دعوا رئيس الجمهورية للتراجع عن دعوته للمساواة في الميراث : إلى «مشائخ» تونس «المعتدلين» و«غير المتطرفين» لـمَ لا تقولون «الحقيقة» كاملة؟ لـمَ تخفون دوما نصفها الآخر ؟ !

عقد يوم أمس عدد ممّن سموا أنفسهم «مشائخ تونس» وأساتذة بجامعة الزيتونة ندوة صحفية نظمتها جمعيتان: الأولى تدعى «جمعية الأئمة من اجل الاعتدال ونبذ التطرف» والثانية «جمعية هيئة مشائخ تونس» وذلك للتعبير عن مخاوفهم من الدعوات «الخطيرة» التي وردت في خطاب رئيس الجمهورية يوم 13 أوت والتي قالت بالمساواة في الميراث بين المرأة

والرجل وبإمكانية زواج المرأة التونسية بغير المسلم، وهذه الدعوات بالنسبة لهم «طعن صريح لثوابت الدين»..
من المفيد أن نعلم أن من أبرز المتدخلين في هذه الندوة الصحفية هم المسؤولون الأول عن الشأن الديني زمن حكم الترويكا بدءا من نورالدين الخادمي وزير الشؤون الدينية آنذاك وحمدة سعيد مفتي الجمهورية وعبد الله الوصيف رئيس المجلس الإسلامي الأعلى..
لا يخفى على احد كم كان لهذا الثالوث من أفضال على البلاد والعباد ..فالمفتي السابق قد اعتبر أن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة هو أول من بدأ بالإرهاب (نعم هكذا !!) عندما نزع السفساري عن المرأة التونسية ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى كفّر المفكر يوسف الصديق على خلفية برنامج إذاعي أما الوزير الخادمي فقد صال وجال وسمح لسموم الوهابية باكتساح البلاد شرقها وغربها ،شمالها وجنوبها..

• «الثوابت»
ماذا يقول «مشائخ الاعتدال ونبذ التطرف»؟
يقولون بأن رئيس الدولة «تدخل في ثوابت لا مجال لتبديلها وأحكام المواريث تكفل الله سبحانه بتفصيلها وبيانها في كتابه العزيز «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين».
ويضيف البيان «المعتدل» جدا أن زواج المسلمة بغير المسلم هو محرم بالكتاب والسنة والإجماع وارتباطها به يعتبر جريمة زنا استنادا إلى قوله تعالى «ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا» إذ يعتبر «مشائخ الاعتدال» أن كل نص قطعي الورود (ككل نصوص القرآن الكريم) وقطعي الدلالة (أي أن معناه اللغوي الظاهر لا يحتمل التأويل ككل الأحكام التفصيلية الواردة في القرآن الكريم) ينبغي أن يطبق كما هو وأن تعطيله أو تغييره مخالف لثوابت الدين وكما قال الوزير الأسبق الخادمي في الندوة الصحفية «لا اجتهاد مع النص القرآني»..
لنسلم بكل هذه المقدمات على سبيل الجدل لأن كل هذه المقدمات فيها نظر..

• حجة متهافتة
بداية حجة «علماء الاعتدال» في تحريم زواج المسلمة بغير المسلم واهية دينيا لان القرآن الكريم لا يحتوي ولو على آية واحدة تقول ذلك صراحة.فالآية التي استشهدوا بها «ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا» هي عامة للنساء والرجال والقرآن الكريم يميز في مواضع الزواج والأكل بين المشركين وأهل الكتاب..
والقرآن الكريم قد أباح صراحة للمسلم الزواج بالكتابية ولم يمنع ذلك صراحة عن المسلمة ..
لذلك أضاف معتدلونا الإجماع أي اجماع علماء أهل السنة القدامى على تحريم زواج المسلمة بغير المسلم.. وهذا إجماع فيه نظر لوجود أراء مخالفة قديما وحديثا ..على كل حال نحن أمام تأويل سلفي متشدد لنص قرآني يسمح بوضوح بتأويل أرحب واشمل ..

• أنصاف الحقائق
نواصل مقولة «لا اجتهاد مع النص القرآني» ونقصد به النص القطعي في دلالته بالطبع ..
لم لم يعترض علماؤنا «المعتدلون» وغير «المتطرفين» جدا على المجلة الجزائية التونسية التي لم تعتمد على أي حكم من أحكام الحدود الواردة في نص قرآني صريح ؟ !
فهل أن آية «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين» أكثر قطعية من الآية «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما» وكذلك الآية الكريمة «والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة» ونظيف إلى ذلك آيات الحرابة والقوامة وشهادة المرأة نصف شهادة الرجل وتعدد الزوجات والطلاق بعصمة الرجل وحق امتلاك الجواري وما ورد في السنّة الكريمة من قتل المثليين الذكور وجلد الذين يقذفون المحصنات ثمانين جلدة، وقياس الفاروق عمر على ذلك لشاربي الخمر...

