موعد الأربعاء: في جدليّة علاقة الدّولة والقانون

ربط أفلاطون منذ عقود غاية القانون بخير الجماعة، بما هو ضامن لمبدإ وحدة المجتمع والدّولة. فكانت بذلك القدرة على بسط سيادة قواعده هي معيار قوّة الدّولة ونجاعتها وشرط من شروط تحقيق الحرّية والوحدة الوطنية. فيكون القانون بما هو أمر ونهي وجزاء وإباحة مضمون الدّولة وماهيّتها.

يكون هو إذا تجلّيات العقد الاجتماعي وإعمال لإرادة الأفراد في العيش المشترك في دولة ديمقراطيّة يكون قوامها الخضوع والإخضاع لهذا القانون النّابع عن سيادتهم. إذ ومنذ نشأة النّظريّة الأفلاطونيّة الجامعة بين القانون والأخلاق والسّياسة، «لا تُؤسّس الدّول لمجرّد إسعاد قسم من أهلها، بل لإسعاد الجميع معا. فالدّولة السّعيدة ليست تلك التي تخصّ أفرادا منها فحسب بالسّعادة، بل هي الّتي تُسعد جميع أفرادها على حدّ السّواء».

ما يحدث في تونس منذ الثّورة هو تمرّد واضح وقطاعي ومتصاعد على القانون وعجز شبه تام للدّولة عن بسط سيادة القاعدة القانونيّة في العديد من المجالات، حتّى أصبحت المناداة بتطبيق القانون كماليّة أو نزعة أفلاطونيّة مثاليّة. أصبح اللّهث وراء المكاسب والرّغبة في المفاوضات المخضعة لتحسين بعض القطاعات تمرّ أساسا عبر ليّ ذراع الدّولة وكسر القاعدة القانونيّة. احتُلّت المساجد بعد الثّورة، والجامعات والمدارس والطّرق العامّة والسّكك الحديديّة والمستشفيات، وارتُهنت أحيانا حياة الأفراد وأحيانا حياة الدّولة برمّتها عن طريق احتلال حقول ثرواتها الطّبيعيّة وعصب اقتصادها ونسي العديد أنّ المركب إن سال، نغرق جميعا.

إنّ خصوصيّة المرحلة التي مرّت بها تونس وخيبة المواطن في سياسيّين فقدوا ثقتهم ومشروعيّتهم عمّقت أزمة القانون ومن ورائها أزمة الدّولة. دخلت البلاد في فوضى العشوائيّة والارتجال، فغاب الإنجاز وحلّت المصالح القطاعيّة محلّ المصلحة الوطنيّة العامّة. كان احترام القاعدة القانونيّة أوّل ضحايا المرحلة الاستثنائيّة. المحامون والأطبّاء يطالبون بخرق قانون الميزانيّة وبتعديل القاعدة قبل حتّى تطبيقها، يطالبون بضرورة أن تتفاوض معهم الدّولة حول إمكانيّة خرق القانون، حيث «لا يُسمح لها أن تتعامل معهم بزجريّة» ! إضراب عام في قرقنة في ظاهره تنديد بعنف مفرط في مواجهة المحتجّين، وفي باطنه ليّ لذراع الدّولة لإطلاق سراح موقوفين عطّلوا الانتاج لأسابيع طويلة.

إنّ إضعاف القانون ومن ورائه السّلطة العقابيّة للدّولة لن ينجرّ عنه سوى مزيد تفشّي الفساد والإحساس بغياب العقاب في مرحلة تكاثر فيها المال السّياسي والتّهرّب الضريبي والتّهريب فتلحق تقارير دائرة المحاسبات بتقرير لجنة العميد عبد الفتاح عمر وبغيرها من التقارير المرفوفة. فالدّفاع عن تطبيق القانون هو مدخل ضروري للدّفاع عن الوطن، وعن وحدة المجتمع والعيش المشترك. والتّطبيق الكيفي والانتقائي لقواعده حسب قدرة القطاعات على ليّ ذراع الدّولة لن يزيد سوى في تعميق الهوّة بين السّلطة والشّعب. الشّعوب التي تدافع عن هيبة قوانينها هي الوحيدة التي تستطيع الدّفاع عن أوطانها، والدّولة التي لا تتخاذل في تطبيق القانون هي الوحيدة القادرة على الإنجاز والضّامنة لاستمراريّتها.

في تطبيق القانون احترام لسيادة الشعب وضمانة لأمنهم القانوني وحريتهم ويبقى على الدولة أن تحسن إعماله في ظلّ احترام قواعد حقوق الإنسان ودون اللجوء للعنف المفرط تحت رقابة قضائية قد تفقد هي أيضا مصداقيتها إن فقدت القاعدة القانونية هيبتها. تغيير القانون ليس أمرا محالا ولكنّه يجب أن يمرّ بالسلط الدستورية المختصّة ويجب أن يكون عنوانا عن محدودية القاعدة وليس دليلا على وهن الدّولة وعذرا لعجزها عن الإنجاز.

يبدو أن الحل، كما في كلّ مجالات الحياة سيكون موجعا بالضرورة ويقتضي أن يتخلى كل منا عن شيء من نفسه مهما علا شأنه في ذاته، في سبيل أن نستطيع الإستمرار جميعا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115