هل للصناعة مستقبل في بلادنا؟

سؤال قد يبدو غريبا بعض الشيء خاصة في ظل تعيين الحكومة الجديدة في بلادنا وتأكيد دور الصناعة في الخروج من الأزمة الاقتصادية التي نمر بها منذ سنوات. والسؤال يبدو أكثر غرابة إذا نظرنا إلى مخطط التنمية الذي وضعته الحكومة السابقة والذي ستواصل الحكومة الجديدة

على العمل على إعداده والذي جعل من الصناعة وبصفة خاصة من القطاعات الواعدة القاطرة التي ستدفع نمط التنمية الجديد الذي يجب إرساؤه لفتح آفاق تنمية جديدة للجهات الداخلية وللشغل بالنسبة للعاطلين عن العمل بصفة خاصة أصحاب الشهائد.
والسؤال كذلك سيكون غريبا بالنسبة للمستثمرين والصناعيين في بلادنا والذين أفنوا سنوات طويلة من أجل بناء نسيج صناعي متكامل هدفه دعم النمو والتشغيل.

الهدف من هذا المقال ليس التراجع عن السياسة الصناعية وقدرتها على دفع النمو في بلادنا بل فهم أهم التطورات التي تعرفها السياسات الصناعية على المستوى العالمي للاستفادة منها وأخذها بعين الاعتبار في ضبط وتحديد سياساتنا الصناعية.

نريد الإشارة في هذا المقال إلى عودة السياسات الصناعية إلى الواجهة في السنوات الأخيرة بعد سنوات طويلة من التهميش في إطار ما يسمى ببرامج التعديل الهيكلي التي ضبطتها أخوات واشنطن أي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إثر أزمة المديونية لبلدان العالم الثالث وأغلب البلدان النامية في بداية الثمانينات. وقد كانت هذه الأزمة بمثابة بداية النهاية للسياسات الصناعية والتصنيع في سياسات التنمية بعد أن لعبت دورا أساسيا في تحديث اقتصاديات البلدان النامية منذ السنوات الأولى للاستقلال.

لقد عملت سياسات التنمية في بدايات الاستقلال على دعم الاستقلال السياسي باستقلال اقتصادي وتنمية حقيقية. وكانت هذه السياسات تهدف إلى تحقيق هدفين على الأقل: الأول هو تحديث الاقتصاد والهياكل الاقتصادية البالية والموروثة من قرون من التخلف والتهميش والقطع مع الاقتصاد الكولونيالي والذي جعل من المستعمرات سوقا لفائض الإنتاج من جهة وكذلك موردا لتصدير المواد الأولية الضرورية لمصانعه. إذن ستعمل السياسات التنموية على القطع مع هذا المسار الاقتصادي الكولنيالي وبناء مسار اقتصادي جديد ينهي الهيمنة والتبعية للاقتصاد الاستعماري ويدعم الاستقلال السياسي بقاعدة اقتصادية وإنتاجية جديدة.

وستعتمد السياسات التنموية في بدايات الاستقلال على ثلاثة عناصر واختيارات أساسية العنصر الأول هو دور الدولة في دفع التنمية وسيكون بالتالي لها مساهمة أساسية في دفع الاستثمار وفي ضبط الاختيارات الاقتصادية والتوجهات الكبرى وبناء التجهيزات الضرورية لانطلاق عملية التنمية. وقد فسّر عديد الأخصائيين والاقتصاديين الدور الكبير الذي لعبته الدول في تشييد الاقتصاد بضعف القطاع الخاص وحاجة البلدان النامية في ذلك الوقت إلى استثمارات كبرى في ميدان البنية التحتية. العنصر الثاني في هذه السياسات التنموية يخص الدور الأساسي الذي ستضطلع به السوق الداخلية ليصبح الهدف الأول من عملية التنمية هو توفير حاجيات وطلبات المستهلكين والطلب الداخلي بدون اللجوء إلى التوريد. وستعرف هذه السياسات بتعويض الواردات للكف من التوجه للأسواق العالمية وبصفة خاصة للقوى الاستعمارية لمواصلة جلب السلع واحتياجات الأسواق الداخلية. أما الجانب الثالث والأساسي لسياسات التنمية في البدايات الأولى فيخص دور وأهمية السياسات القطاعية وبصفة خاصة السياسات الفلاحية والصناعية وكان للأخيرة دور أساسي وعملت على بناء المنشآت

والمؤسسات الصناعية الكبرى وتوزيعها في مختلف الجهات لتكون عنصرا أساسيا في التنمية الجهوية.

