رحل عنّا يوم الاثنين الفارط: خميس الشماري والحركة الديمقراطية والحقوقية التونسية

غادرنا يوم الاثنين الفارط احد أهم رموز الحركة الديمقراطية والحقوقية التونسية خميس الشماري.

لم يكن فقط مناضلا ديمقراطيا وحقوقيا من الطراز الاول بل يمكن ان نقول دون ادنى مبالغة انه من اكثر الشخصيات التي تركت بصمتها في هذا النضال المضني منذ فترات شبابه والتحاقه بـ«حركة آفاق» في اواسط الستينات من القرن الماضي..

تاريخ الحركة الديمقراطية والحقوقية في تونس لم يكتب بعد ولكن يمكن لنا ان نجد بواكيره الاولى في داخل الحزب الاشتراكي الدستوري ، الحزب الحاكم انذاك والبداية كانت مع الرسالة الشهيرة التي وجهها احمد التليلي في جانفي 1966 الى الحبيب بورقيبة، واحمد التليلي كما هو معروف كان قبل هذا التاريخ الامين العام للاتحاد العام التونسي للشغل (من 1956 الى 1963) وعضوا بالديوان السياسي للحزب الاشتراكي الدستوري ولكن المنية عاجلته سنة 1967 قبل ان يرى ثمار هذه البذرة الاولى.

اللحظة الثانية والمفصلية كانت مع ما سمي انذاك بالتيار الليبرالي داخل الحزب ومن اهم رموزه انذاك احمد المستيري وحسيب بن عمار والباجي قائد السبسي وكان يطالب بإصلاحات ديمقراطية داخل الحزب الحاكم وداخل البلاد وانتهى بهم الامر الى طردهم من الحزب الاشتراكي الدستوري واتجهت الاغلبية انذاك الى انشاء حركة سياسية معارضة (حركة الديمقراطيين الاشتراكيين التي تأسست سنة 1978) بزعامة احمد المستيري بينما اختار بعضهم الاخر النضال الديمقراطي والحقوقي خارج النظام الحزبي فانشأ حسيب بن عمار ورفاقه جريدة «الرأي» في ديسمبر 1977 والتي كانت الجريدة الرائدة على امتداد عشرية كاملة ولحقت بها جملة من الجرائد المستقلة والمعارضة كـ«لوفار» (le phare) و«المغرب» و«ريالتي» (Réalité) و«المستقبل» و«الطريق الجديد» و«الوحدة» و«الموقف» وقد شكلت كل هذه المنابر ربيع الصحافة التونسية في ثمانينات القرن الماضي وكان من نتائج هذه الحركة ايضا ميلاد «الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان» سنة 1976 و«المجلس الوطني للحريات» في النصف الثاني في عشرية السبعينات.

البدايات الاولى كانت اذن من داخل الحزب الحاكم ولكن لولا وجود شخصيات وتيارات بارزة من خارج الحكم (خاصة من يساريين ومن مستقلين) لما كان للحركة الديمقراطية ذلك الالق وذلك الاشعاع منذ اواسط سبعينات القرن الماضي.

لقد كانت احدى العقبات الكأداء أمام بروز حركة ديمقراطية وحقوقية قوية انحدار جلّ النخب التونسية من تيارات سياسية وإيديولوجية لا تؤمن كثيرا (ان لم نقل لا تؤمن بالمرة) بمبادئ حقوق الانسان وبالديمقراطية التمثيلية والتعددية وكان لابد من التحرر الكبير من هذه العوائق الايديولوجية لإمكانية ظهور حركة ديمقراطية وحقوقية اصيلة في البلاد ..

هنا لعبت بعض الشخصيات دورا جوهريا في هذا التحول وكانت الشخصية الابرز بلا منازع خميس الشماري الذي انتمى في شبابه الى «حركة آفاق» اليسارية ثم غادرها ولكنه تضامن معها في محنتها ابان المحاكمة الشهيرة لأكثر من مائة مناضل سنة 1968 وحكم عليه بسنتين سجنا ومنذ تلك الفترة بدأت تتضح في ذهنه ضرورة النضال الديمقراطي والحقوقي من خارج اغلال الايديولوجيات وسعى جاهدا خلال عشرية السبعينات في المهجر إلى تكوين رأي عام يساري يؤمن بهذه القيم لذاتها لا كأداة ذرائعية للوصول إلى السلطة.وعاد خميس الشماري في بداية الثمانينات الى ارض الوطن كعدد كبير من المناضلين اليساريين مستفيدين من سياسة الانفتاح التي عمد إليها النظام انذاك مع وصول محمد مزالي الى الوزارة الاولى ..

