المساواة في الميراث: المبدأ والضرورة

بقلم المهدي بن غربية وزير العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الانسان

اليوم تحتفي تونس بالذكرى الـ61 لإصدار مجلة الأحوال الشخصية، وقد خطت أشواطا جديدة في مسار إقرار المواطنة الكاملة لكل التونسيين بعيدا عن تصنيفات الجنس واللون والعرق واللسان والدين.
مسار تبنته دولة الاستقلال منذ أوت 1956 وانتهى إلى أن تصبح تونس النموذج العربي والإسلامي الرائد في تمكين المرأة من حقوقها المواطنيّة، رغم عدم استكمال المسار إلى نهايته. اليوم وبسلة القوانين الحامية للمرأة ولحقها الطبيعي والضامنة لمساواتها مع الرجل في مواطنتهما، باتت تونس التي قامت على حلم النهضة الوطنية والدولة الأمة عشية استقلالها، نموذجا يمكن الاقتداء به في تحرير المرأة عبر المراكمة.

مجلة الأحوال الشخصية هي وجه تونس وصورتها، فمن دونها كانت تونس ستكون كغيرها من الدول الإسلامية والعربية، أي إننا قد نعيش في تونس أخرى تشرّع انتهاك حقوق قطاع هام من مواطنيها، بالسماح بتعدد الزوجات، زواج القاصرات، طلاق شفاهي وغيرها من الانتهاكات التي تتعامل مع المرأة كجسد ومتاع يلبي ما يحتاجه الرجل، لا كانسان مستقل بذاته.
إنسانية كاملة عبرت بها المرأة التونسية عن موقفها من الاحداث السياسية التي عاشتها تونس منذ الاستقلال بل وساهمت في جعل مسار الانتقال الديمقراطي في تونس مختلفا عن مسارات بقية دول الجوار، أي اننا دون مجلة الاحوال الشخصية كان مالنا سيكون مختلفا عما هو اليوم، وذلك بفضل النساء.

اليوم وبعد 61 سنة من اختيار تونس، وأساسا الزعيم الحبيب بورقيبة، القيام بخطو جريئة انتصارا للمرأة وإخراجها من خانة «المتاع والتباع» وإقرار حقها في ان تكون مواطنة كاملة الحقوق، لايزال مسار إعادة الحق لأصحابه طويلا.

ومن العقبات التي نقف عندها اليوم هي «المساواة في الإرث»، وان كان وجب شرح أسباب عدم اختيار مؤسسي الجمهورية الأولى الذهاب بعيدا في «ثورتهم» وإقرار هذا المبدإ في مجلة الأحوال الشخصية، هنا يجب العودة لسياقات تلك الفترة، وما تحمله من عناصر جعلت الحبيب بورقيبة الذي امن بمجلة الأحوال الشخصية وجعلها مشروعه الخاص متحديا مشايخ الزيتونة والنخب المحيطة به واقرب زعماء الحركة الوطنية إليه والشارع التونسي برمته في منع تعدد الزوجات وإقرار التبني وحق المرأة في التعليم والعمل وغيرها، لكنه توقف عند هذا الحد.

السبب الرئيسي حسب رأينا الذي جعل بورقيبة يخير عدم إقرار المساواة في الإرث، ليس النص الديني وإنما سبب عقلاني يكمن في أن 70 % من الشعب التونسي منتشر في الأرياف، أي أن طبيعة نشاطه الاقتصادي ترتكز على الأرض، التي كانت تمثل أسس طبيعة الملكية للتونسي عشية الاستقلال، لذلك خير بورقيبة التراجع من منطلق برغماتي عن قضية المساواة في الميراث، لعدم وجود أرضية يمكن الارتكاز عليها في إقرار هذا الحق.

لكن اليوم وبعد 61 سنة على الاستقلال وعلى بناء الدولة الحديثة تغيرت تونس وشهدت انتقالا ديمغرافيا حيث ان معدل أبناء الأسرة بات طفلين، أي أن الطفلين ان كانا ابنا وبنتا يعيشان ذات التفاصيل اليومية في الأسرة التونسية ويتقاسموان التضحية مع إبائهما من اجل اقتناء المسكن العائلي لا يمكن اليوم إقناعهما أن للذكر مثل حظ الأنثيين.
من جانب ثان تغير التوزيع الحضري للمجتمع التونسي وانتشاره بات نقيضا لما كان عليه سنة 1956 فاكثر من ثلثليه يقطنون في المجال الحضري/المدن مقابل انحسار انتشارهم في المجال الريفي/القرية انتقل ليؤثر على طبيعة الملكية لدى التونسي، فمن ملكية ارض وما يرمز إليها إلى ملكية عقارات أصول منقولة او غيرها من أنماط الملكية الحديثة.
هذا التغير ناتج عن طبيعة النشاط الاقتصادي الذي انتقل من نشاط فلاحي وبعض المهن والحرف إلى نشاط صناعي وخدماتي دمج المرأة في سوق الشغل وتدريجيا ادخل تغييرات في الأسرة التونسية، التي بات معدل إفرادها أربعة.

