وصار لحمامة النهضة جناح دعوي وجنيح سياسي

ركّز الجميع في مؤتمر حركة النهضة على نقطة واحدة، وعليها بنوا مقالاتهم وتحاليلهم السياسية، وهي إعلان الحركة عن فصل الدعويّ عن السياسيّ، أو الإعلان عن مرحلة « التخصّص» . فمن شاكّ في مصداقية هذا التصريح إلى مهلّل بالتوجّه الجديد القاطع مع

الأصول . ويقتضي منّا الأمر ، حتى نفهم مقاصد مشروع حركة النهضة « الجديد ؟» أن نعود إلى الأصول التي قام عليها المشروع الإخواني، والذي سطّر خطوطه الدقيقة في أتمّ تفاصيلها زعيمهم الأوّل وباعث الحركة الإخوانية حسن البنّا.

فمنذ ثلاثينات القرن الماضي صاغ البنّا عقدا بينه وبين كلّ من ينتمي إلى هذه الحركة، ويجدر التنبيه إلى أنّ الدعويّ في حركة الإخوان هو روح الحركة وقلبها النابض ، وبدونه يفقد الإخوان كلّ معنى لوجودهم. لذلك تجدهم ينظرون إلى هذا العقد باعتباره دستور الجماعة، ويضبط المراحل التي عليهم اتباعها في مشروعهم الدعوي. وهي محصورة في ثلاث:

1 - مرحلة الخواطر: ويعبّر عنها البنا بأنّها لا تتجاوز مرحلة المبادرة الشخصية لا غير» وقد تظهر في شكل دعوة فردية أو خطابة وعظية أو درس في المساجد إذا سنحت فرصة التدريس، أو حث لبعض الأصدقاء من العلماء على بذل الهمة ومضاعفة المجهود في إنقاذ الناس وإرشادهم إلى ما في الإسلام من خير» (رسالة المؤتمر الخامس).

2 - مرحلة التنظيم: أي مرحلة تجسيم الأفكار في منظّمة، وهي أن «نعاهد الله على الجندية التامة في سبيلها تحت اسم (الإخوان المسلمون) وكان ذلك في ذي القعدة سنة 1347هـ» (رسالة المؤتمر الخامس).

3 - التدرج والمراحل: وهذا هو مفهوم الحركية في هذا التنظيم، إذ يخضع إلى عدة مراحل متدرجة ومتداخلة أو متوازية ديناميكياً خلال الزمن. وفي هذا السياق يلخّص البنّا مشمولات الحركة فيقول «وأما التدرج والاعتماد على التربية ووضوح الخطوات في طريق الإخوان المسلمين، فذلك أنهم اعتقدوا أن كل دعوة لابد لها من مراحل ...: مرحلة الدعاية والتعريف والتبشير بالفكرة وإيصالها إلى الجماهير من طبقات الشعب، ثم مرحلة التكوين وتخير الأنصار وإعداد الجنود وتعبئة الصفوف من بين هؤلاء المدعوين، ثم بعد ذلك كله مرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج. وكثيراً ما تسير هذه المرحلة جنباً إلى جنب نظراً لوحدة الدعوة وقوة الارتباط بينها جميعاً، فالداعي يدعو، وهو في الوقت نفسه يتخير ويربي، وهو في الوقت عينه يعمل وينفذ كذلك» (رسالة المؤتمر الخامس).

إذن فالقلب النابض للحركة يخضع للمراحل التالية كما رآها البنّا، وهي:

1 - مرحلة الدعاية والتعريف.
2 - مرحلة الإعداد والتكوين.
3 - مرحلة العمل والتنفيذ.
4 - مرحلة الدولة/الدول (ذات المرجعية والقاعدة القيمية المشتركة).
5 - مرحلة التمهيد للخلافة.
6 - مرحلة استعادة الكيان الدولي أو الخلافة.
7 - مرحلة الأستاذية وإقامة النموذج.

وننبّه إلى أنّ كلّ مرحلة استأثرت بمقالات تحليلية من الإخوان وسُطِّر لها برنامج مضبوط. ويمكن أن نقول إنّنا قطعنا المرحلتين الأولى والثانية، أو قل قد أنجزت النهضة باعتبارها حركة جزءا هامّا من مشروعها الذي حدّده زعيمهم الأوّل البنّا لهاتين المرحلتين. ونقف عليه في الفقرة التالية: «بنشر الفكرة العامة بين الناس، ونظام الدعوة في هذه المرحلة نظام الجمعيات الإدارية، ومهمتها العمل للخير العام، ووسيلتها الوعظ والإرشاد تارة، وإقامة المنشآت النافعة تارةً أخرى، إلى غير ذلك من الوسائل العملية. وكل شعب الإخوان القائمة الآن تمثل هذه المرحلة من حياة الدعوة، وينظمها «القانون الأساسي» وتشرحها وسائل الإخوان وجريدتهم، والدعوة في هذه المرحلة (عامة). ويتصل بالجماعة فيها كل من أراد من الناس متى رغب المساهمة ووعد بالمحافظة على مبادئها» (رسالة التعاليم).
أمّا مرحلة الإعداد والتكوين فهي تقوم على تخير الأنصار وإعداد الجنود وتعبئة الصفوف. ويحصرها البنّا في « الكتائب لتقوية الصف بالتعارف؛ وفرق الكشافة والجوالة والألعاب الرياضية لتقوية الصف بدنياً وتعوده الطاعة والنظام والأخلاق الرياضية الفاضلة؛ ثم درس التعاليم في الكتائب أو في أندية الإخوان المسلمين لتقوية الصف فكرياً بدراسة جامعة لأهم ما يلزم الأخ معرفته لدينه ودنياه.»

