تأتي هذه الدفعة الجديدة من سبر نوايا التصويت في الانتخابات البلدية والعامة لتؤكد مسألة قد تبدو غريبة للعديدين وهي أن التوازنات السياسية الموروثة عن انتخابات 2014 لم تتغير بعد ،فحركة نداء تونس مازالت في الطليعة وبأكثر من ثلث نوايا التصويت المصرح بها متبوعة بحركة النهضة على بعد حوالي ثماني نقاط ثم تأتي بعيدا الجبهة الشعبية والتي لم تتمكن إلى حد الآن من تجاوز عتبة %10 من الأصوات فالتيار الديمقراطي وآفاق تونس،هذا في الانتخابات البلدية والتشريعية كذلك أما في نوايا التصويت في الرئاسية فالفروق ليست كبيرة جدا بين ثلاثي الطليعة : الباجي قائد السبسي (%19.4) ويوسف الشاهد (%16.6) فالمنصف المرزوقي (%12.5)
أسابيع قليلة تفصلنا عن أول انتخابات بلدية ديمقراطية في تاريخ البلاد وسط تخوفات من عزوف قوي ومن صعود تيارات «قصووية» بالاعتماد على ما حصل في الانتخابات التشريعية الجزئية بمقعد ألمانيا في 17 ديسمبر الماضي ..
ولكن يأتي سبر الآراء هذا وبعينة تقارب تسعة آلاف نسمة (9000) ليؤكد أن التوازنات الكبرى مازالت هي نفسها وان نسبة العزوف في تراجع مع اقتراب الموعد الانتخابي ..
في توزع العزوف عن التصويت
في شهر واحد تراجعت نسبة العزوف في الانتخابات البلدية بثماني نقاط كاملة لتستقر الآن في %61.2 وهي مقسمة بالتساوي بين من يصرح بأنه لن يصوت وبين من يقول بأنه لا يعلم إن كان سيصوت أم لا ولمن سيصوت إن قرر في الأخير المشاركة..
لا وجود لفوارق تذكر في نسبة العزوف عن التصويت فهذه النسبة محصورة في كل جهات الجمهورية بين %60 و %63 بما يفيد بأننا أمام حالة تعبوية متعادلة إلى حد بعيد على المستوى الجهوي..
ولكن عندما ننظر إلى توزع العزوف وفق المعطيات الجندرية والاجتماعية والعمرية والمعرفية نرى معطيات أخرى ، فالرجال اقل عزوفا من النساء بفارق طفيف (%58 للرجال و%64.6 للنساء) والفارق يتعمق عندما يتعلق الأمر بالبعد الاجتماعي إذ يتجاوز الفارق بين الطبقة المرفهة والطبقة الوسطى العليا من جهة والطبقة الشعبية من جهة أخرى 10 نقاط كاملة (%54.2 للطبقة المرفهة و%55.2 للطبقة المتوسطة العليا و%65.7 للطبقة الشعبية) في حين تبقى الطبقة المتوسطة السفلى في حدود المعدل الوطني..
فئتا الشباب (18 - 29 سنة) وصغار الكهول (30 - 44 سنة) هما الأكثر عزوفا مقارنة بالكهول (45 - 59 سنة) وبمن تجاوزوا الستين ولكن الفروق لا تتجاوز 8 نقاط في أقصى الأحوال ..وكذا الأمر بالنسبة للمعيار المعرفي إذ يقوى العزوف عند الأميين ويضعف عند أصحاب المستوى الجامعي ولكن الفروق كذلك ليست كبيرة إذ هي دون النقاط الست..
ولقد تراجعت نسبة العزوف كذلك في نوايا التصويت للانتخابات التشريعية بأكثر من ست نقاط ولكنها بقيت في نفس المستوى تقريبا بالنسبة للرئاسية (%41.7 في جانفي 2018 مقابل %42.7 في نوفمبر 2017 )
الاستقطاب الثنائي الندائي النهضوي
كل عمليات سبر الآراء في نوايا التصويت تفيد بأن الاستقطاب الثنائي الندائي النهضوي مازال قائما على مستوى القواعد الانتخابية للحزبين وأنهما مازالا يمثلان مع بعضهما حوالي ثلثي الناخبين مع أسبقية مريحة نسبيا للنداء وهذا ما تؤكده الموجة الجديدة من نوايا التصويت التي تقوم بها مؤسسة سيغما كونساي بالتعاون مع «جريدة المغرب» والتي امتدت من غرة ديسمبر 2017 إلى 4 جانفي 2018 وشملت عينة تتكون من 8962 شخصا يمثلون كل الأوساط الاجتماعية وجهات البلاد..
