النهضة : الطائفة والقبيلة والحزب الجزء الثاني والأخير تلونات الخطاب النهضوي


عبداللطيف الهرماسي (أستاذ باحث في علم الاجتماع الديني والسياسي)
نواصل اليوم نشر الجزء الثاني والأخير من مقال الأستاذ عبد الطيف الهرماسي حيث أشار في الجزء الأول إلى الأسباب التي جعلت مصداقية حركة النهضة تهتز بقوة بعد أن ازداد حجم السخط وعدم الرضا على تصرفاتها، ليشير في هذا الجزء الثاني إلى تلونات الخطاب

النهضوي وازدواجية المواقف والصراع بين مختلف اجنحتها قبل انعقاد مؤتمرها العاشر.

4 - التصالح لحفظ المصالح
- من لغة «التآمر» إلى لغة «الودّ»
منذ أمسكت النهضة بقيادة الترويكا وبدأت ممارساتها تتعرض للرفض.اعتبرت أن ثمة قوى تنتمي لمعسكر الثورة المضادة تتربص بها وتتآمر عليها، وهي ما وصفتها أيضا بالتجمعيين الجدد وبأزلام بن علي وبالدولة العميقة التي اعتبرت مؤسساتها غير مأمونة، خصوصا منها الأمنية. شيئا فشيئا نسجت أسطورة المؤامرة التي، حتى لو كانت تستند إلى معطيات واقعية، فقد تم تضخيمها والتهويل من شأنها. ومع صعود حزب نداء تونس احتدت لغة الإقصاء المتبادل وصرّح زعيم النهضة بأن نداء تونس أخطر من السلفيين، كما ذهبت بعض الصحف القريبة من النهضة إلى اعتبار اغتيال شكري بلعيد مؤامرة مدبرة لغاية الإطاحة بحكمها، بل شرارة محاولة انقلابية شارك فيها «اليسار الإستئصالي» والباجي قائد السبسي لإجبار النهضة على تسليم السلطة (صحيفة «الضمير» 14 فيفري 2013).
لا مراء في أن الخطاب كان استئصاليا من الجهتين وأنه كان على علاقة بما حصل من مواجهات منذ أفريل 2012 إلى أحداث الرش وما تلى ذلك من اغتيالات وتوتر شديد. كانت السلم الأهلية مهددة فعلا وكان على النهضة التي اتسع نطاق خصومها وأصبحت تتخوف من المحاسبة أن تتراجع وتقدم تنازلات تجلت في مسار كتابة الدستور والانخراط في الحوار الوطني والقبول بمغادرة الحكومة لفائدة تشكيلة لعبت دور صمّام الأمان وأشرفت على الانتخابات التي أريد منها إعطاء مؤسسات دائمة.

ولم تكن هذه إلاّ المؤشرات الأولى لتغيّر كامل في اتجاه السير وفي السياسة المعلنة للنهضة وخطابها، في ضوء قراءة «واقعية» لاتجاه تطور المعطيات السياسية الوطنية والإقليمية، بما في ذلك صلابة مقاومة الدولة العميقة والنخب الحداثية ودرس الانقلاب المصري. لقد كانت القوى الديموقراطية منقسمة بشأن الموقف من البروز السريع لحزب النداء، ما بين متحفظ بشدة ومتحمس، وهذا في الوقت الذي استقبلته النهضة وحزب المؤتمر بكثير من التوجس بل العداوة. كان هدف قائد السبسي أن يقود سائر الأطراف المدافعة عن رموز الدولة الوطنية ومكاسبها وأن يجعل منهم قوة توازن كفة الإسلاميين وتجبرهم على التراجع. وتم له ذلك بفضل آلية جبارة لصنع الزعامة الكاريزمية وإخراجها المسرحي وفق النموذج البورقيبي، وكذلك بفضل تجند شق كبير من المنظومة التجمعية وإغداق المال السياسي، إلى جانب الدور الحاسم لوسائل الإعلام التي روّجت للمشروع ولصورة قائد السبسي كزعيم مهيب ومحنك. كل هذه الوسائل وغيرها عملت على إبراز حزب نداء تونس في صورة حركة إنقاذ وطني قادرة على إخراج البلاد من الأوضاع الصعبة التي أوصلتها إليها إدارة الترويكا. ورغم عنف الهجومات التي شنتها قيادات النداء على النهضة وتجاهل نداءاتها الملحة للتوافق فقد كان الغرض الحقيقي منها هو الضغط عليها واستدراجها للتنازل، مما جعل الوعد والوعيد سلاحين متكاملين وإستراتيجية المغازلة واردة إلى جانب التخويف والتهديد.