وستلعب هذه السياسات التنموية دورا هاما في تحديث الاقتصاديات التابعة والموروثة من الاستعمار ودفع النمو وبناء المجتمعات الحديثة. كما ساهمت كذلك بصفة تدريجية في خلق نسيج اقتصادي وصناعي موجه لتلبية الحاجيات الداخلية والطلب الوطني. كما نجحت هذه السياسات التنموية في إرساء عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمواطن والذي ترك بموجبه بعضا من حرياته الأساسية في مقابل التزام الدولة بتحقيق مطالبه الاقتصادية والاجتماعية.

إلا أن هذه السياسات ستشهد أزماتها الأولى في بداية الثمانينات للقرن الماضي والتي ستنتج عنها أزمة المديونية والتي ستكون وراء دخول صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بقوة في السياسات التنموية وفي اختيارات البلدان النامية.

ويتفق عديد الخبراء والاقتصاديين في تحديد الأسباب التي كانت وراء هذه الأزمة أذكر منها ضعف مردودية الاستثمارات الكبرى مما جعل جزءا هاما منها «أفيلة بيضاء» أو « des éléphants blancs » غلق السوق الداخلية أمام الواردات مما جعل المؤسسات الوطنية تعيش واقع حماية اقتصادية لم تدفعها نحو تحسين جودة إنتاجها والعمل على الجودة والابتكار. كما أن صعود الدولار ونسب الفائدة الأمريكية بعد وصول رونالد ريغان إلى السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية كان له تأثير مباشر على مديونية البلدان النامية والتي عرفت صعودا كبيرا لم تكن هذه البلدان قادرة على الإيفاء به. كل هذه الأسباب كانت وراء أولى أزمات التنمية التي ستعرفها البلدان النامية في بداية الثمانينات.

هذه الأزمة ستكون لها نتائج هامة وانعكاسات كبيرة على البلدان النامية لعل أهمها هو التغيير الكبير الذي ستعرفه سياسات التنمية وأولوياتها في بداية الثمانينات وستكلف البلدان المتقدمة صندوق النقد والبنك الدولي بلعب دور هام في نحت وتحديد السياسات الجديدة فيما سيعرف ببرامج التعديل الهيكلي. وستقطع السياسات الجديدة أو توافق واشنطن مع السياسات الأولى في الثلاث ركائز الأساسية فعوضا عن الدولة ودورها الاستراتيجي في التنمية سيطرح تواجد توافق واشنطن دور السوق الذي سيصبح المحرك الأساسي في عملية التنمية. أما السوق الداخلية فستترك مكانها للشوق العالمية وللقطاعات والصناعات الموجهة للتصدير كما سيوجه توافق واشنطن نقدا شديدا للسياسات الهيكلية أو القطاعية وبصفة خاصة السياسات الصناعية التي ستترك مكانها للسياسية الكلية والتي ستهدف بصفة أساسية للحد من عجز الموازين الاقتصادية وبصفة خاصة عجز ميزانية الدولة وميزان التجارة الخارجية.

إذن ستعرف السياسة الصناعية تهميشا كبيرا في توافق واشنطن والأولويات التنموية التي وضعها وستؤكد هذه التوجهات الجديدة أن عملية التصنيع وبناء النسيج الصناعي في البلدان النامية هي من مهام القطاع الخاص القادر على الاستثمار في القطاعات ذات المردودية بدون حماية الدولة. كما ساهمت بدايات العولمة منذ منتصف السبعينات في تدويل (internationalisation) بعض القطاعات الصناعية وتحويلها من المركز أو البلدان المتقدمة إلى البلدان النامية وشملت عملية التدويل القطاعات ذات الكلفة العمالية العالية للاستفادة من رخص قوة العمل في البلدان النامية كما حولت الشركات الكبرى إنتاجها إلى البلدان النامية ذات الأسواق الكبرى لتفادي الإجراءات الحمائية.

