قهوة الأحد: هل وصلنا إلى نهاية العولمة؟

تخصص كبريات الصحف والجرائد في البلدان المتقدمة ملفات خاصة بالصيف لقرائها لمصاحبتهم في العطلة السنوية وتؤثث هذه الصحف ملاحقها الصيفية بمحتويات ومادة صحفية مختلفة عما تنشره طوال السنة وتراهن هذه الملاحق الصيفية على وجود أغلب القراء في عطلهم الصيفية

وبالتالي توفير مزيد من الوقت للمطالعة أو للترفيه على خلاف ما يمكن أن يخصصه للمطالعة خارج هذه الفترة وعندما يكون في أوج نشاطه المهني وتحاول الصحف الرد على هذا الطلب خلال ملاحقها الصيفية المختلفة ومصاحبة رغبات قرائها بمادة مختلفة خلال هذه الفترة.

وتؤثث هذه الصحف ملاحقها الصيفية بمحتويات مختلفة يلتقي فيها الجانب الفكري في مقالات تاريخية أو تحليلية في مواضيع مختلفة بالجانب الترفيهي كالكلمات المتقاطعة والألعاب وأخبار الرحلات والشواطئ والمعارض والبرامج الثقافية وغيرها.. وبدأت بعض صحفنا في اتباع هذه العادة وتخصص بعض الفضاءات للاحتفاء بالصائفة والعطلة وإهداء أو توفير مادة مختلفة لقرائهم.

أهتم شخصيا بهذه الملاحق الصيفية باعتبارها تقدم مادة تختلف عن بقية السنة وتبتعد عن المادة الإخبارية اليومية يبطن فيها الجانب التحليلي وقد تابعت باهتمام كعادتي الملاحق الصيفية لعديد الجرائد الكبرى في العالم كلوموند وليبيراسيون في فرنسا و«le temps» في سويسرا أو... في الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد تابعت هذه الصائفة الملحق اليومي لجريدة le Monde الفرنسية والذي أثثته بعديد المقالات في مجالات مختلفة وقد خصصت هذه السنة سلسلة من ستة مقالات لموضوع مهم وهو نهاية العولمة وبطبيعة الحال فإن هذا الموضوع ليس بجديد فقد بدأت بعض المجلات المختصة في الاهتمام به منذ مدة فالحديث والنقاش اليوم يحتلان مساحة والأفكار عن «العولمة السعيدة «globalisation heureuse» التي ستساعد في حل القضايا الاقتصادية وأزمات الدولة الوطنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية ودخلنا مجالا جديدا من النقاشات حول التخوفات من العولمة ودعوة العديد من القوى السياسية للخروج من العولمة التي فشلت في حل عديد القضايا وأكبر دليل على ذلك هو التصويت البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي أو البريكسيت والرجوع إلى الدولة الوطنية.

وظهور هذا النقد وتراجع النظرة المتفائلة والإيجابية للعولمة يشكل تطورا هاما وقطيعة مع النظرة التي كانت سائدة لفترة طويلة حول العولمة وقدرتها على حل الأزمات المتتالية والمتعاقبة للدولة الوطنية ولنظام الاقتصادي الموروث من الحرب العالمية الثانية. وهنا يمكن

الإشارة إلى مرحلتين هامتين في النظرة للعولمة عند تطورها. العولمة طبعا ليست وليدة اليوم بل ارتبطت بالتطور الاقتصادي إذ سعت أغلب الدول إلى تجاوز حدود الاقتصاديات الوطنية وعملت على تطوير مبادلاتها التجارية واستثماراتها لتطوير اقتصادياتها وتمكين مؤسساتها من تحقيق أرباح هامة. كما ساهم الجانب السياسي في تطور العولمة والتي لم تكن تقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب فقد سعت الدول الكبرى إلى تقوية تأثيرها على العالم وعولمة سيطرتها وهيمنتها ويمكن الإشارة إلى عوامل أخرى كالثقافة والعلم والتكنولوجيا والأديان والتي ساهمت إلى جانب الاقتصاد والسياسة في ولادة وتغذية فكرة تجاوز الدولة القومية والتوجه إلى العالم وجعله مجالا أرحب وأوسع لتطور حركة التاريخ.

إلا أن نقطة الانطلاق الحقيقية للعولمة تعود في رأيي إلى نهاية السبعينات والتي عرفت أزمة اقتصادية خانقة للنظام الاقتصادي والسياسي المرتكز على الدولة الوطنية والموروث من الحرب العالمية الثانية وقد عرفت هذه الفترة تطورا كبيرا للتجارة الدولية والشركات العابرة القارات والاستثمارات الخارجية وقد ساهمت هذه التطورات في إضعاف دور الدولة الوطنية وصعود العولمة.

