وللمرأة أيضا المساواة والحـرية

بقلم: حمادي بن جاء بالله
هل من قدر تونس أن تقود - دون أن تدعي زعامة - حركة تحديث العالم العربي والإسلامي؟ هل اقتضت حركة التاريخ الكوني أن تجعل من تونس قدوة العربي والمسلم في عملية الارتقاء إلى قيم العصر الحديث وهي التي لم تدع ريادة ولم تسع يوما إلى تصدير رؤاها؟

لا استبعد أن يكون السيد رئيس الجمهورية أراد تحقيق «ضربة استباقية انتخابية» –كما ردد ذلك البعض - عندما أثار القضيتين موضوع الجدل اليوم في الساحتين الوطنية والإسلامية مسالة زواج المسلمة بغير المسلم ومسالة المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث .غير أنّ الأقرب الى الحقيقة –في ظني - أنه أراد التذكير بتأخر الجهات ذات النظر عن الواجب.فالدستور الحالي –رغم نقائصه العديدة - تضمن –بفضل نضالات الوطنيين نساء ورجالا -معنى المساواة التامة بين الرجل والمرأة في الحقوق الشخصية و المدنية والسياسية .وبالتالي فقد كان الواجب يدعو إلى المسارعة بإلغاء جميع النصوص المخالفة أو المناقضة لذلك المبدأ حتى يكون التطابق بين قوانين البلاد ودستورها. وبالتالي فان المسالة لا توجب بحال من الأحوال انتظار نتائج أعمال اللجنة التي بعثت بهذه المناسبة إذ ليس من اختصاصها صياغة مناشير وزارية ولا صياغة مشاريع قوانين حكومية بل إن همومها –في تقديري - أبعد من ذلك بكثير.

وما أثاره التذكير الرئاسي من تأييد واسع النطاق في المجتمع التونسي كان دافعا إلى هرج إعلامي تراوح أحيانا بين جنحة التكفير وجريمة الطعن في الأعراض. وهو يدعو إلى معاودة التساؤل عما فيه من أبعاد حضارية وأخلاقية وسياسية «قامت لها تونس أمس في أول عهدها بالاستقلال وميلاد الدولة الوطنية» وهي مصرة اليوم على أن تبقى وفية لاختياراتها في أول عهدها ببناء الدولة الوطنية الديمقراطية. ولا يتسع المجال لتقييم المواقف المعلنة والمضمرة «والمعارضة والموالية» ولكن الواجب يدعو إلى تفادي كل ما لا يليق بمسالة عليها-كما نرى- يتوقف مستقبل الإسلام والمسلمين غدا وهي - في العمق - مسألة الحرية.

فليس ثمة ما يبرّر الخلط بين «الأزهر» ومصر ولا بين الإعلام المصري وبعض محترفي الشغب في فضائيات البترو-دولار كما ليس ثمة ما يبرر الاطمئنان الى تفريق وهمي بين «الإسلام المعتدل» و«الإسلام المتطرف». فلئن كان الأزهر مؤسسة ثقيلة على صدر مصر إذ زرته مرارا وحاضرت فيه واعلم من أمره ما يكفي لبلورة رأي فيه فان من «الأزهريين» من يعول على المنهج العقلاني الحديث للتحرر من ورطة الوقوع تحت سلطة الأوصياء على الضمائر والكثير منهم يرى –وهو محق- في اختيارات تونس الكبرى –مستقبل الأمة العربية والإسلامية خلافا لمن احترف من التونسيين مهنة تقزيم الذات الوطنية . كما بينت لي خبرة السنين أن كل نزوع بالدين عامة إلى منازع سياسية ينتهي ضرورة إلى الإرهاب .وفي ما شهدته تونس من سطو على ثورة شباب مدرسة الجمهورية ما يكفي من الأدلة والمؤشرات على أنّ الإسلام السياسي يتوزع في أحسن الأحوال بين إرهاب مباشر وإرهاب مؤجل.

