في أعطاب الاقتصاد التونسي: II- في شروط الـدولـة المُخطّطة

عندما نتحدث عن شروط الدولة المُخطّطة (l’Etat stratège) لا نقصد بها الدولة

التي تتحكم في الاقتصاد عبر مخططات تنموية (l’Etat planificateur) بل نقصد فقط الدولة التي تملك الاستشراف الكافي محليا وإقليميا ودوليا لتحقق في ظرف معقول وعبر مرافقة وتطوير النسيج الاقتصادي للبلاد تحولا نوعيا في النمو والتنمية يغيّر الوضعية (وضعا وموضعا) الاقتصادية للبلاد بصفة جذرية في ظرف جيل واحد كما حصل ذلك في اليابان والصين وكوريا الجنوبية على سبيل المثال .

هنالك مقدمات ضرورية تمهد لنا الحديث عن شروط الدولة المُخططة اولها الوعي بضرورة إحداث قفزة كبيرة للغاية في ظرف جيل على الاقصى وثانيها وضع كل امكانيات البلاد (موارد طبيعية ومؤسسات اقتصادية وسياسات حكومية وقوة عمل ) في نسق سريع للغاية للاستفادة من كل فرص غزو الاسواق الاجنبية ببضاعة او خدمات لها قدرة تنافسية عالية حتى لو كانت قيمتها المضافة ضعيفة نسبيا في البداية وثالثا الوعي بأن تحقيق التقدم الاقتصادي السريع يحتاج الى اصلاحات عميقة لا فقط في حوكمة الدولة وإصلاح الادارة ومناخ الاعمال والبنية التحتية ولكن ايضا في التعليم والتكوين ومحاربة التفاوت بين الجهات وخلق شروط الرفاه العام.

الدولة المُخطّطة ليست مسألة مسقطة في تاريخنا المعاصر اذ تمكنت تونس بعد الاستقلال وبعد سنوات قليلة من الاضطراب بحكم غياب تجربة ادارة الدولة عند الآباء المؤسسين والحرب الاهلية التي سميت بـ«الفتنة اليوسفية» وبقاء قواعد للجيش الفرنسي. من ارساء اسس هذه الدولة.

يمكن ان نقول انه منذ بدايات ستينات القرن الماضي اصبحت الدولة التونسية دولة مُخطّطة بمعنيي الكلمة (un Etat stratège et un Etat planificateur) وبصفة عميقة للغاية اذ لم تكتف دولة الاستقلال بإحداث شروط النمو الاقتصادي عبر الاقطاب الصناعية المبثوثة في مختلف جهات البلاد لكنها رافقت هذا بإصلاح عميق للمنظومة التربوية والتكوينية وبتغيير جذري للذهنيات عبر تحديث الاسرة بواسطة مجلة الاحوال الشخصية وتعصير القضاء وتوحيده ومحاربة كل مظاهر التخلف (كما كان يقال انذاك) من دجل وشعوذة واستسلام وخمول والحث على العمل واعتباره اقدس الاقداس ومحاربة النزعات القبلية والعروشية وكانت سياسة التعاضد في فلسفتها مفعمة بكل هذه القيم اذ لم يكن المقصود منها مضاعفة الانتاج فقط بل التعود على التعاون وتجاوز المصالح الفردية الضيقة والانخراط في بناء امة متضامنة وعصرية، هنا لا يهم كثيرا الوقوف على سلبيات وإخفاقات الستينات وهي كثيرة بل النظرة الاستشرافية التي وضعتها الدولة ومشاريع الاصلاح التي تم اطلاقها وفي نظرنا نهاية تجربة التعاضد لم تضع حدا للدور المُخطّط للدولة اذ تواصل ذلك في حقبة السبعينات مع المرحوم الهادي نويرة رغم التعديل الهام في السياسات العمومية ولكن الاستشراف والاستباق والتجديد قد ميّزا هذه العشرية الثانية التي ارست الدعائم الاساسية للاقتصاد التونسي بانفتاحه على الاسواق العالمية وتركيزه لطبقة استثمارية جديدة من نساء ورجال الاعمال الذين انحدر جلهم من الادارة واستفاد من برامج طلائعية للاستفادة من فرص التصدير كما تم تنظيم جل المنظومات الغذائية للبلاد كالألبان واللحوم الحمراء والبيضاء وغيرها مع مراعاة الابعاد الاجتماعية (الاجر الصناعي الأدنى المضمون والعائلة المنتجة ..) وهذا يثبت لوحده ان الدور المُخطّط للدولة لم يرتبط بايديولوجيا معينة بل بإرادة تغيير هام للواقع في ظل تصور استشرافي ما.

