عنتريّات وزير الشؤون الدينّية

كم هي ثرية أرض تونس وكم هي معطاءة، تجد فيها ما لذّ وطاب ، وما صلب جلده وتقلّصت شرايينه..وكم هو عجيب هواء بلدنا، فمن يستنشقه لا يدري أيّة رائحة استنشق... ينام شعبها حينا من الدهر ويستيقظ فزعا لبدعة من البدع فيظلّ ينتفض ليلا ونهارا ليهدأ إثر

تصريح مسؤول حكومي أو حزبيّ..

طلع علينا منذ أشهر وزير بدأ مهامّه في البداية في هدوء وصمت.. ولكن يبدو أنّ بين وزراء الحكومة تنافس على المراتب الأولى في من يعتبر المحبوب عند الشعب.. فرأى في نفسه القادر على التنافس، وعلى جلب الإعجاب فاستبدل الصمت بالكلام والهدوء بالتوتّر.. واختار نغمة الوجدان الشعبي حتى يتبنّاه الجميع بكافّة أطيافهم الإسلاموية والسلفية والتي تعتبر نفسها معتدلة..
في الحقيقة لم تكن مهمّة وزير الدين عندنا صعبة فالأرضية وفّرت له الإطار الذي يتحرّك فيه.. وكم نبّهنا إلى هذه المزالق، وحرصنا على لفت نظر رئاسة الحكومة إلى مؤسسات ، تبدو في غيبوبة ولكنّها آهلة لأن تستيقظ وتنشط في إطار صلاحيات قانونية، هي صلاحيات أسندها إليها بن علي في سياق التقارب مع الإسلاميين في بداية التسعينات، وساد الاعتقاد بانّها لا تمثّل خطرا مادام مصيرها بيد المشرّع. لكن ما العمل اليوم؟ فالمتربّصون بالثغرات كثر.. ولا فرق بين متربّص في الظلّ وآخر في السلطة، فللسياسة أحكامها.. والتنازع على البقاء في الحكم على أشدّه ولا بقاء إلا للأصلح بالنسبة إلى الأحزاب . وطز في المجتمع وتوازنه، وفي الدستور وبنوده.

أدرك وزير الدين أنّ رئاسة الحكومة ما تزال على عهدها في الإبقاء على مؤسسة المجلس الإسلامي الأعلى. وتفطّن، في سهولة إلى أنّه يمكن استغلال مشمولات هذه المؤسسة وإحيائها، خاصّة أنّها موجودة قانونيا، وطز مرّة أخرى في المجتمع إن رفض الشريعة في التاريخ القريب بما أنّ رئاسة الحكومة تقرّ بها رسميّا عبر هذا المجلس. ومن هنا بدأنا رحلتنا مع وزير الدين:

• بدأ منذ ما يزيد عن الشهر بالإعلان : «أنّ المثقفين في تونس جاهلون للقرآن ولا يحفظونه». وكانت تلك محاولة أولى عسى أن يقيس بها مدى انتباه الناس إلى كلامه. لكن، سرعان ما يأتينا هذه الأيام بنبإ اتفاقه مع السيد وزير التربية على تسليم أبنائنا إليه في عطلة الصيف ليحفّظهم القرآن، وهو بهذا الخبر يدرك جيدا أنّ المسألة تبعث على الحرج وتبكم أفواه الناقدين، فمن يتجرّأ على القرآن؟ ومن يرفض من الأولياء أن يتعهّد بأبنائهم في عطلة مجانا؟ إذن يكون السيد وزير الدين قد ضمن أشياء كثيرة: غازل المجلس الإسلامي الأعلى الذي يتمتّع بمهمّة « النظر في سير المؤسسات الإسلامية ومساعدتها على أداء رسالتها عن طريق ترشيد الخطاب الديني والتمكين من الأدوات التي تساعد على ذلك كالنظر في طرق تمكين الأئمة والوعاظ وتعهدهم بالمتابعة.» كما انتبه إلى أنّ هذا المجلس يتمتّع بالقدرة على « إبداء الرأي في كل ما يتعلق ببرامج التعليم في الجامعة الزيتونية وبرامج مادة التربية الدينية في سائر المعاهد» . و يكون بذلك السيد وزير الدين ضرب عصافير كثيرة بحجر واحد: اختصر الطريق في جلب الانتباه إليه، خاصّة انّه لم يخرق القانون، إن لم أقل أحياه. وضمن مساندة هذا المجلس المجمّد في نشاطه. ولعلّ الأهمّ رمي حركة النهضة بنظرة رانية تعبّر عن تجنّده ليرجع إليها ما كانت قد فرّطت فيه من أحلام زمن صياغة الدستور. وسيقدّم لها هديّة نادرة هي تحقيق « الشريعة « على أرض الواقع التونسي.

