قهوة الأحد وجوه من الإبداع (11) عبد اللطيف بن عمار : السينما والإبداع والتدخل الاجتماعي

نواصل التجوال في ذاكرة الإبداع الثقافي في بلادنا ونواصل طرق أبواب الوجوه التي لعبت دورا كبيرا في بناء المشروع الثقافي وإعطائه تلك الميزة والخصوصية مقارنة بالتجارب الأخرى في محيطنا العربي والإسلامي.ونلتقي اليوم مع المخرج والسينمائي عبد اللطيف بن عمار أحد الأباء والمؤسسين للسينما التونسية والمخرج التونسي الوحيد الذي حظي بشرف اختيار

أحد أفلامه في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي.

وقبل الحديث عن تجربته الهامة والثرية توجهت إلى عبد اللطيف بن عمار بالسؤال حول علاقة المشروع الثقافي بالمشروع السياسي في بلادنا.في جوابه عن هذا التساؤل رجع عبد اللطيف بن عمار إلى دولة الاستقلال والحلم الذي جسدته لبناء مجتمع جديد منفتح على العالم وعلى مفاهيم الحداثة .وكان هم المثقفين والمبدعين المساهمة في هذا المشروع وإعطاء لدولة الاستقلال عمقها الثقافي والإبداعي .وهذه المساهمة تفسر في رأي عبد اللطيف بن عمار الدور الأساسي الذي لعبه الفنانون في دعم المشروع السياسي في بلادنا وأعطى للفن دورا رائدا وجعله احد أدوات التدخل الاجتماعي لتغيير الواقع.
ولنعد الآن إلى البدايات والاهتمام المبكر بالفن وبصفة خاصة بالصورة والذي سينطلق منذ سنوات الدراسة في المعهد العلوي بتونس .وستفرض الصورة نفسها وستصبح السينما الشغل الشاغل لعبد اللطيف بن عمار حيث أدمن على مشاهدة الأفلام السينمائية في تلك السنوات لتصبح له ثقافة سينمائية هامة.
وعند نهاية التعليم الثانوي سيكون عبد اللطيف بن عمار أمام الخيار الأصعب في حياته .فنتائجه المدرسية الممتازة خاصة في مادة الرياضيات وخيار العائلة كان يدفعان في اتجاه المدارس التحضيرية Prépa والتي تهيئ لمسار مهني متميز في مجال الهندسة.إلا انه بعد بضعة أشهر في هذا المجال قرر التوجه إلى الميدان الفني واجتاز مناظرة الدخول إلى مدرسة IDFC في باريس وهي من أهم مدارس السينما في العالم.

وتحصل في نفس السنة على منحة دراسة جامعية من وزير الثقافة آنذاك السيد الشاذلي القليبي والذي قال له بالحرف الواحد قبل سفره « إني انتظر منك الكثير»
وسيعود عبد اللطيف بن عمار إلى تونس سنة 1965 ليبدأ مباشرة عمله كمصور سينمائي في برنامج «Actualités tunisiennes» أو «الأحداث التونسية» وهو عبارة عن تغطية يومية لأهم الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والرياضية يقع عرضها في القاعات السينمائية.

وكانت لهذه التجربة أهمية خاصة وتأثير كبير في مسيرة عبد اللطيف بن عمار الفنية والسياسية.فقد تمكن من زيارة كل أطراف البلاد والجهات والمدن لتصوير أهم الأحداث مما مكنه من التعرف على جل المناطق .وقد مكنته هذه الزيارات وهذه اللقاءات مع الناس من مشاهدة بعض مظاهر الرفض لسياسات دولة الاستقلال وتراجعا عن الجانب الديمقراطي في مشروع الحداثة لتطفو على السطح المظاهر الأولى للاستفراد بالرأي والاستبداد كما كانت هذه التجربة هامة باعتبارها مكنت المخرج الشاب من إدراك أهمية الصورة في علاقتها بالسياسة وعمل السياسيين على الهيمنة عليها ومحاولة تطويعها لخدمة أهدافهم وأجنداتهم السياسية فالصورة تبقى محل نزاع وصراع لتصبح أداة للسيطرة السياسية والإيديولوجية.
وهذه القناعة دفعت المخرج الشاب للخروج من هذا الوضع وبداية كتابته للواقع من خلال صوره- اختار الانطلاق في تجربة الأفلام الروائية الطويلة لتبدأ هذه التجربة مع شريط «حكاية بسيطة كهذه» سنة 1970.وسيعرف هذا الشريط نجاحا هاما حيث سيكون الشريط الوحيد الذي سيتم ترشيحه ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان كان وسيتحصل على التانيت الذهبي للأيام السينمائية بقرطاج .

