مية الجريبي: زعيمة سياسية في زمن الاستبداد

بقلم: عبد المجيد المسلمي
(قيادي سابق في الحزب الديمقراطي التقدمي)
عندما كنا نهم بمغادرة النزل الذي احتضن المؤتمر الرابع للحزب الديمقراطي التقدمي

و الذي انتخب مية الجريبي أمينة عامة توجه إلي منجي اللوز القيادي بالحزب وأحد الرفاق المقربين جدا من مية قائلا بانقباض شديد « يبدو أننا سلمنا لرفيقتنا مية قنبلة موقوتة». و بالفعل كان المؤتمر الرابع المنعقد أيام 24 و 25 و 26 ديسمبر 2006 متشنجا إلى أبعد الحدود و كانت وحدة الحزب مهددة بالإنفجار في كل لحظة نتيجة الخلافات الفكرية و السياسية العميقة. و كان قدر مية أن تقود الحزب بعد المؤتمر مشيا بين الألغام. و عندما غادرنا في الليل النزل في مدينة نابل كانت أمطار الشتاء غزيرة جدا. و قد فوجئنا بالتواجد الأمني الكثيف على الطريق حسبناه في البداية جزءا من الحصار الأمني الذي كان مضروبا على مكان المؤتمر. و مع تقدمنا في الطريق علمنا أن حربا بدأت تدور رحاها ضد إرهابيي ما يسمى بمجموعة سليمان على بضع كيلمترات من مقر المؤتمر. ازدادت قناعتنا آنذاك بان الوطن في خطر محدق و أنها بحاجة ملحة لقياديين وطنيين مخلصين من طينة مية الجريبي.

صوت الحرية
كانت القناعة الراسخة لدى الحزب الديمقراطي التقدمي أن منظومة الإستبداد و الفساد أصبحت عبئا و عقبة كأداء لتطور البلاد على جميع المستويات و أن التونسيين جديرون بحياة ملؤها الحرية و الكرامة و أن الديمقراطية أضحت بمثابة الاستقلال الثاني لبلادنا بعد تحريرها من ربقة الإستعمار. كانت المعارضة لنظام بن علي منقسمة حول الإستراتيجيات التي من الضروري توخيها لتحقيق الانتقال الديمقراطي. و فيما كان البعض يطرح استراتيجية التغيير بالثورة الشعبية و كان الأخر يطرح المساندة النقدية للنظام القائم كان الحزب الديمقراطي التقدمي يطرح ضرورة تسليط أقوى الضغط الشعبي و السياسي على النظام الحكم لإجباره على القيام بإصلاحات سياسية و اجتماعية و فرض أجندا للإصلاح السياسي الشامل حتى تصل البلاد و لو على مراحل إلى انتقال ديمقراطي حقيقي. فبالنسبة للحزب آنذاك فإن الثورة التي قد تهز أركان الدولة لم تكن خياره الأول لأنها مغامرة محفوفة بالمخاطر كما أن الإكتفاء بنقد النظام و مطالبته الرخوة بالإصلاح غير مجدية أمام نظام أصبح متكلسا وعاجزا عن الإصلاح الذاتي و لا ينفع معه سوى أقوى أصناف الضغط الشعبي لينصاع إلى إرادة التونسيين.

لم يكن هذا الخط السياسي الذي أطلق عليه السيد أحمد نجيب الشابي مصطلح «القطيعة الديمقراطية» محل إجماع داخل الحزب الديمقراطي التقدمي. فمنذ 2005 و خلال المجلس الوطني للحزب طرح فتحي التوزري و محمد القوماني وثيقة سميت « خطة التدرج الديمقراطي» و كانت تدعو إلى خفض سقف المعارضة التي كان يبديها الحزب لسياسات النظام و التهدئة معه. قوبل هذا التوجه برفض شديد من قبل أغلبية مناضلي الحزب الذين عارضوا خط المهادنة للنظام و أطلقوا على هذه الوثيقة تندرا «التدحرج الديمقراطي» وتمسكوا بضرورة تشديد الكفاح ضد الديكتاتورية و الفساد. تواصل الصراع داخل الحزب الديمقراطي التقدمي بين تيار القطيعة مع النظام و تيار التدرج و تفاقم أثناء الإعداد للمؤتمر و انفجر خلال أيام المؤتمر حيث مثلت اللائحة السياسية محور تجاذبات وصراعات حادة كادت تعصف بوحدة الحزب. ليتم في الأخير التصويت على اللائحة السياسية بأغلبية ما يقارب الثلثين و التي ثبتت نهج النضال ضد الديكتاتورية و ضرورة تشديد الخناق على النظام حتى ينال التونسيون حقهم المشروع في الحرية والديمقراطية.

