مقاومة الإرهاب وضرورة المعالجة الأمنية الشاملة

تنفس التونسيون الصعداء بعد انقضاء سنة 2016 فالبلاد لم تسجل عمليات إرهابية تذكر عدا تلك المحاولة البائسة والفاشلة التي جدّت في مارس الماضي بمدينة بن قردان وقد تمكنت قواتنا العسكرية والأمنية من دحرها وسط دعم شعبي رائع... وقد قلنا حينها بأننا أمام منعطف

هام في حرب تونس ضد هذه الآفة... وفعلا فبعد سنة 2015 الدامية، رغم النجاحات الأمنية الكبيرة للإطاحة بالعصابات الإرهابية، كانت سنة 2016 سنة الانتصارات لتونس وسنة تراجع جماعات الإجرام داخليا... ولكن الحرب مازالت طويلة والمخاطر مازالت مرتفعة والتحولات الإقليمية المرتقبة بدحر الدواعش في معاقلهم في سوريا والعراق وليبيا قد يُمثل، آنيا، خطرا إضافيا للبلاد رغم إيماننا بأن هذا الدحر المرتقب سيكون إيجابيا على المديين المتوسط والطويل لبلادنا لأنه سيربك شظايا هذا التنظيم الإرهابي وسيفقده الجزء الأكبر من جاذبيته الدموية التي يمارسها على بعض شبابنا وشباب دول كثيرة في شتى بقاع العالم...

ولقد تجلّت مخاوف التونسيين من احتمال عودة الإرهابيين من بؤر التوتر في شعار رفعه نشطاء من المجتمع المدني وتبنته عدة أحزاب سياسية «لا لعودة الإرهابيين» وذهب بعضهم إلى طلب سحب الجنسية منهم... جدل سعى لحسمه رئيس الحكومة بقوله: نحن لسنا مع عودة الإرهابيين ولمن عاد منهم فسنطبق عليهم قانون مكافحة الإرهاب.... وفي نفس المجلس الوزاري المضيق المنعقد في أواخر ديسمبر الماضي تم تبني فكرة إنشاء سجون عالية التأمين لإيداع العناصر الإرهابية الأكثر خطورة...

لا شك أن الجدل حول عودة الإرهابيين لن يُغلق بهذا القرار ولا شك أيضا أن لهذا الجدل فوائد جمّة إذ أنه أيقظ من اعتقد ولو لبرهة بأن الإرهاب ظاهرة «تلفزية» أو إعلامية لا تعنيه في حياته اليومية وهذا الجدل هام أيضا لأنه كشف أن الوشائج الفكرية وحتى العاطفية مع التكفيريين مازالت فاعلة عند البعض كما تبين أن محاربة الإرهاب محاربة لا هوادة فيها ليست دائما أولوية الأولويات، عند كل السياسيين...

ولكن الأهم، أمنيا، للبلاد هو التساؤل عن مدى جاهزيتنا لمجابهة الطوارئ الممكنة لا فقط جرّاء عودة الإرهابيين من بؤر التوتر كما يسمى ولكن لكل خطر إرهابي يتربص بنا أيا كان مأتاه.. فلا ينبغي أن ننسى أن في البلاد حوالي 300 عنصر مسلح موجودين في مرتفعاتنا الغربية وهم موزعون ما بين تنظيمي القاعدة وداعش الإرهابيين... كما أن هنالك عشرات الخلايا الخطرة، إن لم يكن أكثر، والمتخفية اليوم داخل المدن والأحياء والتي تتربص بنا السوء... ولولا اليقظة الاستثنائية لقواتنا الخاصة من الحرس والأمن لتمكنت بعضها من تنفيذ مخططاتها الدموية...

في الحوار المطول الذي خصّنا به السيد الهادي المجدوب وزير الداخلية والذي ننشر اليوم جزءه الثاني، نجد توصيفا واضحا للمعالجة الأمنية للجماعات الإرهابية بأصنافها وأنواعها (انظر «المغرب» يوم الثلاثاء 3 جانفي 2017) كما نجد أيضا حديثا صريحا عن وضع المؤسسة الأمنية وعن بعض النواقص التي تعتري أداءها وعن الإمكانيات التي تعوزها (انظر هذا العدد) واللافت في كلام الوزير هو أن شروط تأمين المؤسسة الأمنية من كل تأثير سياسي أو حزبي ليست كاملة اليوم... فالواضح أن الأحزاب الكبرى وبخاصة النداء والنهضة تريدان أن يكون لها نوع من التأثير على القرار الأمني وأن هذا السعي ليكون لهذين الحزبين موطئ قدم قد يسهم فيه بعض كبار القادة الأمنيين الباحثين عن حماية خارج الأطر الإدارية المنظمة...

وهنا مربط الفرس وإحدى هشاشات منظومة الحكم بعد الثورة وهي سعي بعض اللوبيات السياسية وكذلك المالية إلى التأثير على القرار الأمني واستعداد بعض كبار القادة الأمنيين لهذا بحثا عن حماية وهمية اعتقادا منهم بأن الطبقة السياسية الحاكمة هي التي تملك مفاتيح التسميات والعزل وبالتالي يكون التقرّب من أصحاب النفوذ فيها ضمانة لديمومة المناصب الأمنية العليا وما يتبعها من امتيازات مادية ومعنوية...

لا ينبغي أن يكون خطاب الصراحة هذا مدعاة لتجاذب سياسوي فندخل من جديد المؤسسة الأمنية في صراعاتنا الحزبية... ولكن ينبغي الوقوف على هذا التوصيف الدقيق والشجاع لكي نجد الحلول الملائمة حتى نقطع كل صلة مشبوهة من أي صنف كان بين أهل السياسة والمال من جهة والأمنيين وخاصة كبار قادتهم من جهة أخرى...

وزير الداخلية يقترح مدخلا جيدا للإصلاح وهو إيجاد الضمانات المادية والأدبية الكافية لكبار القيادات الأمنية حتى نحصنهم جميعا من الوقوع في شراك أهل السياسة والمال... ولكن الإصلاح الفعلي يقتضي ولا شك حزما أكبر وأشد في ردع كل هذه المحاولات... فالأمن الجمهوري ليس مجرد شعار بل هو الركيزة الأساسية لبناء الدولة المحايدة (l’Etat impartial).. وما يُقال على المؤسسة الأمنية يُقال أيضا على المؤسسات القضائية والمالية والرقابية...
تونس بحاجة اليوم وأكثر من أي وقت مضى إلى دولة محايدة، دولة تحمي الحقوق والحريات وتفرض القانون على الجميع...
لا شك أننا خطونا بعض الخطوات في هذا الاتجاه ولكن الطريق مازالت طويلة... فالمتربصون بهذه الدولة كثر...
إن الحرب على الإرهاب والحرب على الفساد والحرب على الفقر والظلم كلها حروب متظافرة متضامنة... إنها حروب الثورة التونسية التي تستعد للاحتفال بالذكرى السادسة لأول معركة كسبتها.. ولكننا لم ننتصر بعد في الحرب...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115