وخلال اسابيع قليلة فقط اصبح خميس الشماري ومنزله الكائن انذاك في شارع الولايات المتحدة بالعاصمة القلب النابض للحراك الديمقراطي والحقوقي في تونس .. لقد اتصل خميس الشماري بكل نخب البلاد السياسية والنقابية والفكرية والإعلامية وعمل جاهدا للتقريب بين الاعداء المتصارعين وناضل دون كلل او ملل من الساعة السادسة صباحا الى حدود منتصف الليل على الاقل وعلى امتداد كامل أيام الاسبوع من اجل اشعاع وتنمية وتقوية العود الغض للحركة الحقوقية والديمقراطية في البلاد وقد كان له الفضل الكبير لانفتاح رابطة حقوق الانسان على كل التيارات الفكرية والسياسية والشخصيات المستقلة في البلاد وأصبحت الرابطة بفعل هذا الزخم العظيم من اهم المنظمات في البلاد ورائدة للعمل الديمقراطي والحقوقي في كامل المنطقة العربية وفي افريقيا.

لاشك ان شخصيات كثيرة قد ساهمت في هذه الحركية الفائقة كسعد الدين الزمرلي ومحمد الشرفي وسارج عدة وخديجة الشريف وصالح الزغيدي والمنصف المرزوقي والآلاف من المستقلين ومن مناضلي الاحزاب ومن النقابيين ولكن لا احد كان يضاهي خميس الشماري في قدرته الفائقة على التجميع والتوحيد وادارة الخلاف وهذا العمل الدؤوب اليومي الجنوني الذي كان يقوم به، فقد جمع في نفس الوقت بين وكالة انباء وملتقى كل المستقلين والمتحزبين من اجل فكرة عظيمة واحدة : الديمقراطية وحقوق الانسان.

لقد كانت البلاد تعيش تجربة فريدة من نوعها في تلك العشرية (الثمانينات) ولو لا التزييف المشين للانتخابات التشريعية المبكرة في غرة نوفمبر 1981 لفازت حركة الديمقراطيين الاشتراكيين ولتغيّر وجه البلاد.

وبعد سنوات من رجوعه الى تونس قدّر خميس الشماري ان موقع الاستقلالية الذي عمل في اطاره لم يعد كافيا لتحقيق الامل الديمقراطي فالتحق بحركة الديمقراطيين الاشتراكيين وحاول ان يجعل منها العمود الفقري للجبهة الديمقراطية المنشودة وعرف معها كذلك السجن في حكم بورقيبة وفي حكم بن علي.

خميس الشماري كان بشرا ولم يكن ملاكا ولكنه انفق من جهده وجسده وذهنه وصحته وعائلته في سبيل هدف اسمى: ديمقراطية تعددية وحقوقية فعلية للبلاد التونسية ولكن البلاد اضاعت للأسف فرصة سانحة في بداية الثمانينات وبقي خميس والكثير من رفاقه في مواقع مختلفة، وأحيانا متصارعة يناضلون من اجل نفس هذه الافكار والمبادئ ويسعون إلى تقريب وجهات النظر والتركيز على مواقع الالتقاء بدلا من الصراعات الايديولوجية الفاقدة لكل دلالة ولكل جدوى ..

تونس كما قال الأمين العام السابق لاتحاد الشغل حسين العباسي، بلد الفرص المهدورة ومن بينها عدم رغبة الطبقة الحاكمة في بداية الانتقال الديمقراطي في الاستفادة من شخص في قيمة خميس الشماري. فحتى عندما تم انتخابه في هيئته الحقيقية والكرامة وجد نفسه معزولا فقرر الانسحاب في هدوء ويقيننا أنه لو ترأس هذه الهيئة وأدار أعمالها وفق منهجه الخاص لجنب البلاد مطبات كثيرة ولكان - ربما - وضعها اليوم غير هذا الوضع.

لقد انفق خميس من جسده وصحته اكثر بكثير مما يمكن تصوره وغادرنا ولم يكد يتجاوز الثمانين تاركا أثرا لن يمحي من ذاكرة الالاف الذين عايشوه في مختلف مراحل حياته وتراثا ديمقراطيا في الفكر والتجربة والممارسة اليومية نأمل ان يجد من يعتني به ويدونه حتى يبقى إلى الأجيال القادمة لتستلهم منه تلك الجذوة الاستثنائية وتضيف اليه ما تراه مناسبا لمعارك الديمقراطية وحقوق الانسان اليوم غدا .

لروحه السلام ولزوجته علياء ولابنته فاطمة ولابنه علي ولكل رفاق دربه جميل الصبر والسلوان.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115