عندما تسلمت مية الجريبي قيادة الحزب في بداية 2007 باشرت للتو الدفاع عن الخط السياسي الذي صوت عليه الحزب في مؤتمره الرابع و تكريسه على أرض الواقع في مواجهة السلطة الغاشمة التي كانت تنتظر بلهفة حدوث تصدع في صفوف أكبر حزب للمعارضة آنذاك مع كل ما يحظى به من إشعاع وطني و خارجي. كما سعت إلى تبليغه للتونسيين و التونسيين لتشحذ هممهم و استنهاضهم من أجل افتكاك حريتهم و حقوققهم. كما عملت على تثقيف الحزب و تسليح قواعده و إطاراته بهذا التوجه الكفاحي. وكان قدرها أن تؤطر صراعا داخليا قاسيا و مريرا تواصل على مدى سنة و نصف بين الأغلبية المنبثقة عن المؤتمر و الأقلية التي تدافع على توجه التهدءة مع السلطة و استمرت في الدفاع عن توجهها السياسي و انتهى إلى انسحاب مجموعة كبيرة من الحزب تتبنى هذا التوجه سنة 2008.

امرأة تشبه التونسيين
إضافة إلى الصراع حول الخط السياسي الذي كان يشق الحزب كان هنالك صراع حول إيديولوجيا الحزب الديمقراطي التقدمي و هويته الفكرية و السياسية. فعندما تأسس الحزب الديمقراطي التقدمي سنة 2001 كوريث للتجمع الإشتراكي كان يتكون من ثلاثة روافد أساسية و هي الرافد القومي التقدمي و الرافد اليساري و الرافد الإسلامي و التي كانت تتنافس و تتعايش و تتوحد حول ضرورة إرساء الحرية والديمقراطية في تونس. و عندما طرحت مسألة خلافة السيد احمد نجيب الشابي على رأس الحزب الديمقراطي التقدمي منذ سنة 2005 ( سنة قبل عقد المؤتمر) كان هنالك مرشح عن كل تيار : رشيد خشانة الذي كان يحسب على التيار القومي التقدمي و الذي يمتاز بكونه من القناة التاريخية المؤسسة la filière historique و منجي اللوز الممثل للتيار اليساري ومحمد القوماني الممثل للتيار الإسلامي. في حقيقة الأمر فإن المرشح الوحيد عمليا كان محمد القوماني لأن رشيد خشانة و منجي اللوز و لأسباب شخصية لم يكونا على استعداد لتحمل المسؤولية. و رغم الإحترام الذي كان يحظى به محمد القوماني في صفوف الحزب فإن الشعور العام في صفوف الحزب لم يكن مرتاحا لفرضية قيادة الحزب من طرف شخصية قريبة من الإسلاميين و كان سيمثل انقلابا مدويا للحزب الديمقراطي التقدمي.

فهذا الأخير كان يعرف عموما بأنه حزب وسطي ديمقراطي تقدمي اجتماعي و يمثل تواصلا مع الحركة الإصلاحية التي انطلقت منذ بداية القرن العشرين و تواصلت مع الحزب الدستوري الجديد بزعامة الحبيب بورقيبة. لقد كان مؤسسو الحزب يعتبرونه صيغة جديدة للحزب الدستوري الذي أسسه بورقيبة و لكنه خال من الإنحرافات الإستبدادية و الفساد الذي استشرى فيه . لذلك كانت قيم بورقيبة والمعركة التحررية التي قادها و بناء الدولة الوطنية أهم مراجع الحزب الديمقراطي التقدمي و كان العديد من مناضلي الحزب وفي معركتهم ضد الديكتاتورية يستلهمون من معركة بورقيبة ضد الإستعمار و ضد التخلف بل ويستعملون حتى المفردات الموحية بذلك و المعروفة عن بورقيبة مثل « الجهاد الأكبر و الجهاد الأصغر» و «الربع ساعة الأخير» و «غلطة فرنسا». لكل ذلك كان هنالك انشغال كبير حول الشخصية التي ستلقى على عاتقها هذه المهمة الجسيمة في قيادة أقوى حزب معارض لنظام بن علي و تشقه الخلافات السياسية والإيديولوجية.

