فاجعة مستشفى جندوبة : أيــن فشلــــنــا ؟

مع كل فاجعة او طامة تحل على البلاد وأهلها نعيد استعارة ذات الخطاب المشحون بالحزن والغضب ونلعن الدولة ومسؤوليها الذين يحملون بمفردهم اوزار

ما بتنا فيه من ازمة تتمدد كبقعة زيت تنذر بالانهيار الكلي. خطاب يتنصل من المسؤولية الفردية ويلقيها على الاخر الذي يتجسد في «الدولة / السلطة» التي تتخذ اشكالا وصفات تختلف باختلاف المتحدث.

يوم امس افاقت تونس على فاجعة جديدة تنضاف الى قائمة الفواجع والنكبات التي حلت بها مع احتدام الازمة العامة (سياسية واقتصادية وقيميه واجتماعية واخلاقية...الخ)، وفات بدر الدين العلوي وهو طبيب مقيم في مستشفى الجهوي بجندوبة، قضى نحبه اثر سقوطه من المصعد، وفق الرواية الرسمية التي اشارة الى فتح تحقيق اداري وجنائي لتحديد المسؤولية.
خبر هزّ تونس التي باتت تستقبل ايامها بأخبار فواجع مشابهة لما حمله يوم امس من خبر وفاة شاب تونسي نتيجة اهمال وتقصير في صيانة المصعد الكهربائي بالمستشفى رغم علم الجميع بحاجته للصيانة وتعهد وزير الصحة منذ اكتوبر الفارط بمعالجة الامر.

مات بدر الدين وموته فاقم مشاعر القنوط والحنق لدى جزء من التونسيين الذين اختاروا التنفيس عن غضبهم الناجم عن المصاب الجلل بانتقاد التخاذل الرسمي للسلطات الجهوية والمركزية في معاجلة الاشكاليات البسيطة قبل تطورها لتصبح فواجع ثمنها ارواح تونسيين.
«موت» باتت اطوراه عديدة مختلفة لكنها تلتقى في سببها الاصلي وهو الاهمال والتقصير وغياب الصيانة والمتابعة الناجم عن حزمة من المسببات. وفي واقعة الحال التي اودت بحياة شاب في الـ 26 من عمره اثناء ادائه لواجبه الطبي اسباب الموت ليست تلك المباشرة الناجمة عن السقوط بل هي سابقة له.

اسباب يمكن ان تختزل في عناوين عريضة، الفساد والاهمال والتقصير اولا وغياب الصيانة والتعهد ثانيا، عنوانان يمكن ان يدرجا في خانة «عجز الدولة» الذي يتفرع ليكون عجزا عن كسر الحلقة المفرغة التي باتت فيها وعن وضع حد لحالة التراخي والاستهتار التي باتت رسمية وعامة، دون اغفال ذكر عجزها عن ادارة نفقاتها وضمان حسن سير المرافق العمومية .

فحادثة موت بدر الدين على ثقلها ليست حادثة معزولة عن وضع عام تعيشه البلاد منذ سنوات. ولكنه بلغ اقصاه خلال السنوات الثلاث الاخيرة وضع يتجزأ ليشمل اهتراء كل شيء وتآكله، البنية التحتية وجهاز الدولة و ثقافة العمل والمنظومة القيمية والأخلاقية والأمل.....

ازمة قادتنا الى نفق مسدود نفقد فيه يوميا ارواح تونسيين ازهقت لأسباب كان بالإمكان تفاديها وتلافيها، فقتلى الاهمال وغياب الصيانة ليسوا قتلى حتميين لم يكمن بالإمكان انقاذهم او تلافى موتهم ، بل هم قتلى عجز اصاب الدولة وجعلها غير قادرة على صيانة بنتيها التحتية ومنشآتها . فيوم امس كان المصعد ومن قبله كانت المنشأة المائية وقنوات الصرف الصحي وغياب الجسور والحواجز والإضاءة في الطريق العام الخ...

صيانة تغيب عن المنشأة العمومية التي تآكلت واهترأت ولكن لا احد انتبه الى الانذارات السابقة ولم تحكم الحكومة ادارة محفظتها وحوكمة موازنتها التي بات ثلثها تقريبا كتلة اجور تطورت من 9780 مليون دينار سنة 2012 إلى 19030 مليون دينار وفق التقديرات السابقة في ميزانية 2020. مقابل تراجع نفقات التصرف التي تتضمن نفقات الصيانة خلال ذات الفترة.

تراجع يكشف عن كيفية ادارة الفرق الحكومية المختلفة لموارد الدولة وكيف طوعت الدولة ماليتها العمومية طوعا وقصرا لشراء سلم أهلي عبر الزيادة في الاجور و التوظيف المباشر في الوظيفة العمومية وشركات البستنة والغراسات بما أثقل ميزانيتها بنفقات دون تنويع مصادر دخلها او خلق الثروة فعليا، فكانت النتيجة ان تعجز عن القيام بمهامها ومنها مهام الصيانة.
عجز يتحمل الكثيرون مسؤليته، بدرجات متفاوتة كل الحكومات المتعاقبة التي خشيت الذهاب في الإصلاح وفتح نقاش جدي عن ماهية الدولة ودورها ومهامها وطبيعتها وكيفية تقاسم السلطات وصلاحية اتخاذ القرار الذي ظل ممركزا في العاصمة يحتكر صلاحيات منها صلاحية صرف النفقات كنفقات التصرف والصيانة .

مسؤولية الفواجع هي بالأساس مسؤولية من يدير الدولة وشؤونها وهنا هي مسؤولية الحكومة والطبقة السياسية معا ، لكن هذا جزء من الحقيقة وليس كلها فالجزء الاخر من المسؤولية وان كان محدودا يتحمله الجميع الذي ساهم بشكل أو بأخر في تأزم الاوضاع.

مسؤولية نتحملها في تبنى ثقافة الكسل والغنيمة و والتنصل من المسؤولية الفردية التي تفرضها المواطنة التي لم تمارس لنفرض على الطبقة السياسية ان ترتقى لتحمل مسؤولية ادارة الفضاءات العامة وتدفع لصياغة عقد اجتماعي جديد.
مسؤولية التخاذل والانغماس في صراعات سياسوية والانحراف بالنقاش العام، تتحملها كل الطبقة السياسية التي تتناحر لترث «ارضا محروقة» إذا استمر الحال كما هو عليه الآن. صراع الكل ضد الكل.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115