على قلق كأنّ الريح تحتها توجّهها جنوبا أو شمالا: حركة النهضة والاغتيالات السياسية

عذار للمتنبّي لأنّي حرّفت بيته الشعريّ.. فقد سيطر على تفكيري وأنا أتابع أمس دفاع النهضة عن نفسها.. وعن تهمة مسؤوليتها في قتل الشهيدين.. كانت لحظة هامّة انتظرناها منذ 2013. فالنهضة لاذت بالصمت رغم أصابع الاتهام التي وجّهها لها المجتمع بجلّ أطيافه

ورغم إدانة الجبهة الشعبية لها. قامت سياستها طيلة ثلاث سنوات على الصمت، وكأنّها اختارت أن تكون في هذين القضيتين خارج السرب، بل بلغ بها التحكّم في النفس أن أغمضت عينيها وصمّت أذنيها في وجه الشعارات التي ولّدها المجتمع لإدانتها.. وها نحن اليوم وبقدرة قادر نعيش لحظة انحلال عقدة لسانها.. هي لحظة مفعمة بالرمزية لأنّها بداية الطريق الذي سطّره الإخوان لأنفسهم في إخراج السياسي عن الدعوي. وعلى هذا الأساس كان خطابهم سياسيّا محضا. ويجوز لنا أن نحلّله من منطلق سياسيّ بحت.
استوقفنا من حديث الإخوان أمس نقاط ثلاث:

 

1 - لئن كانت جلسة أول أمس لمساءلة وزير العدل في ملفّي الشهيدين فإنّ الجماعة خرجوا عن الموضوع، واعتبروها جلسة لمساءلتهم هم وليس وزير العدل. وإن دلّ هذا الضياع عن شيء فهو يدلّ على حيرة الإخوان وخوفهم من الحديث عن مسألة تحرجهم. وذلك لوعيهم بأنّ مسؤوليتهم ثابتة بنسبة تقلّ أو تكثر بحسب المقاربة. وعلى هذا الأساس كان جلّ من تدخّل منهم من المحامين والمحاميات، انبروا للدفاع عن فرقتهم، حتى خيِّل للسامع أنّه بقاعة محكمة وليس بقبّة المجلس. فكان من الأجدر أن نخصّص جلسة لمحاورة النهضة لا الوزارة. كما لفت نظرنا مسألة هامّة، وتتمثّل في أنّ النهضة وحدها هي من وقفت للدفاع عن سياسة وزارة العدل فيما ارتأته طريقة في التعامل مع ملفّي الشهيدين ، لتستنتج أنّ جميع الأبحاث مكتملة الجوانب وتتّسم بالموضوعية والحيادية. وهذا يثير في المتابع حيرة: هل إنّ السيد البحيري سطّر منهجا في التعامل مع ملفّ الشهيدين عندما كان وزيرا للعدل؟ وهل نفهم من موقفه اليوم أنّه راض على عمل وزارة العدل؟؟ فلجميع ما ذكرت كنت أستمع إلى الإخوان وأن أردّد قولة المتنبّي: «على قلق كأنّ الريح تحتي...».

2 - يبدو أنّ الجماعة استعدّوا لجلسة أمس أيّما استعداد.. بل أذهب إلى أنّهم تلقّوا دروسا نظرية في كيفية مقاربة القضيّة.. وأذهب أبعد من هذا للقول بأنّهم تلقّوا تعليمات، لا أدري من أين، باتباع محاور معيّنة في الدفاع عن الفرقة.. وهي محاور واضحة، لأنّها عرضت بطريقة ساذجة، ويمكن أن أذكرها لكم: قضية الشهيدين هي قضيتهم هم، لا متاجرة بدماء الشهيدين، زعماء النهضة مستهدفون أيضا مثل غيرهم من أبناء الشعب، التذكير بمعاناتهم زمن بورقيبة وبن علي، العريض حكم عليه بالإعدام مرتين زمن بورقيبة وزمن بن علي، أنّ النهضة زمن حكمها وضعت الخطوط الأساسية لمعالجة الملفّين، أنّهم كانوا في « سنوات الجمر» أصدقاء للشهيدين، وكلّ له تجربة خاصّة مع الشهيدين، ونتيجة لذلك فعلاقتهم بالشهيدين هي أعمق بكثير من علاقة الجبهة بهما، وقضية بلعيد والبراهمي هما قضيتان أساسيتان بالنسبة إلى النهضة، ولا بأس في التأكيد على هذه النقطة وسحب البساط من الجبهة ولم لا من عائلتي الشهيدين.