وقد شهدت العولمة تطورا هاما وأصبحت المحرك الحقيقي للاقتصاد العالمي وديناميكيته إثر سقوط جدار برلين سنة 1984. وستعرف هذه الفترة تطورا هاما في المبادلات التجارية وصعودا كبيرا للاستثمارات الخارجية. كما ستشهد أغلب الاقتصاديات العالمية نسقا هاما في فتح الأسواق وتحريرها وخاصة الأسواق المالية العالمية. وقد عمت حركة العولمة بظهور التكنولوجيات الحديثة وحركة الانترنت والشبكات الاجتماعية ليصبح العالم بمثابة القرية الصغيرة.

وقد عرفت هذه النظرة والقراءة لواقع العولمة فترتين متباينتين هيمنت خلال الفترة الأولى الممتدة من سقوط جدار برلين إلى بداية الألفية نظرة ترى أن العولمة هي نتاج تطور النظام الرأسمالي وبالتالي ستكون البلدان المتقدمة والبلدان الثمانية الكبار هي المستفيد الحقيقي من العولمة. وقد عرفت هذه الفترة نقدا كبيرا للعولمة من البلدان النامية ومن الحركات الاجتماعية وتخوفا كبيرا من نتائجها الاقتصادية والاجتماعية. وقد اعتبر الكثير من المحللين والكتاب أنه على خلاف تحاليل وقراءات الدوائر المالية الكبرى والمؤسسات الدولية فإن العولمة ستزيد من حدة الفوارق ومن عمق المدة بين البلدان النامية والبلدان المتقدمة.

وعرفت هذه النظرة تطورا كبيرا منذ بداية الألفية فأصبحت البلدان المتقدمة هي التي تنقد العولمة ونتائجها وهذا التغيير في النظرة حصل نتيجة التطور الكبير الذي عرفته بعض البلدان النامية في هذه الفترة كالصين والهند وإفريقيا الجنوبية والبرازيل لتصبح البلدان الصاعدة ولتحتل موقعا متقدما في حركة التجارة الدولية والاستثمارات العالمية.

وقد قامت البلدان المتقدمة بنقد كبير للبلدان الصاعدة واعتبرت أنها لا تحترم قواعد اللعبة الاقتصادية وحتى المبادئ الأخلاقية من خلال تشغيلها للأطفال ومساهمتها الكبيرة في ارتفاع الحرارة المناخية وقد لعبت الدول المتقدمة دورا مهما في إيقاف وتعطيل بعض المفاوضات الدولية كاتفاق الدوحة للتجارة الدولية إلا أنه وبالرغم من النقد الكبير من البلدان المتقدمة فقد ساهمت العولمة في تغيير جذري لموازين القوى العالمية لتصبح البلدان الصاعدة لاعبا مهما وكبيرا في حركة التجارة الدولية وحركة رأس المال. وقد تأكد هذا الدور أكثر إثر الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية لسنوات 2008-2009 لتصبح البلدان الصاعدة قاطرة الاقتصاد العالمي ولتلعب دورا كبيرا في تخفيف حدة الانكماش الاقتصادي وتساهم بصفة أساسية في دفع النمو العالمي.

إلا أن النظرة للعولمة تغيرت من جديد لتفتح مرحلة أخرى يغلب فيها الحديث عن نهاية العولمة وصارت نهاية العولمة الشغل الشاغل لعديد المفكرين والباحثين والخبراء لتهيمن التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعادية لحركة العولمة وفتح الحدود والأسواق.
التطور الأول والهام والذي أثّر على حركة العولمة هو صعود الحركات الشعبوية السياسية والتي تؤكد على عودة الحدود والدولة الوطنية ومن الناحية الفكرية تناهض هذه التيارات الفكرية والسياسية فكرة الاختلاط «cosmopolite» والتي شكّلت جوهر البرنامج الفكري للعولمة وتدافع هذه التيارات عن ضرورة الحفاظ على نقاوة الجذور وحمايتها من الاختلاط ولعل أهم صورة تعبر عن هذه الفكرة هي عودة الجدار لمنع الاختلاط. فلئن اقترن العصر الذهبي للعولمة بسقوط جدار برلين فإن تراجعها وتنامي فكرة الخوف من الآخر والحفاظ على نقاوة الجذور ارتبط بظهور هذه الفكرة من جديد وبناء الجدار في إسرائيل لفصل الشعب الفلسطيني عن أرضه كما نادى المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية دولاند ترامب بضرورة بناء جدار برلين لفصل الولايات المتحدة عن المكسيك كما يمكن كذلك الإشارة إلى نتائج التصويت البريطاني في الاستفتاء الأخير المناهض للبقاء في الاتحاد الأوروبي والذي كان فرصة للتعبير بطريقة واضحة عن رفض الانخراط في حركة العولمة ودعوة إلى العودة لحدود الدولة الوطنية.