• ثمّ يأتينا مستنكرا ومعلنا أنّ نسخا من المصحف الكريم محرّفة وتباع في الأسواق. وتبيّن من ردّ الناشر أنّ الخطأ جزئيّ يحدث دائما وطال عشر نسخ لا غير سحبت من السوق. في الحقيقة وزير ديننا يعلم ذلك ، لكنّه يطبّق ما جاء أيضا من صلاحيات قانونية للمجلس الإسلامي الأعلى « السهر على سلامة مصاحف القرآن الشريف التي تطبع أو تروج بالبلاد من الخطأ والتحريف».

• وبالأمس، ونحن في خضمّ الجدل والتساؤل عن مدى جديّة الحكومة في قرار فتح المدارس لوزارة الدين يصفعنا وزير الدين بنبإ آخر» إحداث صندوق الزكاة». وعندئذ يتأكّد لديّ الأمر بانّ الرجل في نشاطه لا يقوم سوى بعملية « نسخ» copier و «ربط» coller لما أقرّته رئاسة الحكومة من صلاحيات للمجلس الإسلامي الأعلى: « التصرف في موارد صندوق الزكاة بعد جمعها وتوزيعها بحسب الضوابط الشرعية عن طريق هيئة وطنية للتسيير يرأسها رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، إلى جانب الهيئات الجهوية للتسيير التي يمثل فيها المجلس الإسلامي الأعلى في خطة نائب رئيس».
هذه بعض من عنتريات وزير الدين عندنا. ولعلّ أخطرها مسألة الزكاة، ولكم أن تتأمّلوا المشمولات التي يتمتّع بها هذا المجلس. أليست وزارة فوق وزارة السيادة، ورئاسة حكومة توازي رئاسة الحكومة؟ كيف لا وهي التي ستتصرّف في أموال الزكاة؟ نقدا كانت أو عينا؟ وحتى من يشرف عليها؟ هم معيّنون من المجلس نفسه.
كلمة أخيرة أتوجّه بها إلى وزير التربية وأمضي. أخاطب فيه أستاذ التاريخ والرجل الحداثي الذي لا يؤمن سوى بمؤسسات الدولة الحديثة: هان عليك أبناؤنا حتى تقدّمهم لمن سيغسل أدمغتهم.. من أدراك أنّ من تحتويهم وزارة الدين هم الملقّنون الأفاضل ؟ هل سيطرت وزارة الدين على المساجد حتى تؤمّنها مدارسنا؟ كنت أنتظر منك أن تعلن عزم الوزارة على تأهيل أيمّة وزارة الدين وتلقّنهم الفلسفة مثلا وتعرّفهم بالتاريخ الصحيح، تاريخ ينزع القداسة عن الأشخاص.. كنت أنتظر منك أن تعلن عن عزمك في تعهّدهم حتى يقاربوا القرآن بعين عصرية ، وتدفعهم إلى تدبّره ، والبحث عن مناهج تفسّر العلاقة الدلالية بين الآيات وأنساقها. لا أن ترتمي معه في حملة إشهارية ظنّا منك أنّك تسهم في مواجهة الإرهاب. فأرضية الإرهاب ببلدنا ما زالت ملغّمة وعلينا جميعا أن نعاينها ونطهّرها.. أمّا إن كانت تلك مقاربتك في إصلاح منظومة التعليم ؟ .. فيا خيبة المسعى..
وفي الأخير.. لأجل عيون النهضة يهون كلّ شيء.. حتى أبناؤنا...وكم أغبطك أيّتها النهضة، فالجميع يسعى لاهثا لاسترضائك.. وأنت أعياك الاختيار.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115