طبّقت أغلب البلدان النامية توافق واشنطن وبرامج التعديل الهيكلية ما عدا عدد قليل من البلدان الآسيوية التي ستعرف نموا كبيرا في السبعينات والثمانينات لتشكل النواتات الأولى لما سيعرف لاحقا بالبلدان الصاعدة ولئن مكنت برامج التعديل الهيكلي البلدان التي اتبعتها من التقليص في الحد من عجز موازناتها العامة والتقليص منها بصفة كبيرة فإنها لم تخلق الرجة التنموية المرجوة ولم تدفع عملية التنمية بل بالعكس فقد كانت لهذه السياسات نتائج اجتماعية وخيمة وساهمت في تنامي الفقر وازدياد البطالة والتهميش.
وكانت برامج التعديل الهيكلي وتوافق واشنطن محل نقد كبير من قبل الاقتصاديين والخبراء وحتى بعض المؤسسات العالمية كالمنظمات المختصة للأمم المتحدة في التنمية إلى جانب منظمات المجتمع المدني والفاعلين الاجتماعيين وساهم هذا النقد الكبير واللاذع في بعض الأحيان في تراجع هذه السياسات وتوافق واشنطن منذ بداية الألفية وبدايات البحث عن أنظمة نمو بديلة ومختلفة.

وقد ساهم هذا التراجع عن توافق واشنطن في إعادة الروح للسياسات الصناعية بعد سنوات من التهميش والرفض. وستصبح الصناعة والاستراتيجيات الصناعية تدريجيا الشغل الشاغل لأغلب البلدان والخبراء والمؤسسات العالمية من أجل إعطاء دفع جديد للاستثمار في القطاع الصناعي لدعم النسيج للاقتصادي وتحسين القدرة التنافسية للبلدان النامية.

وقد ساهم عاملان مهمان في دفع الاهتمام بالسياسات الصناعية وإعادة الروح لها. العامل الأول يتمثل في النجاحات التي عرفتها البلدان الصاعدة والتي أصبحت في سنوات قليلة قوى اقتصادية تلعب دورا كبيرا في الاقتصاد العالمي. وقد أكدت أغلب الدراسات أن الصناعة وتنويع النسيج الصناعي لعب دورا كبيرا في صعود هذه البلدان وفي تحسين قدرتها التنافسية. أما العامل الثاني فيخص المرحلة الجديدة التي عرفتها العولمة في بداية الألفية والتي عملت على تقسيم العملية الإنتاجية في سلسلة محدودة من الأنشطة (chaines de valeur) يقع توزيعها على المستوى العالمي في عدد كبير من البلدان حسب ميزتها التنافسية قبل أن يقع تجميعها وترويجها في الأسواق.

ساهمت كل هذه المعطيات والتطورات في تنامي لا فقط الاهتمام بل كذلك الاستثمار في القطاع الصناعي الذي سيصبح أحد أدوات الدخول في ما بعد الحداثة بعد تطور التكنولوجيات الجديدة والانترنيت والشبكات الاجتماعية.
إلا أن الأزمة المالية العالمية لسنوات 2008 و2009 ستضع حدا لهذا النهوض بالصناعة التي ستعرف بدورها تراجعا كبيرا منذ ذلك الوقت ولن تعرف مستويات النمو التي عرفتها منذ بداية الألفية وهنا أريد الإشارة إلى بعض المؤشرات التي تؤكد أزمة الصناعة وتراجع نمط التنمية الجديد والتقسيم العالمي الجديد للعمل الذي بشرت به العولمة.

المؤشر الأول يهم تراجع الإنتاج الصناعي والصناعة بصفة عامة في السنوات الأخيرة ولئن عرف الإنتاج الصناعي تطورا هاما في الأشهر الأولى بعد الأزمة العالمية فلقد عرف تراجعا كبيرا في السنوات الأخيرة وأصبحت معدلات نمو الإنتاج الصناعي أقل من نمو الناتج الإجمالي الخام.

