالي ثلث قوته الانتخابية..

فالأزمة السياسية أو الأخلاقية لا تعني ضرورة أزمة انتخابية كبرى خاصة على المدى القريب.. وما يفسر صمود النداء رغم كل ما مرّ به خلال هاتين السنتين الأخيرتين هو ارتباط اسمه في ذهن جزء من المواطنين بحزب الحكم وبحزب رئيس الدولة، وهذا جعل اغلب الوجاهات المحلية والجهوية التي صنعت انتصار هذا الحزب في خريف 2014 مازالت لم تقطع مع نداء تونس رغم خيبة أملها الكبيرة في القيادة الحالية..

فهذه الوجاهات لا تريد خوض مغامرة جديدة غير مأمونة العواقب وهي ليست مستعدة الآن للرهان على حصان آخر قد لا يكون قادرا على ما نجح فيه نداء تونس أي الانتصار في المواعيد الانتخابية المحلية والوطنية القادمة..

نحن هنا لسنا في خانة الأخلاق أو القيم ..إننا في خانة الحسابات السياسية الملموسة..فجزء هام من الناس في كل بلاد الدنيا لا يصوتون فقط للحزب الممثل لقيمهم بصفة ايجابية بل كذلك للحزب القريب منهم والقادر على الفوز كذلك رغم مطباته الأخلاقية.. والقاعدة الندائية عندما تدير وجهها عن حزبها فهي لا تذهب في غالبيتها الكبيرة إلى الحزب الثاني القادر على الفوز حركة النهضة، بل إن رفضها للحركة الإسلامية يغلب عندها على حنقها على قيادة حزبها الحالية..
وكل هذه العناصر هي التي تجعل من نداء تونس الحالي قوة انتخابية هامة رغم تراجعها الكبير الذي اشرنا إليه بداية..

ولكن نداء تونس ليس في مأمن ،نظريا، من صعود قوة منافسة قادرة على امتصاص جزء هام من قاعدته الانتخابية..ونحن نعلم أن عدة أحزاب أو مشاريع أحزاب تشتغل على هذه الفرضية منها بالخصوص مشروع تونس لمحسن مرزوق وحزبا المهدي جمعة ونجيب الشابي المتوقع الإعلان الرسمي عنهما في الأسابيع القادمة..

ولكن يبدو أن هذه المشاريع لم تحدث إلى حدّ الآن الحركية السياسية القادرة على قلب الموازين بصفة جذرية رغم توفر الأرض الخصبة لعرض سياسي جديد..

فالملاحظ ، أن تراجع نداء تونس بحوالي الثلث في نوايا التصويت لا تستفيد منه الأحزاب التي تخطط لوراثته سياسيا وانتخابيا بل لأحزاب أخرى بعيدة عن التموقع السياسي والإيديولوجي للنداء ونذكر منها الجبهة الشعبية والتيار الديمقراطي وتيار المحبة وحراك تونس الإرادة.. وهذا عنصر مفيد للقيادة الحالية للنداء إذ أخشى ما تخشاه هو بروز حزب منافس جدي لها في نفس تموقعها السياسي والإيديولوجي لأن هذا لو حصل فسيكون مؤذنا بالزوال النهائي للحزب الفائز سنة 2014..
ولكن لنداء تونس الحالي نقطة ضعف جوهرية :

ولاية الباجي قائد السبسي قد انتصفت تقريبا ورئيس الجمهورية قد تعهد في حملته الانتخابية الرئاسية بأنه في صورة فوزه لن يترشح لولاية ثانية أي أن نداء تونس الحالي سيفقد حاميه وسنده الجوهري بعد حوالي سنتين ونصف وان «التوريث» الذي فرض في الحزب لا حظوظ له مطلقا أن يتحول إلى معطى انتخابي إذ يعتبر حافظ قائد السبسي من أكثر الشخصيات رفضا من قبل التونسيين..فقوة النداء حاليا هي نقطة ضعفه على المدى المتوسط وهذا ما دعا ببعض «الأدمغة» إلى التفكير في ...ولاية ثانية للباجي قائد السبسي... لا خدمة للبلاد ولكن لإمهال النداء خمس سنوات إضافية عله يجد فيها توازنه المفقود..

صحيح أن السياسة ليست عالم المثل الأفلاطونية وان الحسابات الصغيرة والخسيسة فيها لديها فاعلية لا يستهان بها ..ولكن من مزايا النظام الديمقراطي أن غياب الأفكار وانحدار القيم مؤذن عاجلا أو آجلا بأفول أحزاب أقوى وأعتى من الصيغة الحالية لنداء تونس..

المشاركة في هذا المقال