هذا ما حصل قبل الانتخابات التشريعية وتواصل خلال دورتي الانتخابات الرئاسية، وكان وراء مسلسل من التنازلات أقدمت عليها النهضة بناء على اعتبارات يأتي في المقام الأول منها التخوف من المساءلة والمحاسبة بما يقتضيه من بناء جسور تواصل مع زعامة النداء والإقدام على مراجعات سياسية وفكرية تفضي إلى تسوية تاريخية وتسمح بإيجاد مخرج مشرّف للحركة وفي ذات الوقت إخراج البلاد من المأزق الذي وقعت فيه مسيرة الانتقال. وفي هذا الإطار جاء تحول مفردات الخطاب الرسمي للنهضة عشية الانتخابات التشريعية والمجهود الذي بذلته للارتباط بفكرة الوحدة الوطنية والاتكاء عليها لتبرير المنعطف الكبير. ففي اختتام الحملة الانتخابية لتشريعية 2014 برّر الغنوشي تسليم سلطة أخذت عن طريق الإنتخابات بمحبة تونس ولدت عن رفض الحركة توريث الأحقاد واعتمادها سياسة الوفاق، ما جعلها تمانع في سياسة العزل والاجتثاث. كما احتج على من يسعون لتقسيم مجتمع تونسي موحّد ومتجانس. أما آخر صيغة من هذا الخطاب الداعي إلى التقارب بين التونسيين، وخصوصا بين الندائيين والنهضويين، فهي ما ذهب إليه من بحث عن أرضية مشتركة لهما في شخصية ورمزية الزعيم عبدالعزيز الثعالبي. «إخوان لا أعداء «: بهذه العبارة توجّه الغنوشي إلى التجمعيين مدشنا بذلك انقلابا في خط حركته وعلاقتها بالدولة الوطنية ومن ادعوا احتكار الدفاع عن مكاسبها وتجسيد رمزيتها. لكن المصالحة لم تتحول إلى أمر فعلي إلا بعد أن اتضحت حاجة المنتقدين في حزب النداء إليها وكل ما تبع ذلك كان عبارة عن مسرحية سياسية وإخراج لصفقة امتنعت النهضة بمقتضاها عن عرقلة صعود قائد السبسي إلى الحكم ووفرت له ولحزبه الدعم السياسي مقابل ضمان أمنها وإعطائها مكانة خاصة في منظومة الحكم.

5 - استراتيجية الاحتواء إلى أين ؟
أعطى زعيم النهضة عنوانا لهذه المناورة الإستراتيجية الكبرى هو «الاحتواء» أي «استيعاب الماضي واحتوائه بدل التنافي معه وإقصائه» (مقال لراشد الغنوشي «الشروق» 26 فيفري 2015). كانت استحقاقات هذا القرار الذي فرضته موازين القوة التخلي عن إدارة الحكومة وعدم المنافسة على منصب الرئاسة ثم القبول بمشاركة في حكومة الصيد لا تعكس الوزن الانتخابي للنهضة، بيد أن هذا الوضع لم يغضب إلا من أزعجتهم مظاهر ما أعتبر «شراكة غير متكافئة». في الواقع، وفي مقابل دعم غير محدود لقائد السبسي وخياراته وقراراته، أصبحت النهضة شريكا كاملا في.....

اشترك في النسخة الرقمية للمغرب ابتداء من 25 د

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115