هكذا إذن عرفت أفكار الاختلاط والانفتاح على الآخر تراجعا هاما في السنوات الأخيرة وبالمقابل عرفت الدولة الوطنية والسيادة والحدود والجدران العازلة تطورا هاما وحملت ودافعت التيارات السياسية الشعبوية والحركات الحاملة لراية الهوية عن هذه الحرية الفكرية الجديدة مما أدى إلى بروز فكرة التقوقع داخل الحدود والدوائر الوطنية ورفض والنأي عن العولمة وعن تجارب الانفتاح.

ولم يقتصر تراجع ونهاية العولمة على الجانب السياسي والفكري بل شمل كذلك الجوانب الاقتصادية فقد عرفت التجارة الدولية وحركة السلع تراجعا لما كان عليه دوره في العصر الذهبي للعولمة. فلئن عرفت حركة المبادلات تطورا كبيرا ونموا فاق نموا الناتج الخام منذ سقوط جدار برلين فإنها شهدت تراجعا كبيرا منذ بداية الألفية وقد كان تطور التجارة الدولية نتيجة للإصلاحات الليبرالية التي عرفها العالم في بداية الثمانينات مع صعود المرأة الحديدية تاتشر للسلطة في بريطانيا ورونالدريغان في الولايات المتحدة والتي نتج عنها فتح الأسواق العالمية والانخفاض في أسعار النقل العالمي وتسريع حركة البواخر في الموانئ العالمية كما ساهمت عملية التقسيم العالمي للإنتاج في دفع حركة التجارة الدولية.

إلا أن هذه الفترة الأولى انتهت وعقبتها فترة جديدة بدأت منذ السنوات الأولى للألفية والتي شهدت تراجع ديناميكية التجارة الدولية وهذا التراجع مرتبط بأسباب ظرفية وأخرى هيكلية نذكر منها تراجع الاستثمار والنمو العالمي بعد الأزمة الاقتصادية العالمية وهشاشة المؤسسات المالية والبنكية العالمية والتي فقدت قدرتها على تمويل التجارة الدولية وكذلك تراجع القطاعات الصناعية لحساب قطاع الخدمات.

إلى جانب حركة السياسة والاقتصاد يمكن لنا إضافة مؤشرات أخرى تشير إلى أزمة العولمة ومن هذه المؤشرات يمكن أن نبرز نمو الفوارق الاجتماعية وبروز التفاوت الاجتماعي بين الفئات الاجتماعية كما يمكن لنا كذلك الإشارة إلى صعوبة الوصول إلى اتفاقيات دولية فيما يخص ارتفاع حرارة المناخ واتفاق التجارة الدولية للدوحة والذي تخبط فيه منظمة التجارة الدولية منذ سنوات.

هذه بعض أمثلة يمكن أن نضيف لها أمثلة كثيرة أخرى لنؤكد الأزمة الكبرى التي تمر بها العولمة والتي اعتبرها الكثير تطورا هاما ومشروعا إنسانيا جديدا للخروج من أزمة الدولة الوطنية وقد كان مشروع العولمة يسعى إلى بناء عالم جديد يرتكز من الناحية الفلسفية على فكرة التعدد والانفتاح على الآخر والتوازن والالتقاء «convergence» الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وكان هذا عالم ما بعد الحداثة والتي تعمل على الخروح وتجاوز أزمة «الحداثة المستبدة» التي دخل فيها العالم منذ ثورة الأنوار في أوروبا.

إلا أن هذا المشروع يعرف أزمة حادة اليوم وهي تعبير عن الأزمة السياسية العميقة التي يمر بها عالمنا والتي كانت وراء ظهور وتنامي العنف والخوف من الآخر والرجوع إلى قارة الجذور. وكل هذه الأفكار لن تزيد العالم إلا ألما وعنفا ومآسي.
إن هذه الأزمة لا بد أن تدفع القوى الفكرية والسياسية إلى استنباط مشروع فكري وسياسي جديد قادر على بناء حلم جديد وأمل بتحقيق تعايش مع الآخر وتنمية واندماج اجتماعي وحماية المناخ والأرض التي تشكل إرثنا المشترك. وهذا المشروع لن يكون وطنيا بل سيعمل على بناء عولمة جديدة هدفها الاختلاط وفتح عالمنا على الآخر وآماله وأحلامه.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115