Print this page

جولة في عالـم متقلّب

كانت لي عديد النقاشات والحديث مع الصديق الراحل مؤخرا الأستاذ عبد القادر الزغل أب العلوم الاجتماعية في تونس والذي كان له تأثير كبير على تطور العلوم الاجتماعية في العالم العربي وفي إفريقيا من خلال مشاركاته في نشاطات مركز تنمية العلوم الاجتماعية في

إفريقيا (codesria) والذي أسسه الاقتصادي المصري د. سمير أمين حول البدايات الأولى ونشأة هذا المجال المعرفي في بلادنا. وإلى جانب عديد الأصدقاء كنا شجعنا الصديق عبد القادر على كتابة مذكراته وقراءته للبدايات الأولى ومرحلة التأسيس للعلوم الاجتماعية في بلادنا. ولئن ترك لنا بعض النصوص حول هذه المسألة فإن المنية لم تمهله لإنجاز هذا المشروع الهام. هذه فرصة لدعوة الآباء المؤسسين لمختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية في ربوعنا ومنهم الأستاذ الشاذلي العياري في الاقتصاد السياسي والأستاذ عبد الجليل التميمي وآخرون في العلوم التاريخية والأستاذ خليل الزميطي في العلوم الاجتماعية لأخذ بعض الوقت لكتابة وتأريخ تطور ميادينهم في بلادنا منذ البدايات الأولى إلى يومنا هذا وليطرقوا كذلك بعض آفاق التطور الممكنة. وهذا بطبيعته عمل ضخم يتطلب دعما هاما ولعل مؤسسة بيت الحكمة هي الإطار الذي يمكنه رعاية ودعم هذا العمل.

أعود إلى الصديق عبد القادر الزغل ومن بين القصص التي رواها لي حول البدايات الأولى للعلوم الاجتماعية هي رفض الرئيس بورقيبة بعث معهد للعلوم السياسية على غرار معاهد العلوم السياسية في فرنسا والتي تعتبر من أرقى وأهم المعاهد هناك أو خلق مسار جامعي لدراسة العلوم السياسية كما في العالم الأنقلوسكسوني. وبقيت بلادنا إلى يوم الناس هذا بدون معاهد أو جامعات مختصة في التكوين في ميدان العلوم السياسية.

وهذا النقص كان له تأثير على مستويين على الأقل. المستوى الأول هو تكوين أخصائيين وكوادر عليا في الدولة متشبعة بالعلوم السياسية وقادرة على تحمل مسؤوليات عليا وبصفة خاصة في الشؤون الخارجية. وإن كان الجيل الأول من مسؤولي دولة الاستقلال في الشؤون الخارجية وبصفة خاصة سفرائنا تكوّن عدد كبير منهم في المدارس المختصة في العلوم السياسية في فرنسا وغيرها فإن الأجيال الجديدة أتت من مشارب مختلفة ومتعددة منها الدراسات القانونية والتاريخية وحتى اللغوية.

الجانب الثاني لغياب تكوين ودراسات العلوم السياسية في بلادنا هو فقدان تقاليد لفكر استراتيجي تونسي ولئن تمكنت الديبلوماسية التونسية في السنوات الأولى للاستقلال من ضبط رؤية استراتيجية وثوابت قامت عليها مواقف بلادنا في العلاقات الدولية وتحالفاتنا وصداقاتنا فإن غياب هذه التقاليد جعلت بلادنا تعرف عديد الصعوبات والتحديات لتطوير نظرتنا الاستراتيجية وأخذ بعين الاعتبار التقلبات والتغييرات الكبيرة التي عرفها العالم منذ سقوط جدار برلين وتنامي العولمة والعنف والإرهاب.

أشير لهذه الملاحظات لأقدم بعض الدراسات التي تحاول فهم التقلبات والثورة التي يعرفها العالم والعلاقات الدولية منذ بضع سنوات. وكنت قدمت منذ بضعة أسابيع كتاب هنري كيسنجر بعنوان «L’ordre du monde» والصادر منذ أيام.

