قهوة الأحد: نحن والصين من أحلام الثورة إلى واقع المصالح الاقتصادية

تابعت زيارة الرئيس الصيني كسين جين بينغ إلى بعض البلدان العربية في نهاية شهر جانفي من هذه السنة. وكنت قررت الكتابة عن هذه الزيارة وبصفة خاصة عن تطور العلاقات بين الصين والبلدان العربية والتحول الكبير الذي أدخلته السلطات الصينية وانتقالها تدريجيا من وهج الثورة

ودعم حركات التحرر الوطني في البلاد العربية إلى واقعية الاقتصاد (*).

وهذا التحول صاحب التحول الكبير الذي عرفته الصين عند انتهاء الحقبة الماوية إثر موت ماوتسي تونغ ومحاكمة آخر مناصريه أو ما سمي في تلك الفترة عصابة الأربعة بقيادة زوجته ومرور الصين إلى تركيز نظام رأسمالي قوي بقيادة الدولة. هذه الثورة الاقتصادية التي قادها دينغ كسايو بينغ كانت وراء نهاية المرحلة السياسية الثورية والتي كانت تهدف إلى بناء نظام اشتراكي والمرور إلى مرحلة التغيير الرأسمالي كان هذا التحول وتغيير النظام السياسي فترة مخاض صعب لا فقط في الصين بل كذلك على المستوى العالمي حيث حاولت عديد البلدان والأحزاب السياسية الشيوعية أن تستلهم من الكتاب الأحمر الصغير لماوتسي تونغ والنموذج الصيني طريقا آخر في النمو الاقتصادي والسياسي بديلا عن جمود النمط السوفياتي. تركت نهاية الماوية في الصين العديد من المناصرين يتامى وجهّزت تحولهم إلى النظام الرأسمالي وفي بعض الأحيان إلى أكثر تعبيرات الليبرالية تطرفا.

اشترك في النسخة الرقمية للمغرب ابتداء من 25 د

إن المتابع لمحتوى هذه الزيارة والاتفاقيات التي تم إمضاؤها من طرف الرئيس الصيني في زياراته المختلفة يلاحظ هذا التطور وتأكيد الجانب الاقتصادي كجانب أساسي في العلاقات الصينية العربية. وقد زار الرئيس الصيني في هذه الرحلة ثلاثة بلدان هامة في منطقة الشرق الأوسط وهي مصر والمملكة العربية وإيران. وقد أصدرت الحكومة الصينية قبل أيام من هذه الزيارة وثيقة رسمية تؤكد فيها أهم التوجهات الاستراتيجية لسياستها العربية. وقد أكدت هذه السياسة على بعض المبادئ العامة كالتركيز على التنمية الاقتصادية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان واحترام سيادة البلدان ومن خلال تأكيدها على هذه المبادئ تريد الصين أن تشير بين السطور إلى اختلاف سياساتها عن السياسات الأمريكية والتي لا تتورع عن التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية.
وتندرج هذه العلاقات الجديدة بين الصين والعالم العربي في إطار ما يسميه الرئيس جين بينغ مبادرة «الحزام الاقتصادي لطريق الحرير ومبادرة طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين» وهذه المبادرة هي عبارة عن جملة من الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية وخاصة في الطرقات لتقريب الصين من البلدان الآسيوية الأخرى لتصل حتى أوروبا وإفريقيا عبر البلدان العربية.

وقد أشار الرئيس الصيني أن بلاده وضعت 55 مليار دولار على شكل قروض واستثمارات في البلاد العربية لبناء طريق الحرير خلال السنوات القادمة. وتتوزع هذه الاستثمارات على مشاريع في مجال البنية التحتية بــ 15 مليار دولار وقروض تجارية لدعم التعاون في مجال الطاقة بــ 10 مليار دولار وقروض تفضيلية بــ 10 مليار دولار إلى جانب صندوق استثمارات مع الإمارات وقطر بقيمة جملية بــ 20 مليار دولار وقد تم إمضاء عديد الاتفاقيات أثناء زيارة الرئيس الصيني لمصر والسعودية تتمحور كلها حول أهم الاختيارات الاقتصادية إلى جانب اتفاقيات التعاون العسكري والتي تبيع بمقتضاها الصين إلى عديد البلدان العربية عديد التجهيزات العسكرية والأسلحة المتطورة.

وهذه الاختيارات والاتفاقيات تؤثر على التوجهات الكبرى للتعاون الصيني العربي خلال السنوات المقبلة. فطريق الحرير الحديث سيساهم في تمكين الصين من الحصول على حاجياتها من المواد الأولية لدعم نموها مقابل دعمها للاستثمار في البلدان العربية وبصفة خاصة تزويدها بالسلاح لحماية أمنها في ظل تصاعد الإرهاب وتنامي الحروب وعدم الاستقرار السياسي.

