مونديال روسيا 2018: عندما يحتاج الوطن جرعة كرة قدم

بقلم: محمد جويلي
أستاذ علم الاجتماع
1 - كرة القدم ظاهرة اجتماعية كليّة. هي إحدى أمتع استعارات الوجود البشري،

ولهذا يحتفي بها العالم في أضخم حدث فرجوي يتناسل كل أربع سنوات. كرة القدم الحديثة هي سليلة الدولة- الأمة، بل هي التجسيد الأرقى لها و لعلنا نقول أن كرة القدم هي آخر ما تبقى في مخيال الشعوب و هي تبتكر دولها وأممها في سياق العولمة. نستعيد أوطاننا رمزيا عندما نشاهد أبناءنا يدافعون عن مرماهم كما يدافع الجنود عن شرف بلد بأكمله. كرة القدم هي أشرف الحروب الكونية يقول محمود درويش.

2 - شاركت تونس خمس مرات في دورات كـأس العالم بما في ذلك المشاركة الحالية في روسيا.شاركت مرّة واحدة تحت راية المنتخب القومي عندما كنّا أمّة وكان ذلك في الأرجنتين في 1978. أما بقية المشاركات فكانت تحت راية المنتخب الوطني عندما خفت بريق الأمة التونسية ولم تعد جزءا من الخطاب السياسي.

3 - تنظيم حدث كروي بهذا الحجم كل أربع سنوات هو رهان سياسي بالأساس، كرة القدم لعبة سياسية ، ولهذا يصبح احتضان كاس العالم جزءا من الأمن القومي لبلد الضيافة. يتيح تنظيم دورة كأس العالم لكرة القدم للدولة الحاضنة مزايا عديدة لعل أهمها أن تكون في الصورة، أن تجدّد كيانها و أن تمسرح وجودها في الخارطة الدولية، أن تثأر من خصومها وأن تبني مخيالها القومي على إيقاع اللعبة. للتنظيم فوائد مادية لا يمكن نكرانها. وإسناد التنظيم لبلد دون آخر لا يخلو من محاباة مقترنة بفساد مالي كبير. مونديال 2018 هو روسيا التي تريد تزعم العالم من جديد. الفيفا دولة عظمى وهي تتصرف على أنها كذلك.

4 - انتبهت الأنظمة الاستبدادية إلى الجدوى الرمزية و السياسية لتنظيم دورة كاس العالم. إيطاليا في ظل حكم «موسيليني» في 1934، و»فيديلا» الحاكم العسكري للأرجنتين في 1978. كلاهما أرادا الحصول على الكأس بكل الأثمان.» استدعى « موسيليني» على طاولة العشاء حكم مباراة نهائي كأس العالم بين إيطاليا و تشيكوسلوفاكيا فيما اتفقت الأرجنتين مع البيرو على مبادلة نتيجة مباراة بأطنان من الحبوب وبتصفية ثلاثة عشر معارض سياسي بيروفي يساري في ذلك الوقت.

5 - تراجيديا ملعب الماراكانا ليست تراجيديا كروية فحسب بل هي تراجيديا الميز العنصري أيضا عرّت التوترات المجتمعية العميقة في البرازيل. حدث ذلك أمام 200 ألف مناصر ذات نهائي كأس العالم سنة 1950. لا أحد كان يتخيل يومها أن البرازيل البلد المنظم يمكن أن ينهزم. كانت تكفيه مباراة متعادلة كي يدخل كبار أمم كرة القدم. « جيجيا» اللاعب الأوروغوياني قتل الحلم بلا استئذان وترك البرازيليين يبحثون عن كبش فداء. لون البشرة هذه المرّة، السود هم سبب البلية، سذاجتهم في اللعب و قدرتهم الضعيفة على التركيز أثناء اللعب جعلت من حارس المرمى «مواسير باربوزا» وهو أسود اللون الشخص الأكثر لعنة في تاريخ البرازيل كلها، إذ هو عنوان الخسارة الدامية. خسارة نهائي « الماراكانا» يوم 16 جويلية 1950 هي « هيروشيما» البرازيل بلا منازع. يعدّل البرازيليون موقفهم العرقي عندما يحصلون على كأس العالم سنة 1958 بفضل لاعبين سود « بيليه»، «ديدي» و«غارينشا».