والحق أني كنت استبشرت خيرا بتردد أنباء ذهبت إلى أن الإسلام السياسي في تونس ينوي التحرر من تبعية الانتماء إلى “الإخوان المسلمين «ليتحول الى الديمقراطية» إلاّ أني لم ألمس إلى اليوم ما يشير إلى هذا التحول الموعود.بل يبدو أن الإسلام السياسي فوّت على نفسه –هذه الايام- فرصة ثمينة ليبرهن على انه من أنصار الديمقراطية الفعلية القائمة على الحرية الشخصية والمساواة التامة بين المواطن والمواطنة في جميع الحقوق والواجبات بما في ذلك الحق في المواريث .ولعله ازداد تورطا في أصوله الأجنبية «الاخوانية» عندما تذاكى فعارض –في تخفّ مشفّ - مقترحا أملته إرادة ترسيخ قيم الديمقراطية بالدعوة إلى إحياء مؤسسة ذهب ذكرها السيء في ظلمات التاريخ مؤسسة «الحبس» كما كان يقول التونسي وفقا للتقاليد اللغوية العربية السليمة أو «الأوقاف» كما يقول المتفيقهون المتمشرقون في تونس .وايغالا منه في هذا الاتجاه الخاطئ طلع علينا اخيرا ببدعة تخلي الدولة عن مدرسة الجمهورية. وهل ثمة ضلال أبعد من هذا؟ وليس من المستبعد أن يعود الإسلام السياسي «المعتدل» عندنا إلى ما كان دعا إليه من تطبيق حد الحرابة وقطع يد السارق ولم لا أيضا قتل «العبد الآبق» أو رفع شعار «لا يقتل مسلم بكافر»؟ويقيني أن المصلحة الوطنية تقتضي أن يسارع الإسلام السياسي في تونس إلى إصلاح ذاته .فللإسلام المحمدي رب يحميه ودولة تونسية وطنية عرفت دائما كيف تكون خير حافظ له... ويكفي أن نقول بما كان قال به المصلح التونسي بيرم الخامس في رسالة الرقيق أن الأصل في الانسان الحرية ليستقيم الشأن الإسلامي والإنساني معا.

أمّا ما أشيع عن موقف زملائي أساتذة جامعة الزيتونة فيقيني سلفا انه لا أصل له إذا استثنينا فئة قليلة يقال هم ثلاثة رابعهم نكرة: تورط الأول في التغرير بشبابنا والدفع به إلى جحيم الحرب على أشقائنا في سوريا والعراق وليبيا. وتحيّل الثاني على قيم الجامعة حتى تسلق عمادة كلية الزيتونة بمجرد «ماجستير» حصل عليه من الأزهر.وكان ذلك في عهد التحالف ألاثم في ثمانينات القرن الماضي بين فئة من «الدساترة» والاسلام السياسي النابت. أما الثالث فقد اشتهر بالتقول على بورقيبة رحمه الله في حوار مباشر كنت طرفا فيه في التلفزة الوطنية فإذا هو من السفهاء... وليس من هؤلاء جميعا من يمثل الكثير من أساتذة الزيتونة نساء ورجالا إذ أني اعرف رصانتهم الفكرية ورزانتهم الأخلاقية ووطنيتهم التي تمنعهم من الاصطفاف وراء من جعلوا من ذم تونس تجارة مربحة ومن التنكر لانجازاتها علامة تعبقرهم. فقد درّست معهم سنين في الزيتونة ذاتها وأعلم أن انتصارهم للحرية والعقلانية لاشك فيه .لذلك كان الحوار معهم دائما مفيدا ولا أظن أن ذلك مما يغيب عن «اللجنة الرئاسية».