من الصعب تحديد من هو صاحب فكرة ترشيح مية الجريبي لقيادة الحزب أنذاك. فالامر لم يكن بديهيا كما قد يبدو الآن و الحال أن تحمل مثل هذه المسؤولية مغامرة حياتية كبرى ليس أقلها تحمل المحاصرة البوليسية اليومية اللصيقة و تعريض النفس للقمع و السجن أو حتى الإغتيال والحال أن قوى متطرفة كانت دائما تحوم حول السلطة وبين ثناياها. وأذكر أنني التقيتها بطلب مني و تحادثت معها طويلا و شجعتها على قبول الترشيح لقيادة الحزب. و شرحت لها كيف أن ترشحها كأول امراة ترأس حزبا سياسيا في تونس رسالة سياسية إلى التونسيين حول الهوية الوسطية و التقدمية و الديمقراطية للحزب. و ذكرتها بالصعود الهام للنساء في المواقع السياسية في العالم مثل سيقولان رويال التي كانت تستعد لمنافسة نيكولا ساركوزي في انتخابات رئاسة فرنسا ( 2007) و هيلاري كلينتون التي كانت تتنافس مع أوباما على ترشيح الحزب الديمقراطي لرئاسيات 2008. و بعد ذلك بسنوات كان يحلو لي أن تقول لي مية الجريبي بأني كنت أحد أكبر المشجعين لها لتولي رئاسة الحزب.

عندما شاع ترشيح مية للأمانة العامة في صفوف الحزب انساب ارتياح عميق لدى المناضلين الذين انتابهم شعور مشابه للذي تذكر أن لديه شيئا ثمينا محفوظا واستحقه في وقت الشدة. فمية الجريبي إضافة لصفاتها القيادية الإستثنائية كانت قريبة جدا من المناضلين و سهلة التواصل معهم و تغدق على جميع أعضاء الحزب منسوبا غزيرا من العطف و الحب . لقد كانت الشخص المناسب للمكان المناسب. إذ يمكن القول انها تمثل المراة التونسية العصرية المتعلمة و المنفتحة على المجتمع و الملتزمة بقضايا وطنها و شعبها. إنها le portrait robot لصورة المرأة التونسية كما تخيلها مؤسسو الدولة الوطنية و سعوا إلى تكوينها منذ الإستقلال.

و عندما انعقد المكتب السياسي للحزب الديمقراطي التقدمي في أكتوبر 2006 أي 3 أشهر قبل المؤتمر تدارس الإجتماع الترشيحات للأمانة العامة و كانت التجاذبات الداخلية في أقصى درجاتها. أعلن رشيد خشانة ومنجي اللوز انسحابهم من الترشيح لفائدة مية الجريبي. وتمسك محمد القوماني بترشيحه و كذلك فعلت مية. وانطلقت معركة الإعداد للمؤتمر على وقع الصراع السياسي بين تيار القطيعة الديمقراطية وتيار التهدئة مع النظام و بين تيار الهوية و التيار الديمقراطي التقدمي والذي حسم ديمقراطيا خلال المؤتمر ليفضي إلى انتخاب مية الجريبي أمينة عامة للحزب معبرة عن التوجه الكفاحي و ممثلة للتوجه الوسطي الحداثي التقدمي للحزب الديمقراطي التقدمي

إن حياة مية الجريبي و نضالها يشكلان عنصرا أساسيا في تجربة الثورة التونسية وفي التاريخ المعاصر لبلادنا.لهذا أحبها كل التونسيين و لم تعد ملكا فقط لعائلتها الطبيعية و السياسية و إنما أيقونة وملكا لكل التونسيين وجزءا من تراثهم. لذلك رافقتها تونس بكل فئاتها و تياراتها إلى مثواها الأخير في جنازة رفرفت عليها مشاعر مفعمة بالسلام والطمأنينة p la paix et la sérénité

إن صفات النبل الذي رافق حياتها والخصائص الجمالية و الإستثنائية لكفاحها تجعل منها مادة تصنع منها الأساطير الأكثر سموا و إلهاما. إلا أن أسطورة مية الجريبي منسوجة من وقائع ثابتة و حقائق مؤكدة. هنا لا ترفرف أية أسطورة فوق الواقع بل يرتفع الواقع بالذات إلى مستوى الأسطورة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115