يمكننا القول ان الدور الاستراتيجي او المخطط للدولة التونسية قد انتهى مع ازمة 1978 وبعد ذلك ساد تخبط في السياسات العمومية مع ما سمي بالانفتاح منذ سنة 1980 اذ حصلت بعيد سنوات قليلة ازمة مالية خانقة ودخلت البلاد منذ تلك الفترة الى حدود سنة 2010 في التصرف العادي وارتكزت على مكتسبات الستينات والسبعينات دون أفق استراتيجي متكامل وقوي. اما بعد ذلك فقد اتسم الوضع بالتخبط في الخطاب والجمود في العمل وغياب اي اصلاح فعلي مهما كان محدودا فتوقفت سرعة الآلة الانتاجية وأصبحنا نعيش منذ 2011 وبصفة هيكلية في وضعية النمو الهش.

هل يمكن بعد كل هذه العطالة ان تستعيد الدولة التونسية الدور الاستراتيجي في التنمية والذي فقدته منذ ما يقارب نصف القرن؟

الدولة المُخطّطة لا تظهر الى الوجود بمجرد رغبة الحكام او لاعتقادهم بامتلاك الخصال الكافية لذلك. والشروط التاريخية لفترة ما لا يمكن استعادتها بإطلاق كما ان العبقرية السياسية للقادة الافذاذ عملية يعصب تكرارها في الزمن.

ما يسّر ظهور الدولة المُخطّطة في تونس في اول ستينات القرن الماضي هو توفر نخبة حاكمة من الطراز الكبير تحت قيادة زعيم فذّ كانت لديه قدرة الاستشراف منذ دخوله معترك السياسة والكفاح الوطني في نهاية العشرينات من القرن الماضي، وقد وظف هذا التفكير الواسع والبعيد في المستقبل عندما آلت إليه مقاليد الحكم.

هنالك شروط يمكن توفيرها اليوم شريطة توفر بعض الممهدات:

1 - اهتمام النخب السياسية (حكما ومعارضة) والفكرية والمدنية الاساسية بمناقشة وتطوير الافكار التي تستشرف مستقبل البلاد في كل المجالات.

2 - تعميق الوعي الجيوالاستراتيجي في الفضاء العام

3 - الوعي الحاد بضرورة تحقيق قفزة نوعية في ظرف جيل واحد

4 - الوعي بأن تكون القوة الاقتصادية قاطرة لكل الاصلاحات الادارية والتعليمية والتكوينية

5 - التفكير في تحويل كل المواطنات والمواطنين الذين هم في سن العمل الى قوة انتاج مباشرة او غير مباشرة.

6 - وأهم هذه الممهدات تقديس العمل وبذل الجهد الاقصى وجعل العمل قيمة القيم في كل مجالات الحياة

7 - الإيمان بإمكانية خلق شروط النجاح والتفوق لكل التونسيات والتونسيين وان افق مجتمع الثراء ممكن كذلك ..

كل هذه الممهدات تحتاج دون شك الى ثورة في القيم وقبل ذلك الى استبطانها من قبل جل النخب والقوى الوازنة في البلاد وعدم البكاء على مجدنا التليد وعدم الاكتفاء بالتنديد بالحيف والظلم في العالم والإيمان الراسخ بان اقتصاد بلادنا بالمفهوم الواسع للكلمة يمكن ان يتجاوز في ظرف جيل واحد دولا كالبرتغال وبلجيكيا مثلا.

دون كل هذه الممهدات وغيرها ، سيستحيل توفير شروط امكان الدولة المخططة وسنبقى ذهنيا في حدود الدولة المغذية (l’Etat nourricier) العاجزة عن خلق الثروة الفعلية وتنمية البلاد.

(يتبع )

III-الفرص الجديدة .. والأخيرة

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115