يجوز لنا أن نقول إذن إنّ النهضة في حركتها تستقرئ دستورها، وهي واعية بالتحديات التي تعيشها في سبيل تحقيق ما تصبو إليه فرقتها، كما أنّها واعية شديد الوعي بأنّها في عملها تواجه عراقيل لم تكن لتخلد في حسبان البنّا عندما وضع مشروعه في ثلاثينات القرن الماضي. فإن أمكنها في ظرف خمس سنوات أن تنشئ جمعيات تعود إليها بالنظر، وإن وفّقت إلى حدّ ما في أن ينتشر مبشّروها بالوعظ في أرضنا، وإن تيسّر لها تكوين جرائد تتبعها بالنظر ومواقع اتّصال تشتغل لحسابها وليس لها من مهمّة سوى التعبئة والتجنيد لمواجهة كلّ مخالف واغتيال فكره ولسانه، وإن انغمست في الكشّافة وفي كثير من الأندية وحتى النقابات .. فإنّها ماتزال غير قادرة على وضع يدها على مؤسسات التعليم بدءا بالكتاتيب..

ولهذا صار من الواجب الآن وفي هذه اللحظة التاريخية الحاسمة أن تعلن على لسان زعيمها عن انتقالها إلى مرحلة جديدة : هي مرحلة فصل « الدعوي» عن «السياسي».

إنّ الرجل يعي ما يقول، وهو صريح وواضح، ولا يلعب على الألفاظ، بل عليكم أن تأخذوا عبارته على ظاهرها، ولن تجدوا عبارة أشدّ ولاء لمشروع أبيه الروحي البنّا منها. وهي تجذّرٌ محض في البرنامج الإخوانيّ. بل أزيد: هي الفاتحة والتمهيد حتى يضمن الإخوان بتونس الانتقال إلى المرحلة الثالثة من مشروعهم الحلم ، وهي « مرحلة العمل والتنفيذ».. وإن فَشِل إخوانهم في مصر في تحقيق حلم الجماعة فلا ضير بما أنّ «إخوانهم» بتونس قادرون على مواصلة المشوار. وسيتقاسمون ثمار ما زُرع مهما بانت بينهم الأرض. لأنّها لن تكون سوى أرض خلافةٍ.

كم تخيفني بهتة الناس أمام تصريحات الغنوشي عندما يقول « فصل الدعوي عن السياسي».. وكم يحيرني تحليل الصحافيين عندما يذهبون في التحليل بعيدا عمّا قصد شيخهم، وكم هو محظوظ ، لأنّه ينطق والريح « تحطبلو» بهؤلاء المبهوتين: باختصار استعمل رئيس حركة النهضة لفظ « فصل» ، ولفظ «التخصّص» ولم يقل «التخلّي» أي إنّ لحمامة النهضة اليوم جناحين، جناح الدعوة الذي سيتكفّل بتحقيق ما يمهّد الطريق لإنشاء «دولة الخلافة» ، كما سيتكفّل بإحداث جمعيات ومنظّمات تعود إليه بالنظر وتأخذ عنه البرامج التي تقتضيها كلّ مرحلة.

ولن تكون هذه المرّة جمعيات تذكّرنا مثلا بتلك التي أنزلوها إلى الشارع ضربا في الناس وشتما وتعزيرا، وأعني بلجان حماية الثورة ، وإنّما ستكون منظّمة ، وتتحرّك بأجندا واضحة. وإن كانت السياسة في الأمس قائمة على الأسلمة الناعمة فهي ستصير أسلمة شرسة، رادعة وصارمة. وباختصار ، أعلن الغنوشي عن مأسسة الدعوي، وهي رسالة مطمئنة لأنصاره الذين يهزّهم شوق بثّ الدعوة بعد أن عاشوا تعبئة سنوات.

سيظهر لكم الدعوي في شكل مؤسسة الحسبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسيتجسّد الدعوي فيما يطالبون به من قانون المساجد والأوقاف.. سيقف في وجوهكم الدعوي في كلّ مواجهة أو رفض.. سيتجبّر الدعوي في المساجد التي ستتحوّل إلى بيوتهم بعد أن كانت بيوتا أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.

هذا مستقبلنا القريب، وهذه التحديات التي وضعتها أمامنا النهضة في مؤتمرها العاشر الذي لن يكون سوى استرسال لمشروع إخوانيّ وجد أرض سلام ليكبر.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115