غير أنّ «لفت النظر الرئاسي» المذكور ذهب –في تقديري- إلى البعيد الأبعد ليرتقي –من منطلق تونسي فريد - بالحضارة العربية والإسلامية الى ما لم ترتق له حتى في ازهي عصورها : انه انجاز حلم الحرية ولو يسيرا يسيرا .فالجمع بين مطالب المساواة في الميراث وحرية الزواج وممارسة الحريات الفردية تطرح على الثقافة العربية الإسلامية أسئلة ملحة عليها يتوقف مصيرها اليوم في العلم لاسيما بعد استشراء ظاهرة الإرهاب التي نشر ثقافتها الإسلام السياسي بجميع أطيافه.والحق انه لا معنى أصلا لسؤال المساواة بإطلاق ولا لزواج المسلمة بغير المسلم إلا باعتبار هذا وذاك متفرعين عن سؤال مركزي إليه ترد الأمور «جليلها وصغيرها» وهو سؤال الحرية. فليست المساواة إلا مجرد شرط من شروط نفي «نطام الامتيازات» المقيت وهي بالتالي ادني الواجب أخلاقيا وسياسيا أو قل إنها فضيلة صغرى توجبها للحرية بما هي الفضيلة الكبرى بإطلاق. ولذلك فان رفض فكرة المساواة التامة بين المرأة والرجل بما في ذلك الميراث معناه تدقيقا رفض الحرية الفردية والجماعية وبالتالي الديمقراطية وانتصارا مضمرا لهذيان «الحاكمية الإلهية» الفرعونية التي تبقى هوس الإسلام السياسي في السر والعلن.

ولما كان الأمر كذلك كان ما ذهب اليه رئيس الجمهورية –في ظاهره- مجرد «لفت نظر» موجه إلى الجهات الإدارية في الحكومة التونسية ولكنه –في باطنه- دعوة تاريخية الى استئناف التوجه التونسي الأصيل الهادف –منذ عهد الزعيم الحبيب بورقيبة رحمه الله - الى ترقية الوعي بشروط صحة الانتماء إلى العصر عن إرادة وتبصر لا عن صدفة وجهل فضلا عن كونه من أوكد متطلبات مرحلة التحول الديمقراطي وهي من أعز فترات تاريخنا وأعسرها منذ دستور قرطاج حتى اليوم.

وبهذا التقدير فانه لا معنى لما ذهب إليه ما سمي ببيان «موقف الزواتنة» بتاريخ 17 أوت 2017 حيث اعتبرت المسالة «مغلوطة» وفي «غير أوانها» بالنظر إلى مشاغل الشعب. .أما ما قيل عن «انعقاد الإجماع» قديما وحديثا بتحريم كذا او كذا فلا قيمة له تذكر .فقد اجمع علماء الدنيا أمس على سكون الأرض وسط العالم وبيّن غاليلي وحده أنهم مخطئون .لقد اجتهد فقهاء الأمس لعصرهم ونجتهد نحن اليوم لعصرنا, فذلك حقنا وواجبنا معا وعلينا تقع اليوم مسؤولية إعادة التمييز بين «البيّنات» و«المتشابهات» وبين «الوجوب» و«الندب» والحرمة «والكراهة» و«الإباحة» نلتزم الحق ونستأنس بالجميع دون أن نكون تبّعا لأحد.

ولا سبيل إلى ذلك ما لم نعترف أن الملة الإبراهيمية عامة والإسلام خاصة إنما الأصل فيها تأسيس الحرية البشرية. ولا حرية دون مساواة.ولا ديمقراطية دون حرية ومساواة معا.فإذا وضعنا ذلك أساسا وثيقا لتأملاتنا بانت لنا سبل تخليص الإسلام من الأضرار الفادحة التي ألحقها به الظلاميون من أهله من ناحية وبلورة تصور فكري شامل من ناحية أخرى يؤهل الإسلام -عقيدة وثقافة- إلى أن يكون طرفا قويا في حضارة العصر الحديث ويرتقي بالمسلم إلى أن يكون فاعلا في التاريخ بدءا بأن يضمن لنفسه اليوم «الشغل والحرية والكرامة الوطنية» حتى لا يكون عالة على أحد.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115