6 - هل توجد علاقة بين أسلوب لعب بلد ما وأسلوب عيشه أو أسلوب ثقافته ؟ هل يترجم أسلوب اللعب وجهة نظر مجتمعية ؟ تكشف هذه الأسئلة عن علاقة ما بين كرة القدم و المجتمع. فإذا لم تكن كرة القدم كل المجتمع فإن كلّ المجتمع موجود في كرة القدم.
لماذا يلعب البرازيليون بأسلوبهم الذي بهروا به العالم؟ لماذا عرف الأسلوب الإيطالي في كرة القدم بـ«الكاتشيناتو» ؟ ما سرّ الماكينة الألمانية في اللعب وهل لها علاقة بنمط عيش الألمان و ثقافتهم؟
في كتابه « الأخلاق البروتستانتية و روح الرأسمالية» بيّن عالم الاجتماع الألماني «ماكس فيبر» كيف غيرت البروتستانتية ثقافة الألمان وجعلتهم أكثر صرامة في حياتهم، يقدسون العمل و يتفانون فيه، لا يتركون مكانا للصدفة مع عزيمة لا تنضب. هذه هي الشخصية الألمانية في كل مناحي الحياة وفي كرة القدم أيضا. يلعب الألمان بخلفية بروتستانتية. لذلك تنتظر منهم كل شيء إلى آخر اللحظات. و للتعبير عن موقف سياسي من الغريم الروسي فضّل الألمان الذهاب إلى روسيا في طائرة كل ملامحها تدلّ على أنها طائرة حربية. سياق العلاقات المأزومة بين الدولتين يفسر ذلك.
الإيطاليون الذين يلعبون الطريقة الدفاعية المبالغ فيها لم يفعلوا ذلك إلا لأن تاريخ إيطاليا هو تاريخ التعب و الشقاء و الحروب و الخوف الدائم من الآخر والشعور المتواصل بالفناء، كل هذه المشاعر جعلت الإيطاليين في موقع الدفاع المتواصل عن هويتهم وعن وجودهم.
البرازيليون الذين يرغمون منافسيهم على السقوط أرضا من هول المراوغات المتواصلة هم أولائك الذين يتحايلون على صعوبة ظروفهم المعيشية، عليهم تطويع أجسادهم لمواجهة اللايقين اليومي. المراوغة في اللعب هي تجنب الاحتكاك الجسدي بالمنافس، هي تجنب الثنائيات وهذا نابع من الرغبة المتواصلة لدى البرازيليين في تجاوز ظروفهم المعيشية الصعبة.

7 - لم تكن دورات كأس العالم بمنأى عن الحرب الباردة. هي جزء من جيوبوليتيكيا مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. بلغت الحرب الباردة ذروتها في المباراة الافتتاحية لدورة 1974 عندما تقابل شطرا ألمانيا الغربية و الشرقية. أهين القسم الغربي من ألمانيا بعد هزيمة غير متوقعة من نظيرتها الشرقية ولكن ألمانيا الموحّدة تداركت أمرها حين فازت بدورة 1990 مباشرة بعد سقوط حائط برلين. الحرب الباردة جعلت الإتحاد السوفياتي لا يستثمر بالقدر المطلوب في كرة القدم. كان التركيز منصبا على ألعاب القوى والألعاب الفردية فقط لأن غريمه في الطرف المقابل ليس معنيا هو الآخر بكرة القدم.

8 - كأس العالم مؤسسة مابعد صناعية، هذا يعني أنها دخلت مفاصل الرأسمال المالي الذي يهيمن الآن على اقتصاد العالم. اقتصاد كرة القدم هو اقتصاد لامادي يعتمد على بيع حقوق البث و على الإشهار والصورة و تنقل اللاعبين وتداول أسهم النوادي الكبرى في البورصات العالمية. لقد تابع ما يقارب 4 مليار نسمة كأس العالم في البرازيل سنة 2014. ويتوقع أن يزداد حجم المتابعين في دورة روسيا 2018 كما يتوقع أن تكون أرباح الفيفا من تنظيم المونديال متجاوزة ل 4.82 مليار دولار التي حصلت عليها من المنديال السابق.