أريد الوقوف اليوم على كتاب آخر وتقليد مختلف في العلاقات الدولية وهذا الكتاب هو لأستاذ العلاقات الدولية المعروف Bernard Badie وهو بعنوان «Nous ne sommes pas seuls au monde un autre regard sur l’ordre international » أي «لم نعد وحيدين في العالم، نظرة أخرى للنظام العالمي». والكاتب بادي يعد من أهم المفكرين والكتّاب في العلاقات الدولية والعلوم السياسية وقد أصدر العديد من الكتب طالعت بكل شغف جلها لأني أعتبره منذ أن اكتشفته في منتصف السنوات الثمانين إلى جانب الأستاذ Jean Français Bayart أهم المفكرين على الإطلاق في العلوم السياسية الفرنسية وقد كان لجل إصداراته وقع هام في النقاش العام وأثارت جدلا كبيرا في الساحات الفكرية في فرنسا وفي العالم باعتبار أن كتبه تقع ترجمتها بسرعة إلى عديد اللغات الأخرى. وهنا أودّ الإشارة إلى كتابين فقط كان لهما تأثير كبير في دراسة الدولة ومؤسساتها في بلدان العالم الثالث وهما «L’Etat importé» أو «الدولة المستوردة» والذي تم نشره سنة 1992. وقد اهتم بادي في هذين المؤلفين بفشل دولة الاستقلال في تحقيق التنمية والديمقراطية واعتبر أن هذا العجز ناتج عن استيراد الدولة الحديثة من الخارج مما جعل مؤسساتها ضعيفة لأنها ليست نتاج التطور الداخلي لهذه المجتمعات وتبقى الحداثة أو التحديث الذي حاولت القيام به غير نابع من تطور داخلي لهذه المجتمعات وبالتالي بقيت مؤسسات الدولة الحديثة المستوردة هشة واقتصرت عملية الاستيراد لمشروع الحداثة على برنامج التحديث المستبد.

وأن اخترت الحديث في هذا المقال عن هذا الكتاب بعد أن قدمت كتاب كيسنجر منذ أسابيع فلأن المفكرين يمثلان مدرستين مختلفتين في العلاقات الدولية. فالمدرسة الأمريكية والأنقلوسكسونية بصف عامة هي مدارس براغماتية هدفها الأساسي هو فهم العالم وتحديد تحدياته لتحسين حوكمته وإدارته.

أما المدرسة الفرنسية فهي تختلف اختلافا جذريا عن المدرسة الأمريكية باعتبار انخراطها في المدارس الفكرية الفرنسية والتقليد النقدي الذي وظفه كبار المفكرين الفرنسيين كسارتر (sarte) ومرلوبونتي (merleauponty) وغيرهما والتي كانت وراء شهرة المفكرين الفرنسيين والمدرسة الفرنسية في العالم وخاصة في الجامعات الأمريكية وقد غذت هذه المنهجية النقدية والتي تسعى إلى إبراز المسكوت عنه ولا تقف عند الظاهر بل تحاول الاهتمام العميق بالظواهر الاجتماعية في كل العلوم الإنسانية والاجتماعية.

وقد تأثرت المدرسة الفرنسية في العلوم السياسية بهذه التقاليد الفكرية وهذه المنهجية التقنية. ويعتبر برنراد بادي أحد أهم ممثليها ونجد في كتاباته تجسيدا لهذه التوجهات والاختيارات وينطلق في مؤلفه الجديد «لم نعد وحيدين في العالم» من الفوضى الدولية وغياب أدنى معالم الوحدة والنظام في العلاقات الدولية. ولئن يؤكد المفكر صعوبة فهم وقراءة هذه الفوضى والأزمات التي يشهدها عالمنا فإنه يؤكد على فشل وعدم قدرة الدراسات والبحث في العلوم السياسية على تحليل هذه التحولات الكبرى مما يتطلب مزيدا من الجهد لتجديد أدوات ومنهجيات البحث والاستقصاء.

ولفهم الفوضى ونهاية النظام الدولي القديم يقترح علينا المؤلف العودة إلى بداياته والتي تنطلق من (اتفاقيات وستفالي) (les traités de westphalie) والتي تم إمضاؤها في 24 أكتوبر 1648 لإنهاء ما سمي بحرب الثلاثين سنة والتي جمعت البروتسان والكاثوليك وأغلب القوى الأوروبية في ذلك الوقت.

وكانت هذه الاتفاقيات نقطة انطلاق ما سيعرف لاحقا بالنظام الدولي ومنذ ذلك الوقت ستصبح الدولة الوطنية هي الركيزة الأساسية للعلاقات الدولية وسيرتكز النظام العالمي على ثلاث مبادئ أساسية وهي السيادة والتي تسمح لكل دولة وطنية بتأكيد سيادتها ضمن حدودها وتمنع أي تدخل أجنبي ضمن هذه السيادة.