أين علماؤنا الأفاضل من كل هذه الأحكام القرآنية القطعية ؟ !
فهل هم مختصون فقط في آيات المواريث ؟ ! أم أنهم يعتبرون أن كل هذه الآيات إنّما هي من المتشابهات التي تحتمل أكثر من تأويل ؟ ! وان كان الأمر كذلك فلم استثنوا آيات المواريث فقط والحال أن المبدأ العام فيها هو توصية من المولى عز وجلّ «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين» بينما الصيغة اللغوية في جل أحكام القران هي الأمر «فاقطعوا» و«اجلدوا» و«قطعوا».. أفتكون صيغة الأمر أقل وضوحا في أذهان مشائخ «الاعتدال»؟

أم أنكم ،جميعا، تخفون نصف الحقيقة عن عموم التونسيين؟ !
لم حصرتم جرأتكم في آيات المواريث ولم تقولوا الحق الذي تعتقدونه في غيرها؟!

وان كان ظننا خاطئا فاعقدوا ندوة صحفية لتقولوا بوضوح بأن كل أحكام القران التشريعية هي ظنية باستثناء احكام المواريث مثلا..
هل أصبحت تونس أقل ايمانا لأنها لم تعد تطبق العقوبات الجسدية منذ حوالي القرنين ولأن فيها مجلة للأحوال الشخصية منذ أكثر من ستين سنة ؟!
أم هل تخشون المجتمع والدولة والنخب والإعلام أكثر ممّا تخشون الله ؟ !

ألم تتدبروا قوله تعالى لنبيه «وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه».
النصيحة للناس أيها «المعتدلون» لا تكون بالتقية وبإخفاء ما تعجزون عن الدفاع عنه..
ما الفرق بينكم وبين غلاة السلفية من الوهابية ؟ ! وما الفرق بينكم وبين التكفيريين؟
هم يكفّرون بالتعيين وانتم توفرون مادة التكفير دون أن تنطقوا بها فقط لا غير ..
ولا نعتقد أن بعض «العلماء» الآخرين بأفضل حالا منكم إذ تدور فتاويهم سلبا وإيجابا مع المكانة والوجاهة لمن يتوجهون بها إليه..

• مأساة كالمهزلة
حقا إن من يعتقد بان إصلاحا دينيا ولو طفيفا وجزئيا يمكن أن ينبع من «مشائخ» «الاعتدال» إنما هو واهم بإطلاق..
فهؤلاء المشائخ لا يعيشون حتى في القرن الأول للهجرة ..فلو عشتم مع الفاروق عمر بن الخطاب لكفّرتموه لأنه عطل العمل بنصوص قطعية لا بصفة مؤقتة كحدّ السرقة عام الرمادة (المجاعة) بل بصفة دائمة عندما رفض توزيع أراضي السواد (العراق) بين الفاتحين مخالفا بذلك آية صريحة في سورة الأنفال..
«مشائخ الاعتدال» عندنا هم صورة من السلفية المفقرة زمن الوهابية.. فحتى سلفية ابن تيمية في القرن الثامن للهجرة هي أرقى من هذه الحشوية الباهتة لمن يعدون أنفسهم اليوم في زمرة «العلماء»..
لا يذهبن في ذهن أحد أنّه بإمكاننا ربح معركة الحداثة والديمقراطية دون خوض صراع طويل ومرير مع السلفية الحشوية المهيمنة على كل المؤسسات الدينية اليوم في بلادنا وفي سائر البلاد العربية السنية فالفروق بين «المعتدلين» و«المتطرفين» لا تكاد ترى بالعين المجردة..

هي معركة حضارية تتجاوز بكثير مجرد تأويل نص ديني أو الاجتهاد في المواريث ..
إنها معركة الدين ذاته في إعادة قراءته وتمثله وموقعه في حياتنا العامة والخاصة..
إنها معركة الروحانية الإنسانية ضد الفقهية الحشوية المتكلسة التي تعيش بأجسادها بين ظهرانينا بينما لا ندري أين اختفت أفئدتها..
معركة تشق تاريخنا الحضاري في كل مراحله وفي كل بيئاته..

معركة اعتقدنا في تونس أننا انتصرنا فيها بصفة نهائية بدءا من الطاهر الحداد وصولا إلى الحبيب بورقيبة ..ولكن المعارك سجال وها نحن بعد الثورة نكتشف حجم الكارثة في الخطاب الديني المؤسساتي المتكلم باسم الزيتونة وباسم الاعتدال ونبذ التطرف..
إنما معركة المساواة فعلا ، لا فقط في المواريث أو في حق اختيار الزوج ،بل في تخلص العقول من كل مكبلاتها ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115