9 - كرة القدم و دورة كأس العالم ليستا «فوت بيزنس» فقط ، إنها أيضا كتابة إبداعية. كثيرون كتبوا حول كرة القدم وحول تظاهرة كأس العالم ، علماء اجتماع واقتصاديون و مؤرخون و أدباء أيضا. هناك نصوص إبداعية كتبت حول كرة القدم و حول لاعبين. محمود درويش كتب نصا رائعا حول «مارادونا» إبان كأس العالم 1986. « مارادونا، لن يجدوا دما في عروقه بل وقود الصواريخ». الأديب الأورغوياني «إدواردو غاليانو» كتب و بأسلوب لاتيني لذيذ « كرة القدم بين الشمس و الظل». وغيرهما من المبدعين الذين لم يتركوا كرة القدم تمرّ دون أن يقولوا فيها شيئا ما، « غرامشي» « ألبار كامو» و» نجيب محفوظ» وغيرهم كثيرون..

10 - تتشكل حول المونديال خارطة للمشاعر ولعاطفة المناصرة. يحبّذ المناصرون الفرق التي لا تمتلك حظوظا تذكر ولكنها تحدث المفاجأة وتتألق. مثل هذه الفرق تسكن في مخيال الناس كصورة للضعيف الذي يثأر لنفسه أمام الأقوياء. عدى ذلك هناك مناصرة تقليدية و متواصلة للكرة اللاتينية وفي مقدمتها البرازيل ويصطف المناصرون وراء منتخباتهم الوطنية بحثا جماعيا عن وطن متخيل ثم تتقدم المنافسة ويختار الناس فرقهم على أسس عديدة شخصية وتاريخية و سياسية وإيديولوجية ومناطقية و غيرها. وحدها كرة القدم تمكن منتخبا في أسفل التصنيف الدولي مثل بنما أن يحدث المفاجأة أمام انقلتلرا وهذا ما نتمناه..

11 - شهر من الإدمان على الفرجة . و شهر من حرب التأويلات و شهر من التخيل الجماعي للأوطان. شهر من التعاطف و الحسرة و الفرح بالانتصار وبالإنجازات العظيمة وبجمالية اللعبة. شهر من ترتيب الزمن و من قتل الروتين اليومي . شهر من طقوس الفرجة و مناخاتها الجميلة. سيلتحق النساء بالرجال في الاهتمام بالحدث . من الصعب جدا أن يقيم شاب وشابة حفل زفافهما في نفس توقيت مباراة كرة قدم المنتخب الوطني سيحرج نفسه و سيحرج المدعوين، عليه أن يقيم حسابا لهذا المعطى.

12 - سيسجل المنتخب الوطني التونسي حضوره للمرة الخامسة في المونديال. المرّة الأولى كانت ملحمة بانتصار هو الوحيد إلى الآن. المجموعة التي وقعت فيها تونس صعبة عموما و لكن الحلم ممكن. المنتخب الوطني خليط من لاعبين ينشطون في البطولة الوطنية ولاعبين تعلموا أصول اللعبة في أوروبا ويمارسون في بطولاتها نشاطهم الكروي. كيف العمل على تقريب وجهات النظر بين هؤلاء؟ كيف الجمع بين ثقافتين في كرة القدم مختلفتين؟ يتحدث المختصون في اللعبة عن حجرات الملابس و المقصود هنا ليس المكان الذي يغير فيه اللاعبون قمصانهم، المقصود طبعا هو مناخ الانسجام بين أعضاء الفريق، درجة اندماجهم، كواليسهم وشعورهم بأنهم يشكلون جسما واحدا. لم تعد كرة القدم تلك القدرات البدنية والفنية و التكتيكية و الذهنية فقط بل هي في جزء كبير منها علاقات إنسانية من أجل التألق..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115