المبدأ الثاني هو مبدأ «territorialité» أو الحدود التي يطبق في داخلها مبدأ السيادة والذي لا يمكن لأي دولة أخرى تهدديها ويجب بالتالي على كل الدول احترامها. أما المبدأ الثالث فهو مبدأ المفاوضات الدولية والتي تعتبر الطريق الوحيد لحل الاختلافات بين البلدان والدول.

ويؤكد المؤلف أن العالم عاش على هذه المبادئ لفترة أكثر من ثلاثة قرون وتمكن النظام العالمي من إعادة إنتاج نفسه ويشير الكاتب في دراسته إلى أن عالم العلاقات الدولية عرف فترات هيمنة وتحول من الهيمنة البريطانية في القرنين الثامن والتاسع عشر إلى الصعود الأمريكي في بداية القرن العشرين ثم الحرب الباردة ثم الهيمنة الأمريكية إثر سقوط جدار برلين انتهاء بالفوضى الحالية التي يعرفها العالم وحالة اللانظام.

ولعل أهمية هذا المؤلف وهذه الدراسة تكمن في القراءة النقدية للنظام العالمي وتحديد مواطن الخلل فيه ويمكن لنا أن نبرز ثلاثة مواطن ضعف أساسية في النظام العالمي والتي شكلت على مدى تاريخه مراكز عدم استقرار دعمت هشاشته.

المسألة الأولى هي مبدأ المنافسة بين الدول والتي انبنى عليها النظام الدولي وهذه المنافسة هدفها بناء هيمنة الدول على النظام العالمي وقد كانت هذه المنافسة وراء الحروب والعنف الذي عرفه العالم والذي كان قاب قوسين أو أدنى من تدميره.

المسألة الثانية وهي تخص غياب المجتمعات في العلاقات الدولية والتي اقتصرت على العلاقات بين الدول ولم تفسح أي مجال للحركات الاجتماعية وللمجتمعات للتعبير عن آرائها واختياراتها.

أما المسألة الثالثة فهي رفض الآخر وتجاهله في العلاقات الدولية. فكانت هذه العلاقات الدولية تقتصر على العلاقات بين الدول الأوروبية المتقدمة ولم يكن حظ الآخر سوى الاستعمار والتهميش والاحتقار والعنف وقد حاولت دول العالم الثالث رفض هذا المنطق الاستعماري للعلاقات الدولية ومحاولة التصدي له فكانت الحروب الوطنية ضد الاستعمار ثم جاءت محاولات إنهاء الهيمنة الاستعمارية بعد الاستقلال من خلال التنمية والتحديث والحياد من خلال حركة عدم الانحياز انتهاء بظهور حركة البلدان الصاعدة في السنوات الأخيرة.

مواطن الخلل الثلاثة هذه لعبت دورا كبيرا في أزمة النظام العالمي كما يجب الإشارة كذلك إلى العولمة الاقتصادية والتي قوضت ركائز الدولة الوطنية كما يجب التذكير بدور التكنولوجيات الحديثة والشبكات الاجتماعية (réseaux sociaux) في الدور الكبير لحركات المجتمع المدني في العلاقات الدولية.

يعيش النظام الدولي أزمة عميقة اليوم وتختلف النظرة في طرق الخروج من هذه الأزمة فلئن يرى كيسنجر حامل لواء الديبلوماسية الأمريكية أن الخروج من هذه الأزمة لن يكون إلا في لقاء القوى الصاعدة حول الدور القيادي لأمريكا فإن برتراند بادي المدافع عن المدرسة النقدية الفرنسية يرى أن الخروج من هذه الأزمة يمر عبر إدماج المهمشين في النظام الوستفالي أي الحركات الاجتماعية والآخر.

وتبقى بلادنا وعديد البلدان الأخرى مهمشة في هذا النقاش العالمي حول العلاقات الدولية نظرا لغياب تقاليد الدراسات السياسية. ونعتقد أنه آن الأوان اليوم في فترة التحول الديمقراطي لبناء تقاليد في العلوم السياسية في بلادنا تعيننا على فهم تعقيدات الوضع العالمي وضبط الاستراتيجيات والسياسات الضرورية للاستفادة منه.

المشاركة في هذا المقال