المؤشر الثاني أن تراجع الإنتاج الصناعي لم يقتصر على البلدان المتقدمة بل شمل كذلك البلدان الصاعدة كالصين والبرازيل والأرجنتين والتي شهدت تراجعا كبيرا في نسب نمو الإنتاج الصناعي والتي لم تعد في نفس معدلات بداية الألفية والتي جعلت من هذه البلدان القوى الاقتصادية الصاعدة.

كما تشير الدراسات كذلك إلى تراجع في تقسيم العمل وتوزيعه على المستوى العالمي في البلدان حسب ميزتها التنافسية وتؤكد المؤشرات عودة الاقتصاد العالمي إلى المرحلة الأولى من العولمة حيث تعمل الشركات إلى تحويل أنشطتها الصناعية إلى البلدان ذات الأسواق الكبرى أو القريبة من الأسواق الكبرى.

إذن تشهد الصناعة والسياسات الصناعية اليوم بعض التراجع مقارنة بالاهتمام الكبير والتطور الهام الذي عرفته في بداية الألفية بعد فترة تهميش كبرى إثر تبني توافق واشنطن وسياسات التعديل الهيكلي.

هذا التراجع في التصنيع في العالم لا يمكن أن يحبطنا أو يثنينا عن العزم بل يجب علينا أن نسرع في ضبط سياسة صناعية واستراتيجية للنهوض بالنشاط الصناعي ولدعم نسيج مؤسساتنا مما سيمكّن اقتصادنا من تحسين قدرتنا التنافسية ويدعم النمو والتشغيل وللأسف فإن بلادنا لم تحدد ولم تضبط نظرة استراتيجية لتطور القطاع الصناعي في السنوات الأخيرة وبقيت الصناعة والتي ساهمت بدور كبير في نمو بلادنا تفتقر إلى نظرة استراتيجية طويلة المدى ولا تتجاوز المبادرات التي يأخذها القطاع الخاص وهي على أهميتها تتطلب دعما هاما من لدن الدولة.

لقد حان الوقت لخوض نقاش عام مفتوح وبناء لضبط نظرة استراتيجية لآفاق النمو الصناعي في بلادنا وقد قامت عديد البلدان كالمغرب والسينغال وحتى فرنسا بضبط برامج ونظرة استراتيجية طويلة المدى لتطوير القطاع الصناعي. وهذا البرنامج لا بد له من تقديم إجابات واضحة وجلية على ثلاثة تساؤلات كبرى وهامة المسألة الأولى تهم التوجهات والأهداف الكبرى لبرنامج التصنيع في بلادنا للعشرية أو العشرين سنة القادمة وهذه الأهداف تدور حول ضرورة إعادة ديناميكية الإنتاج الصناعي ودعم نسيج مؤسساتنا وتوجيهه إلى القطاعات الواعدة والجديدة وذات المحتوى التكنولوجي العالي. المسألة الثانية تهم تحديد مجموعة القطاعات الصناعية الجديدة التي تتمتع فيها بلادنا بميزة تفاضلية كبيرة والتي ترتكز عليها جهودنا في السنوات القادمة أما المسألة الثالثة فتهم تحديد أهداف مرقمة من ناحية التشغيل ومساهمة الصناعة في الناتج الخام وفي الصادرات والتي يجب أن نحققها في السنوات القادمة.

لقد لعبت الصناعة دورا كبيرا في نمو اقتصادنا وتنوعه وكانت وراء النجاحات الاقتصادية التي حققناها في السابق والتي مكنتنا بالرغم من قلة إمكانياتنا من تبوؤ مرتبة اقتصادية محترمة على المستوى العالمي. وبالرغم من تراجع الاهتمام ودور الصناعة على المستوى العالمي فإنه لا بد لنا من تحديد نظرة استراتيجية لهذا القطاع في بلادنا ستكون العمود الفقري لنمط التنمية الجديد الذي نرنو إلى ضبطه. وتحديد هذه الاستراتيجية لا يمكن أن يكون بطريقة فوقية بل يجب أن يكون نتيجة لنقاش عام مفتوح يشارك فيه الخبراء والمختصون والقطاع الخاص والمؤسسات الدولية الداعمة حتى تكون الصناعة قاطرة دخولنا إلى عالم ما بعد الحداثة وعالم الابتكار والذكاء والاندماج الاجتماعي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115