وتشكل هذه السياسة والاختيارات الكبرى للتعاون الصيني العربي ابتعادا كبيرا عن الوهج الثوري والحماس السياسي الذي طبع هذه العلاقات منذ الخمسينات إلى حد نهاية السبعينات فقد تميزت هذه الفترة بمبادئ عدم الانحياز ومحاولة الصين إلى جانب عديد البلدان المستقلة حديثا بناء قطب عالمي بديل عن ثنائية الولايات المتحدة وحلفائها من جهة والاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية من جهة ثانية. وقد لعبت البلدان العربية القومية دورا هاما في هذا التحالف العالمي الجديد وبصفة خاصة مصر الناصرية.

إن العلاقات بين البلدان العربية والصين ترجع إلى مراحل تاريخية بعيدة وتواصلت مع الإسلام حتى أن بعض الشعوب كالهان دخلت إلى الدين الإسلامي مما دعّم العلاقات التجارية والاقتصادية والثقافية والسياسية إلا أنه يمكننا أن نشير أن علاقاتنا مع الصين ستشهد فترتها الذهبية على المستوى السياسي إثر وصول الحزب الشيوعي للسلطة وميلاد الجمهورية الشعبية سنة 1949. وستربط الصين علاقات جديدة مع البلدان العربية وستركز بصفة خاصة على البلدان التقدمية في تلك الفترة والأنظمة القومية كمصر وسوريا والعراق وستلعب مصر الناصرية مع الصين وإلى جانب بعض الأنظمة الوطنية الأخرى كأندونيسيا ويوغوسلافيا والرئيس تيتو دورا أساسيا في ميلاد مجموعة دول عدم الانحياز في مؤتمر باندونغ سنة 1955. وستعمل هذه المجموعة على الخروج من الاستقطاب الثنائي بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي وريثي الحرب العالمية الثانية وخلق قطب ثالث هدفه دفع التعاون بين البلدان النامية والمستقلة حديثا والضغط على القطبين لتجاوز خطر الحرب وبناء السلم العالمية. كما ربطت الصين علاقات ديبلوماسية مع بلدان المغرب العربي كالمغرب والجزائر سنة 1958 وتونس سنة 1964. وبقيت دول الخليج المساندة والمدعومة من القطب الرأسمالي خارج إطار العلاقات الدبلوماسية الصينية وعرفت هذه الفترة في إطار العلاقات الخارجية المساندة لحركات التحرر دعما هاما لكل فصائل الثورة الفلسطينية التي كانت تبعث كوادرها للتدرب على السلاح في الصين إلى جانب حصولها على الدعم المالي والعسكري. وقد دعمت الصين في أيام الثورة عديد الحركات من ضمنها جبهة تحرير ظفار والتي رفعت السلاح في تلك الأيام في وجه السلطان قابوس في عمان.

إلا أن هذه السياسة الخارجية الصينية تجاه البلدان بدأت في التغير منذ منتصف السبعينات وبداية التقارب بين الولايات المتحدة والصين فيما يسمى في تلك الفترة بديبلوماسية كرة الطاولة في إشارة إلى المباريات التي جمعت في هذه الرياضات بين فريقي البلدين واللذين كانا أحسن المنتخبات العالمية في تلك الأيام والتي فتحت الزيارات بين البلدين قبل أن تأتي الزيارة الرسمية لنيكسون لتفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.

وقد شهدت علاقات الصين بالبلدان العربية تطورا هاما في تلك الفترة وبدأت الصين علاقات ديبلوماسية مع عديد البلدان التي كانت محسوبة على المعسكر الغربي كالكويت سنة 1971 والأردن وعمان ولبنان. وسيتدعّم هذا التمشي في القطع مع الأحلام الثورية في العلاقات الديبلوماسية مع نهاية الماموية وبداية التركيز على الواقعية وخاصة الإصلاح الاقتصادي والانطلاق في مبادرات دعمت دور السوق في الديناميكية الاقتصادية. وقد شهدت فترة الثمانينات تطور الوجود الديبلوماسي الصيني في الخليج العربي وربط علاقات مع عديد البلدان قطر (1988) والإمارات (1984) والبحرين (1989).

منذ هذه الفترة وخاصة في التسعينات تعزز الجانب الاقتصادي في العلاقات والسياسة الخارجية للصين على حساب السياسة والمبادئ الثورية كما كان ذلك في السابق فقد بدأت الصين مرحلة نمو هامة في هذه الفترة ستجعل منها الآن أحد أكبر الأقطاب الاقتصادية في العالم وستواجه الصين تحديين هامين في إطار صعودها ونموها الاقتصادي ألا وهما فتح الأسواق لصادراتها ثم التزود بالمواد الأولية التي تفتقدها الصين.

