اسألوا أهل الذكر

منذ عقدين من الزمـن ونحن نتابع أقـــوال «الشيــوخ» ونستمع إلى فتاوى الدعــاة وتحليـلاتهـم بشأن إرضاع الكبير، وبول البعير ودوران الأرض وغيرها ونعتبر أنفسنا بمنأى عن هذا الإنتاج البليد والركيك والمشين الذي أساء إلى الإسلام والمسلمين. وكنّا نعتقد أن بلد المصلحين

أمثال الثعالبي وابن أبي الضياف والحداد وابن عاشور... محصّن من كلّ هذه الترهات .ولكن ها أنّ العدوى تنتشر بيننا بعد أن هلّ علينا صنف من «الدعاة والشيوخ» والمتطفلين على الإمامة والدعوة ليتنافسوا من أجل الظهور في الإعلام علهم يحتلون موقعا... لم نستمع إلى أصوات الشيوخ ترتفع عاليا منددة بما يحدث داخل المساجد من عراك وهرج ومرج و«العياذ بالله» ولم يخرج علينا أحدهم بقول مُبين في حملات تكفير السياسيين والجامعيات والناشطات الحقوقيات والفنانين و ...ولم يقل أحدهم القول الفصل في حملات الثلب والتشويه والعنف المادي الذي مورس على النساء... لاذوا بالصمت في زمن كنّا نتوقع فيه أن يضطلع فيه «العلماء» بدور ريادي.

آخر تقليعة هي الندوة الصحفية التي عقدتها «جمعية هيئة مشايخ تونس» و«جمعية الأئمة من أجل الاعتدال ونبذ التطرف حول النوع الاجتماعي»: المآلات والتطبيقات من خلال مشروع قانون العنف ضدّ المرأة... تتأمل في ما يجري في القرن 21 فتكتشف أن المرأة غائبة على مستوى «ركح» التدخلات والنقاش حاضرة من خلال الخطاب فتستحضر صورة انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي بخصوص ندوة في السعودية عقدها عدد من الشيوخ للحديث عن قضايا المرأة... فتردّد: ما أشبه ما يجري هنا بما حدث هناك.
تفكّك الخطاب فتجد أنّ القوم احتلوا منزلة «الأكاديمية المتخصصة في دراسات الجندر» فراحوا يوضحون مفهوم الجندر /النوع الاجتماعي الذي هو في نظرهم «مصطلح ذو جذور غربية» ومرتبط بـ «فلسفة إلحادية» وهو وسيلة «غزو ثقافي»... ونعم التعريف... لله دركم من أي معجم أخذتم هذا التعريف؟ أمّا المآخذ التي يسجلها هؤلاء فهي التي تنطبق على كلّ موضوع وبتنا نحفظها عن ظهر قلب: «ضرب الخصوصيات والسيادة الوطنية»، ما يتنافى مع «هويتنا العربية الإسلامية» و«يمس بالثوابت» وهو «شبهة» و«خطر» ومحاط بـ «الغموض» و«مأخوذ من الفلسفة الغربية» ولهذا يتصدى الشيوخ لا للإرهاب بل للجندر...

ليس بإمكاننا في هذا الحيز المخصص لافتتاحية، أن نردّ على هذا الخطاب غير العلمي، والذي سيجعلنا أضحوكة بين الأمم. ولكن سنكتفي ببيان تهافت الشيوخ وهنات الخطاب. فإذا كان النوع الاجتماعي مدانا لأنّه غربي النشأة فماذا عن الديمقراطية والحوكمة والشفافية والقوانين الوضعية والبرلمان..؟ وإذا كان المصطلح يثير «شبهة» فلمَ لمْ يستأنس برأي المتخصصات في دراسات الجندر وتم اعتماد «بحث» قامت «به جمعية نساء تونسيات»؟ وإذا كان «الجندر يفهم في بعض البلدان بأنه المثلية» فما هي مصادركم ؟.. وإذا كان الجندر «يضرب القيم والأخلاق» و«يدمر المجتمع» فلم اعتمدت سياسات الحكومة منذ عقدين على المقاربة الجندرية التي تصوغها وزارة المرأة ووزارة الصحة وغيرها ؟ وإذا زعم هؤلاء أنّ «الدراسات الاجتماعية تثبت أنّ هذا المصطلح ذكر مع فكر الالحاد ونظرية داروين» أقول: اللّهم زدنا علما... وأتحداهم أن يوردوا المراجع السوسيولوجية التي اعتمدوها. وإذا اعتبر أحد «الشيوخ» أنّ الجندر لا علاقة له بالمساواة فإني لا أجد أفضل مما قاله ابن قتيبة في باب العقل «ينبغي للعاقل أن يكون عارفا بزمانه، حافظا للسانه مقبلا على شأنه... ليس العاقل الذي يحتال للأمر إذا وقع ولكنه يحتال للأمر ألاّ يقع فيه».

مرحبا بالشيوخ في مجال دراسات النوع الاجتماعي يُحاضرون في النظريات والمقاربات والمصطلحات فيشرحون لنا علاقة الدراسات الجندرية بالدراسات النسائية وبالدراسات النسوية، وبالدراسات الدينية ودراسات العلوم السياسية ودراسات الإعلام... ويوضحون لنا منظومة توزيع الأدوار، وأسس التنشئة الاجتماعية، والهيمنة الذكورية ، والنظام الجندري، والتنميط الجندري، والمساواة الجندرية،والتحليل الجندري، والعلاقات المبنية على النوع الاجتماعي، والهوية الجندرية ،والعنف المبني على النوع الاجتماعي، والمعايير الجندرية... ويخبروننا عن Chandra Talpade Mohanty وGayatri Chakravorty Spivak و H.Cixous و Monique Wittig وF Héritier وMounira Charrad وSediqui Fatimaو Asma Barlas و N Tohidi وغيرهن كثيرات.

عجبي من قوم نصبوا أنفسهم أوصياء على المجتمع والأخلاق والدستور يحذرون ويتوعدون ويفتون ويتفقهون ويدعون تبحرا في المعرفة... وقريبا سيتحدثون عن علوم الفيزياء والرياضيات والبيولويجا والاقتصاد... حينها يجوز لي اختتام افتتاحيتي بعبارات: «أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم» ولله في خلقه شؤون، والله أعلم...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115