تغييرات تستوجب اليوم ان يقع أخذها بعين الاعتبار في مناقشة ملف المساواة في الإرث، ووضع حد لتاريخ من الانتهاك، فالمرأة التونسية اليوم ورغم المكانة التي نالتها عن استحقاق لا تزال بعيدة كليا عن الرجل إذا تعلق الأمر بالملكية. فمعدل تملك المرأة مقارنة بالرجل جد ضعيف يحول دون ان تبادر ببعث مشاريع والمساهمة أكثر في صناعة الثروة ومراكمتها.

خلل لا تعيشه تونس بمفردها، إنما هو نتاج لثقافة «ذكورية» هيمنت على جل الدول والمجتمعات، وجعلت من عملية انتقال الملكية حكرا على الرجال بإقصاء المرأة بعدة أشكال مختلفة، بعضها يستند على قراءة غير سليمة للنص الديني.

نحن اليوم في تونس وفي المجتمعات الإسلامية، نقوم بتأصيل التمييز السلبي ضد المرأة من منطلق ديني لتغليف الدافع الرئيسي وهو هيمنة الفكر ألذكوري/الأبوي ان تعلق الأمر بتقسيم الملكية بين الورثة، بشكل يحرم المرأة ويسلبها حقها لصالح إخوتها من الذكور.

لذلك وجب اليوم الوقوف عند هذه النقطة وفتح النقاش بشأنها من اجل الوصول الى رفع الظلم ووضع حد للتميز السلبي، الذي لم تعد الحجج السابقة قادرة على تبريره بأي شكل. اذ لا يعقل اليوم في ظل التطور الراهن ان يعمد الناس إلى تأويل للنص الديني يشرع سلب المرأة حقها في ان ترث سواسية و أخيها.
حتى ان رفع المناهضون جحة أن النص الديني والإسلام يمنعان ذلك انطلاقا من تأويل خاص بهم مقتطع من سياقاته التاريخية يفقد الإسلام احد ركائزه وهو ملاءمته للعصر وترك هامش للإنسان لتأويل النص انطلاقا من مقاصده، التي سمحت بان التخلي عن تطبيق الحد والسماح بتعدد الزوجات والتبني وكل هذا تم بدعم من النص القرآني وبتأويل يجيز ما تحقق، أي أننا

اليوم قادرون على إعادة قراءة النص الديني قراءة معقلنة تحترم الحرية الدينية وقيم المواطنة في دولة يتساوى فيها المواطنون بغض النظر عن دينهم وجنسهم.

مقاصد الإسلام أعلنت صراحة حينما تم قبل 14 قرنا قطع خطوة نحو التمكين ومنح المرأة جزءا من الملكية، واليوم بات لزاما علينا ان نواصل المسار بان نتبنى تأويلات عدة تقر مبدأ المساواة في الإرث، وان يقع الوصول الى صيغة تتماشى مع مقتضيات الدستور، الذي جعل التونسيين سواسية لا تمييز بينهم كمواطنين.
دستور الجمهورية الثانية ينطلق من الإقرار أن الاشتراك في الوطن قائم على المواطنة بغض النظر عن العرق واللون مما يجعل إقرار المساواة في الإرث أمرا حتميا يجب أن يدافع عنه المثقفون والمفكرون والسياسيون، فدورهم دفع المجتمع نحو التطور لا تكبيله.

ان لحظات التأسيس صعبة وتحتاج إلى شجاعة ووعي تام كما كان عليه الأمر لدى الطاهر الحداد والحبيب بورقيبة وغيرهما، اليوم ونحن نحتفل بالذكرى الـ61 لمجلة الأحوال الشخصية وجب على النخب أن تتحلى بهذه الشجاعة وان تعلن أن المعركة اليوم هي معركة «المساواة في الإرث» وان نتخلى عن مقولة «ليس بالوقت المناسب» فكل وقت هو مناسب لإرجاع الحق لأصحابه.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115