وتلك هي المحاور التي دارت عليها مداخلاتهم، وكان وفاؤهم لها دافعا لنا مرّة أخرى إلى استحضار بيت المتنبّي كاملا، بل إلى الاستنتاج بأنّ خطابهم كان يدور مثل « جمل الناعورة» فبدا عاريا من الصدق، بليدا ، بمعناه العربي ومحدودا، وكم كان ليكون ناجعا لو اختاروا نائبا واحدا فيستعرض هذه المحاور، ويجتنبون التكرار المثير لحفيظتنا نحن عين هذا المجتمع ، ويبتعدون عن هذا الصنف من الخطاب الأجوف المنتفخ هواء، خاصّة أنّهم كانوا يتلفّظون به دون أن يؤمنوا بمعانيه. ولذلك لعبت بهم الألفاظ ووجّهتهم جنوبا وشمالا.

3 - رغم وفاء الجماعة لما تلقّوه من درس نظري فإنّ للشعور الباطني، في أحيان كثيرة، دورا في رسم شخصية المتحدّث. وهذا ما حصل في مداخلات الإخوان والأخوات. ويكفي أن نقف عند مسألتين أعتبرهما من الثوابت في الشخصية النهضاوية. وهما: الاسترسال في نفي كلّ مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة في ذنب اقترف أو خطإ ارتكب. و لذلك تبرّأ الجماعة من كلّ التهم التي يوجّهها المجتمع لهم منذ خمس سنوات: من ذلك تهمة سياسة اللين مع الإرهابيين، والتستّر عليهم واجتناب متابعتهم منذ البدايات، بل ذهب ببعضهم إلى اعتبار ما نشاهده اليوم من عنف قائم على الدين هو صنيعة بن علي، وأنّهم فيما عاشوه في فترة حكمهم ضحايا مثلنا. وصار اسم بن علي شمّاعة يضعون عليها كلّ شيء.

أمّا المسألة الثانية فهي الأخطر في نظري، لأنّها تبيّن لنا بالحجّة أنّ الجماعة على مبادئهم الأولى ولا يمكن بأي حال القول بأنّهم تغيّروا. وأبيّن ذلك: ورد في عبارة النائب البحيري عبارة ، لا أعتقد إن كان انتبه إلى مقاصدها،» ما ثماش اخطر من انسان يقتل انسان بدون سبب». وذلك في سياق تنديده بالعمليات الإرهابية التي عشناها. ولعلّ الخطر البليغ في العبارة « بدون سبب»، وهنا أقول للسيد البحري: كنت بليغا بهذه العبارة. ثمّ هل يوجد قتل غير مبرّر؟ فأقوى تبرير لأية عملية قتل هو الإبادة واستيلاب الحياة من شخص له الحقّ في أن يعيش مثلك. ثمّ تعال نتناقش في الأسباب التي تسمح لك بقتل إنسان مثلك: الاختلاف في الرأي؟ أم في العقيدة؟ هل إنّ من ينكرك حاكما يشرّع لك قتله؟ وعلى هذا الأساس يحلّ لك سيّدي ان تبيد المجتمع كاملا بنسائه ورجاله ولكلّ منهم سبب يدفعك ويبرّر صنيعك. أعلم أنّك تنطلق في هذه العبارة من موقف فقهي مأثور عن علي بن أبي طالب يقرّ فيه « بجواز قتل ثلثي الأمة لصالح الثلث». وعندئذ تبرهن لنا أنّك بقيت أسير الدعوي حتى وإن كنت في خضمّ المقالة السياسية. وحذار قد يذهب البعض إلى تأويل أنّ ما أُثِر من مواقف الشهيدين تحمل الدلائل على جواز قتلهما. وتكون بذلك قد أهدرت جميع مجهودات فرقتك في الدفاع عن أنفسكم.

ولجميع ما ذكرت كان النهضاوية امس أبطالا تراجيديين والريح تقلقلهم .. ترميهم مرّة شمالا وأخرى جنوبا و تقذف بهم مرّة يمينا وأخرى يسارا... فكانوا من الراسبين في امتحانهم الأوّل في فصل الدعوي عن السياسي. ونحن ننتظر منهم مزيدا من العزم ومضاعفة المجهود.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115