وستتعزز هذه الاختيارات في إطار ما سمي باستراتيجية أو مبادرة الحزام الاقتصادي لطريق الحرير التي أطلقتها الحكومة الصينية وهي عودة إلى الطريق التجارية التي ربطت الإمبراطوريات الصينية بأوروبا والعالم الإسلامي. وتشمل هذه المبادرة الجديدة استثمارات ضخمة في ميدان البنية التحتية لتربط الصين بآسيا الوسطى وأوروبا وإفريقيا عبر المنطقة العربية. وقد جندت السلطات الصينية إمكانات ضخمة ووضعت طاقات هامة لإنجاز هذا المشروع والذي سيشكل تطورا هاما في الاقتصاد الدولي.

وقد جاءت زيارة الرئيس الصيني في نهاية شهر جانفي إلى بعض البلدان العربية للترويج وتقديم هذه المبادرة الجديدة وإيجاد الدعم الكافي لها لدى البلدان العربية إلا أنه وبالرغم من أهمية هذه المبادرة وانعكاساتها الاستراتيجية على بلداننا فإننا لليوم لم نشهد اهتماما بها لا على مستوى الرسمي أو على المستوى مراكز البحث والدراسات ويمكن أن نفهم بعض الانصراف والتهميش الذي تعرفه هذه المبادرة بالأزمة السياسية والحروب التي تعرفها المنطقة العربية منذ انطلاق ثورات الربيع العربي. إلا أنه لا بد لنا من إيلاء هذه المبادرة والدور المتصاعد للصين الأهمية التي يستحقها من النقاش والتفكير ولا بد لعملية التفكير هذه أن تأخذ بعين الاعتبار على الأقل ثلاث مسائل هامة الأولى أن صعود الصين وظهور طريق الحرير تشكل تطورا استراتيجيا هاما وقطيعة مع السائد بالأهمية التي شكلها ظهور الرأسمالية في القرن السابع عشر في أوروبا ونهاية الإمبراطورية الصينية والدولة الإسلامية والتي ستجعل من البحر الأبيض المتوسط الطريق الجديدة للاقتصاد العالمي عوضا عن طريق الحرير.

وهي كذلك بأهمية صعود الولايات المتحدة الأمريكية كالقوة الاقتصادية الأهم إثر الحرب العالمية الثانية وتقهقر فرنسا وأفول الإمبراطورية البريطانية والتي ستجعل من المحيط الأطلنطي الطريق الأهم للاقتصاد العالمي إن صعود الصين وظهور طريق الحرير الجديدة هي بنفس المستوى وتؤسس لعالم جديد ستكون الصين وآسيا بصفة عامة نقطة ثقله الجديدة.

المسألة الثانية والتي لا تقل أهمية عن الأولى وهي أنه لا بد لنا من أن نستفيد من هذا التطور في تنويع علاقاتنا الاقتصادية وحتى السياسية والتي بقيت حبيسة العالم الموروث من الحرب العالمية الثانية. إن هذه العلاقات وخاصة مع شريكنا الأوروبي أو العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية هي هامة وأساسية ولكن لا بد من تدعيمها بعلاقات هامة مع القوى الصاعدة.

المسألة الثالثة وهي أن العلاقات مع البلدان الصاعدة لا بد لها كذلك أن تساعدنا على رفع تحدياتنا الاقتصادية وبصفة خاصة على بناء نمط تنمية جديدة يتركز على قطاعات جديدة ذات كثافة تكنولوجية عالية. فالبلدان العربية لا يمكن لها أن تكون محطة في إطار طريق الحرير تقف فيها قوافل المواد الأولية قبل أن تواصل طريقها إلى الصين. بل لا بد لنا أن نجعل من هذا القطب الاقتصادي والتجاري الجديد عامل دفع للتحول الاقتصادي في بلداننا ولدفع النمو والتشغيل وبعث أمل جديد لا يستند إلى الأحلام الثورية كما كان السابق بل إلى إعطاء الفرصة للشعوب وبصفة خاصة للشباب في تحقيق أحلامهم بالتقدم والحرية والكرامة.

إن صعوبة وتحديات التحول الديمقراطي لا يمكن أن تغنينا عن ضرورة التفكير الاستراتيجي في التغييرات التي يشهدها العالم وكيفية الاستفادة منها في خدمة مصالحنا. وإن صعود الصين ومبادرة طريق الحرير الجديدة هي من فئة التحولات الكبرى التي تتطلب التفكير والتمحيص من اجل أن نستفيد من هذه التغييرات ونكون شركاء ومستفيدين من هذه التغييرات ولمَ لا لاعبين أساسيين ولا فقط متفرجين.

----------
(*) إلا أن عديد القضايا الأخرى شغلتني عن هذا الموضوع الهام ولم أتمكّن من الكتابة عنه من قبل.
تونس في 11 مارس 2016

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115