وهذه السنة ستشهد البدايات الأولى للسينما التونسية وظهور أول الأفلام الطويلة.ويتذكر عبد اللطيف بن عمار من هذا الجيل من الأوائل بعض المخرجين كحاتم بن ميلاد واحمد بن نيس والصادق بن عائشة واحمد لدول.كما ستبدأ المنظمات السينمائية كجامعة نوادي السينما وجامعة السينمائيين الهواة في لعب دور مهم في ظهور حركة سينمائية جديدة .وستتأثر هذه الحركة السينمائية بالجو السياسي العام والحركات الشبابية الرافضة والثورية وكذلك بدايات أفول وتراجع برنامج الدولة الوطنية وظهور الاستبداد.هذا الواقع السياسي سيكون له تأثير على الكتابة السينمائية لجيل الأوائل والذي سيضع الأسس لكتابة سينمائية خصوصية ستراوح بين الأحاسيس الشخصية والنقد أو حتى التدخل الاجتماعي.
وسنجد هذا المنحى الفني والإبداعي في الشريط الثاني الذي سيخرجه عبد اللطيف بن عمار وهو شريط «سجنان» سنة 1974 والذي سيتناول مرحلة الكفاح الوطني ضد الاستعمار ليقوم بقراءة تاريخية لأسباب تراجع البرنامج الثوري للحركة الوطنية وتراجعه على المسار الراديكالي عند بناء دولة الاستقلال .وسيكون هذا الفيلم وراء مفارقة كبيرة جدا .فلئن لم يتمكن من الحصول على تأشيرة للعرض ليطاله سيف الرقابة فلقد اختارته وزارة الثقافة لتمثيل بلادنا في عديد المهرجانات الثقافية والأسابيع الثقافية على المستوى العالمي.إلا أنه وبالرغم من المنع والرقابة فقد عرف شريط «سجنان» نجاحا كبيرا خاصة لدى الشباب الرافض والثائر.فلم يخل لقاء أو تربص لجامعة نوادي السينمائيين الهواة من عرض هذا الشريط والخوض فيه والنقاش من خلاله حول أزمة مشروع الدولة الوطنية.

ثم اثر «سجنان» سيعود عبد اللطيف بن عمار إلى مجال الإخراج ليقدم لنا شريط «عزيزة» سنة 1980 والذي سيبقى احد أهم الأشرطة التونسية .وسينجح هذا الشريط في تصوير التطور الذي ستعرفه بلادنا في بداية الثمانينات على عديد المستويات كالسياسي مع ظهور الإسلاميين والاقتصادي مع نقد الانعكاسات الاجتماعية الليبرالية الجديدة وحتى الجغرافي من خلال تصوير الأحياء الجديدة في تونس العاصمة.وسيتحصل هذا الشريط على التانيت الذهبي في قرطاج سنة 1980.