لقد تعودنا في قراءتنا لنوايا التصويت الاعتماد فقط على نوايا التصويت المصرح بها تماما كما يحصل ذلك في الانتخابات الفعلية لأن الأرقام الخام (أي نسبة التصويت لحزب ما بالاعتماد على كامل العينة ) لا تعني شيئا كبيرا..
في نوايا التصويت للانتخابات البلدية يأتي نداء تونس في الطليعة بـ%36.8 وتليه حركة النهضة بـ%28.2 ثم الجبهة الشعبية بـ%7.9 فالتيار الديمقراطي بـ%4.9 وآفاق تونس بـ%3.6 وهي الأحزاب الخمسة الوحيدة التي تتجاوز عتبة %3 . قد تبدو هذه النتائج غريبة خاصة إذا ما قارناها بما حصل في الانتخابات الجزئية بألمانيا في 17 ديسمبر 2017 حيث مني نداء تونس بهزيمة نكراء..ولكن ينبغي التذكير ببعض المعطيات العامة لشرح بقاء التوازنات الكبرى لـ2014 على ما هي عليه الآن وذلك رغم الغضب الواضح على أداء منظومة الحكم ولاسيما في ما يتعلق بالقاعدة الانتخابية لنداء تونس ..
قلنا في مناسبات سابقة أن قوة نداء تونس لا تكمن في قيادته الحالية بل نكاد نجزم بأنه لا تأثير ايجابي لها على بقاء هذه الجاذبية النسبية للحزب الفائز في انتخابات 2014..
في عناصر قوة نداء تونس
قوة نداء تونس تكمن في عنصرين أساسيين مباشرين وعنصر قوي غير مباشر..
نداء تونس هو حزب رئيس الجمهورية وحزب منظومة الحكم الحالية بصفة عامة ولهذا جاذبية واضحة في كل دول العالم ..
ونضيف إلى ذلك بان نداء تونس هو الحزب الأغلبي لدى الوجاهات الجهوية والمحلية في البلاد ولهذا تأثير لا يخفى على احد ،وهذه الوجاهات اختارت نداء تونس لا حبا فيه أو إيمانا بمبادئه فقط بل وكذلك لأنه الحزب الأقدر – من وجهة نظرها – أن يكون في الحكم ،والوجاهات المحلية والجهوية لا ترى نفسها مطلقا في حزب معارض..
أما العنصر غير المباشر فهو غياب عرض مغر وقادر على الحكم الآن وهنا وهذا ما يجعل من نداء تونس اختيارا ايجابيا لدى البعض واختيار المكره لا البطل لدى آخرين..
ويبدو أن هذه المعطيات العامة مازالت لها فاعلية كبرى إلى حدّ هذا اليوم دون أن نهمل زلزال ألمانيا أو الغضب الواضح على أداء منظومة الحكم..
ولكن هذا لا يعني أن الحالة على ما هي عليه وان فوز نداء تونس مضمون مهما كانت الظروف إذ بالإمكان حصول تصدعات هامة على مستوى الوجاهات الجهوية والمحلية إبّان إعداد القوائم الانتخابية للحزب وهذا ما قد يغير بصفة جذرية من التوازنات الحالية ..
أي لعلّ سبر نوايا التصويت الأفضل والأقرب للنتائج النهائية هو ذلك سيحصل بعد توضح العرض السياسي الانتخابي بعد تقديم كل قائمات المترشحين ولكن للأسف نوايا التصويت هذه والتي ستحصل ضرورة في شهري مارس وافريل لن تكون متاحة للرأي العام نظرا لمنع القانون الانتخابي نشر كل سبر آراء لنوايا التصويت انطلاقا من يوم 6 فيفري القادم ..
الملاحظة الأخيرة ، وهي متعلقة بصفة غير مباشرة بنتائج نداء تونس هي عدم بروز الأحزاب والمشاريع التي تنافس نداء تونس على قاعدته الاجتماعية ،ولهذا الضعف النسبي سبب رمزي هام وهو عدم ثقة الناخب في قدرة هذه الأحزاب على الفوز اليوم وهذا ما يجعله بفعل «التصويت المفيد» يلتجئ مرة أخرى ،إلى حدّ الآن ،إلى حزب نداء تونس ..
نضيف فقط بأن بعض أحزاب المعارضة (وأساسا الجبهة الشعبية والتيار الديمقراطي) بصدد التمايز نسبيا اليوم ولكن هذا التقدم النسبي في نوايا التصويت بحاجة إلى تدعيم فعلي يوم الاقتراع ..
