تعقيب على مقال: «الكتابة هي الحياة» في خضم الصراع مع العدو

في مقاله المثير للجدل: «الكتابة هي الحياة» أطل علينا يوم الثلاثاء الماضي في جريدة «المغرب» الكاتب شيحه قحه متحدثا عما تعرض له منذ مدة من أزمة صحية، أبعدته قسرا عن الكتابة في هذه الجريدة، مركزا على ما يوليه شخصيا من أهمية قصوى لما يكتب وينشر

إلى حد الحكم على نفسه بالحياة أو الموت تبعا لاستمراره في الكتابة من عدمها، قائلا:«الكتابة هي الدليل على الحياة هي البرهان على أننا نعيش، والدليل على أننا عمرنا الأرض، أما سوى ذلك من العلامات الأخرى فهي في نظري باهتة لا ضوء فيها ولا أثر».
ويبدو أن الكاتب قد تطرق إلى ما يمكن اعتباره من قبيل المغالاة أو التطرف، عندما أقر مرارا في فقرات هذا المقال من أنه لا شيء يستحق العيش والحياة والوجود خارج إطار الكتابة، ولا سيما عندما يتجاوز الحديث عن ذاته وشخصه ويدخل في التعميم وإقحام غيره فيما يراه، مستعملا في تعبيره نون الجماعة، كما في قوله «المهم يا أخي هو أن نكتب» أو عندما يؤكد: الكتابة هي البرهان على أننا نعيش، الكتابة هي الدليل على أننا عمرنا الأرض»

فهل يمكن أن تشاطر الكاتب في هذه الرؤية الفئات الاجتماعية الأخرى التي لا تتعاطى الكتابة إلا عرضا، وإنما هي: «تصنع « أو «تحرث» أو «تداوي» أو «تتاجر» أو «ترسم» أو أنها تمارس أنشطة أخرى جليلة لا تستقيم الحياة فعلا بدونها؟ بل ربما ذهبت بعض هذه الفئات إلى أن ما تضطلع به وما تنجزه على أرض الواقع هو ما يعمر الأرض ويمكث فيها ويقوم عليه العمران البشري، أما الكتابة فهي ترف فكري نخبوي، وفي أفضل الأحوال هي فرض كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين.

وكيف تكون الكتابة هي الحياة إذا أصبحت بمثابة مسكّن من المسكّنات، أو مجرد تسلية وتعمير لأوقات الفراغ، كما يقول الكاتب شيحه قحه: «قد أكتب سخافة، قد أقول ترهات لا تنفع» أو كما يضيف: «أنا أكتب لأروح عن النفس ولأنسى ولأقول لنفسي أنا موجود؟
ومهما كان الأمر فإن فقرات مقال الكاتب شيحه قحه المشحونة بمشاعر القلق، وهو يكتب بحماسة الحريص على التغلب على الداء، ذكّرتني بما سمعته وزملائي من اتحاد الكتاب من الشاعر الصغير أولاد أحمد عند زيارتنا له في المستشفى العسكري قبيل رحيله عنا، وقد أبى إلا أن ينهض من فراشه ليصافحنا ويتحدث إلينا، مصرا على القول بأنه يقاوم ماردا مستبدا بعقار الكتابة ثم الكتابة، حتى أنه لا يكاد يمضي يوم ولا ليلة دون أن يخط الصغير أولاد أحمد بقلمه ما جاش به صدره، ولو كان مجرد سطر أو سطرين، ثم يدسه تحت الوسادة ليعود إليه كلما طاش عنه النوم أو خفت الألم، مضيفا بسخرية مرة أنه يصارع عدوا جبانا لا يجرؤ على الظهور، وكل ما استطاع أن يفعله بمكره وخبثه هو أن يجرده من شعره (بفتح العين) وكشف عن رأسه الذي أصبح أصلع، ولكن العدو فشل وعجز عن أن يجرده من شعره (بتسكين العين)

ولعل هذا ما استوعبه بعض مريديه وعلى رأسهم المدير رئيس تحرير «المغرب» زياد كريشان، الذي عبّر بلغة تنفذ إلى الأعماق في افتتاحيته الاستثنائية يوم 06 أفريل الماضي بعنوان: «رحل محمد الصغير أولاد أحمد، هذا الذي أحب البلاد، كما لم يحب البلاد أحد» قائلا: «غادر الصغير ّأولاد أحمد هذه الحياة الدنيا وصخبها وضجيجها، غادرها بعد صراع مرير مع المرض، غادرها دون أن يستسلم ودون أن يلقي القلم، غادرها وهو يختزن في كلماته تدفق سيله الهادر.»
فلا عجب إذن أن نعيش مع الكاتب شيحه قحه مشاعر الإحساس بالقهر من قبل عدو للحياة وأن نعيش معه مشاعر الصراع مع هذا العدو، لأن إرادة الحياة لدى المثقف الواثق من نفسه ترفض الإستسلام ولا تعترف بالعجز و الهزيمة، وقبل شيحه قحه، وقبل الصغير أولاد أحمد، كان أبو القاسم الشابي الذي تعرض لنفس الداء، يصدح بكلماته ونفثات صدره رغم توصية أطبائه بضرورة ملازمته للراحة التامة في جبال عين دراهم، مؤكدا أن حياته الحقيقية ليست الراحة، وإنما في ما يبوح به ويصدر عنه قائلا:

أنت يا شعر فلذة من فؤادي تتغنى وقطعة من وجودي

أما الإعلامي الكبير الراحل محمد حسنين هيكل فإنه لا يكتم شدة تعلقه الشخصي بالكتابة، قائلا في مؤلفه «خريف الغضب»: «أن حياتي الذاتية الخاصة كانت مسلسلا من الكتابات والكلمات والمناظرات، في مجابهة دائمة لكم هائل من الإرهاصات والعقبات» وفي الماضي القديم قال الجاحظ إمام المعتزلة الذي بقي يكتب وقد بلغ من الكبر عتيا في:«البيان والتبيين»: «ولولا القلم والكتابة لاختلت أخبار الماضين وانقطعت سيرة الأخيار واندثرت مقولات الحكماء وجفّت الصحف واستوت حياة الإنسان والحيوان».
وفي نهاية المطاف من يجرؤ من نخبتنا المثقفة على تفنيد ما يقوله الكاتب شيحه قحه حين يؤكد في مداخلته: «ونأتي البنين حتى نفتخر بهم ويرثوا، كنت والكثيرين من حولي نريد الجاه والنفوذ في الدنيا، ونسعى حتى نكسب الأجر الأفضل ونرتقي إلى أعلى الوظائف، كنا نفعل الخير والشّر حتى نتألق ونرى ويهابنا الناس، ويقول الناس فينا قولا كثيرا، كذلك يتباهى اليوم أهل السياسة وأهل المال وغيرهم ممن سطع في الأرض نجمه وما هو بساطع بل هو سراب منسي، كل هذا في نظري زينة و بهرج، الكتابة يعلم الناس هي الأبقى و بالكتابة نحيا ونتواصل.»؟

البشير السالمي
أستاذ جامعي-
عضو اتحاد الكتاب التونسيين

حديث الأنا: الكتابة هي الحياة

 

 

http://ar.lemaghreb.tn/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/item/9373-%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D9%87%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115