ثم سيقوم بكتابة سيناريو جديد سنة 1983 تحت عنوان «نغم الناعورة» إلا أن هذا المشروع جوبه بالرفض في عديد اللجان ولم يتحصل على الدعم إلا بعد سنوات عديدة ليتمكن من إخراجه سنة 2000. وقد اهتم هذا الفيلم بموضوع هام وسيصبح احدى قضايا الساعة وهو موضوع «الحرقة» أو محاولة الشباب العاطل الذهاب إلى أوروبا على قوارب الموت.
وسيتواصل العمل الروائي لعبد اللطيف بن عمار إلى جانب بعض الأفلام الوثائقية الأخرى مع مسلسل في 4 حلقات بعنوان «خطى فوق السحاب» وهو عمل روائي جمع في فضاء مغلق كل العائلات والشرائح الاجتماعية في بلادنا.ووضع هذه الشرائح والتعبيرات الاجتماعية وجها لوجه لتبدأ علاقات متوترة ثم لتتحسن على مر الساعات وتصبح علاقات يسودها الفهم والاحترام.

ثم سيخوض عبد اللطيف بن عمار تجربة جديدة مع شريط «النخيل الجريح» والذي يحكي عن مرحلة أخرى من مراحل التاريخ الوطني وهي حرب بنزرت .وقد انتهى المخرج من هذا العمل إلا أن تزامن خروجه مع الثورة سنة 2011 اثر على نجاحه الجماهيري وعلى توزيعه.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه التجربة الهامة والثرية هي تساؤلات عبد اللطيف بن عمار في أفلامه وإبداعاته.ويبقى الهاجس الأساسي والرئيسي هو هيمنة الأنظمة السائدة بما فيها من عدم مساواة اجتماعية ورفض حقوق المرأة وعدم انفتاح على الآخر.وقد حاول عبد اللطيف بن عمار في اغلب أعماله الاهتمام بواقع الاستبداد والعنف الذي تحمله هذه العلاقات الاجتماعية ولكن النقد الذي وجهه لهذه العلاقات والهيمنة الاجتماعية لم يكن فجا وسياسيا بل كان هذا النقد يحمل الكثير من الشاعرية ومن الأحاسيس .وهنا تكمن لا فقط خصوصية عبد اللطيف بن عمار بل خصوصية الكتابة السينمائية التي وضعها مع جيل الأوائل لتصبح الخيط الجامع بين مختلف أجيال السينما التونسية.

أما الهاجس الثاني الذي يهم عبد اللطيف بن عمار والكامن في اغلب أفلامه فهو قناعته أن التغيير لن يأتي من الخارج بل من مواجهة هذه الهيمنة والتصدي لها- ونجد هذه الإشكالية في شريط «سجنان» وبالرغم من انصياع البطلة أنيسة للوضع السائد فان الحركات السياسية والنقابية ستلعب الدور الرئيسي في التغيير.كما سنجد كذلك هذه الفكرة في شريط «عزيزة» عندما ستأخذ بزمام الأمور وتتسلح بالقانون من اجل الخروج من هيمنة المجتمع الرجالي والدفاع عن حريتها.

وسيتعرض عبد اللطيف بن عمار لنفس الإشكالية في «نغم الناعورة» عندما يحاول مدرس الفلسفة إقناع الشاب والعاطل عن العمل والذي يحاول أن يجد في الهجرة السرية حلا لمشاكله أن الحل الوحيد هو في البقاء ومحاولة تغيير الأوضاع التي تنتج الفقر والحرمان والخصاصة.
كما تكمن أهمية عمل عبد اللطيف بن عمار في تأكيده على أهمية الانفتاح على الثقافة وعلى الآخر في التغيير الاجتماعي وفي تثوير البنى الاجتماعية السائدة.

عبد اللطيف بن عمار هو احد الآباء المؤسسين للسينما في بلادنا. وستبقى أعماله كـ«سجنان» و«عزيزة» منارات هامة في تاريخ السينما- وأهميتها تكمن في خصوصية اللغة السينمائية التي أوجدها والتي ربطت الأحاسيس والمشاعر بالفعل الاجتماعي ليكون بذلك أحد الأبناء الأوفياء لمشروع الحداثة الفكري والفني وأحد المؤثرين في مشروعنا الثقافي وخصوصياته.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115