في السوسيولوجيا الانتخابية
ما يعطي للاستقطاب الثنائي الندائي النهضوي حقيقة ميدانية هو تأسسه على نوع من الاستقطاب الاجتماعي والثقافي اتضح جليا في الانتخابات العامة لسنة 2014 وها نحن نراه اليوم في كل عمليات سبر الآراء..
يتفوق النداء على النهضة في كل جهات الشمال والوسط باستثناء صفاقس حيث يتقارب الحزبان كثيرا وفي المقابل تتفوق النهضة على نداء تونس بوضوح في كل ولايات الجنوب ..
أمّا اجتماعيا فالطبقة المرفهة تصوت بكل قوة للنداء الذي يتحصل فيها على ضعف نوايا التصويت النهضوية بينما تكون النتائج متقاربة في الطبقات الوسطى والشعبية مع تقدم نسبي للنداء..
أما الجبهة الشعبية والتيار الديمقراطي فيحققان أفضل نتائجهما في الطبقات الوسطى العليا (المهن الحرة والجامعيون وكبار الموظفين والإطارات ..)
ونلاحظ على مستوى الفئات العمرية تفوقا ساحقا للنداء عند الذين تجاوزوا الستين سنة اذ يتحصل النداء في هذه الشريحة العمرية على %58 من الأصوات المصرح بها كما يتفوق النداء عند أصحاب التعليم الابتدائي بحصوله على زهاء نصف أصواتهم (%47)
وكل ما لاحظناه بخصوص نوايا التصويت في الانتخابات البلدية يصدق كذلك على نوايا التصويت في التشريعية
قائد السبسي والشاهد والمرزوقي: ثلاثي الرئاسية
لو دارت الانتخابات الرئاسية اليوم فلن يحصل أي مرشح مفترض على أكثر من %20 من الأصوات وسنكون أمام ثلاثي متقارب إلى حدّ ما يتكون من الباجي قائد السبسي بـ%19.4 ثم يوسف الشاهد بـ%16.6 فالمنصف المرزوقي بـ%12.5. بطبيعة الحال لا ينبغي التأسيس كثيرا على هذه النسب لأننا مازلنا بعيدين ،نسبيا،عن مرحلة الاختيار الجدي للناخبين ولكن لدينا صورة وقتية مهمة تقول بان رئيس الجمهورية يتصدر نوايا التصويت ولكن دون ان يحدث فارقا نهائيا مع ملاحقيه،وللباجي قائد السبسي ملاحقان أساسيان : رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد ورئيس الجمهورية السابق ومنافسه في 2014 المنصف المرزوقي ..
بعد هذا الثلاثي هنالك ثنائي يتجاوز عتبة %5 وهما الصافي سعيد (%7) وحمة الهمامي (%6.2)..
وهنا لابد من ملاحظتين أساسيتين :
• يبدو ان القاعدة الانتخابية للباجي قائد السبسي منقسمة اليوم بصفة تلقائية بين البقاء على وفائها الأول وبين الميل إلى رئيس الحكومة يوسف الشاهد والتقدم الطفيف لصاحب قرطاج اليوم لا يعني بأن المسألة محسومة ولا ندري لصالح من يشتغل عامل الزمن..
• مازال المنصف المرزوقي بعيدا عن النسبة التي حققها في الدور الأول لرئاسية 2014 ولكن نوايا التصويت لفائدته تفوق بكثير نوايا التصويت لحزبه ووجود رئيس حركة النهضة لا يزعجه كثيرا اذ لا يتحصل راشد الغنوشي الا على %2.5 من نوايا التصويت أي اقل من عشر نوايا التصويت لحزبه وهذه مفارقة لافتة في الحياة السياسية التونسية..
هذه الصورة الوقتية لموازين القوى السياسية ونحن على مشارف الانتخابات البلدية ، صورة قد تتغير كثيرا عندما يتضح بعد شهرين من الآن العرض السياسي الحقيقي في كل دائرة بلدية..
والواضح أن لا احد سيدخل هذه الانتخابات وهو مطمئن فحسابات الربح والخسارة ستكون معقدة والبعض قد يصاب بخيبة أمل قاتلة ..فالانتخابات العامة (التشريعية والرئاسية ) لا تربح ضرورة في ماي القادم ولكنها ستخسر بكل تأكيد لمن لم يستطع فرض الحد الأدنى من الوجود الانتخابي في هذه المحطة المفصلية