تونس و الإصلاحات الاقتصادية الموجعة: أي شكل للعلاقة بين حكومة والاتحاد ؟

إنّ من يتولى التدقيق في تفاصيل المشهد السياسي الحالي سيكتشف أن الحقيقة مختلفة عما تظهره الصورة من بعيد، فالصورة ومن مسافة بعيدة تبرز على أنها انتصار لرئيس الحكومة يوسف الشاهد على حساب خصمين، حركتي النهضة والنداء، وخروجه من أزمة اقوي، لكن الاقتراب والنظر في الصورة يكشف تفاصيل تبين ان الشاهد لم يخرج من الأزمة إلا وقد استنفذ

«أوقاته الطيبة» أو كما يقول المثل الفرنسي «Après blanc pain, pain bis ou faim» .

اطل قادة الحركتين صاحبتي الأغلبية البرلمانية، وأعلنا عن حربهما المفتوحة ضد الشاهد، التي تمثلت في مطالبته بإعلان عدم ترشحه للانتخابات الرئاسية في 2019 وبتطبيق ما سيقرره الحوار الوطني الاقتصادي لإنقاذ البلاد من أزمتها التي استمرت مع حكومة الشاهد. النهضة والنداء ظنا انه بخروجهما معا وإعلان هذا الموقف الحاد من حكومة الشاهد فان الجميع سيصطف خلفهما، اما لمصلحة او بقاعدة عدو عدوي صديقي، لكن حساباتهما فشلت في توقع رد فعل طرفين.

عمليا لم ينقذ الشاهد من بين يدي النهضة والنداء إلا رئاسة الجمهورية واتحاد الشغل، فان أطلت الرئاسة وأعلنت أنها ضد كل ما اقترحته الحركتان، من حظر ترشيح وإقامة حوار اقتصادي، بل أنها أقرت بحق الشاهد الترشح وبعدم جدية الدعوة لحوار اقتصادي من قبل الحركتين.

حدة موقف الرئاسة الذي جاء بعد 24 ساعة عن صدور موقف الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو موقف اعتبر أن ما صرح به الغنوشي هو «انقلاب ناعم» وان لا معقولية لطلب عقد حوار وطني اقتصادي في ظل توافقات سابقة في وثيقة قرطاج، إضافة إلى تحذيرات من أن الاتحاد لا يقبل أن تقاد البلاد إلى أزمة سياسية جديدة. موقفان جاءا لانقاذ الشاهد من مصير رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد الذي أعلن عن نهاية عهده في حوار تلفزي من قبل رئيس الدولة قبل أكثر من سنة، فعلى عكس الصيد وجد الشاهد دعما وحماية من قبل رئاسة الجمهورية والاتحاد العام التونسي للشغل في أزمته الأخيرة.

لكن بعيدا عن نشوة الفوز يكمن الخطر في الدعم الذي وجده الشاهد. خطر ليس آليا بقدر ما هو «مبطن» فرئاسة الجمهورية التي أنقذت الشاهد وجهت إليه بدورها رسالة شديدة الوضوح وهي انها الوحيدة القادرة على حمايته ومن دونها لا سند له، رسالة ستدفع الشاهد الى محاولة تجنب اي سوء فهم او فعل يفهم منه على انه تحدي او خروج عن الطاعة.

اما بالنسبة لاتحاد الشغل، فالشاهد سيجد نفسه امام مأزق حتمي، فهو في أزمته وجد الاتحاد هو القوة الكبرى الوحيدة في صفه، مما يجعله حريصا على كسب الود وتجنب الصدام معه، وهنا مربط الفرس واصل الخطر القادم على حكومة الشاهد. خطر يتجنب وزراء الحكومة التعليق او القول به، كما هو الأمر بالنسبة للاتحاد العام التونسي للشغل او رئاسة الجمهورية.
لكن رهانات المرحلة القادمة ستضع الجميع أمام هذه الحتمية، فالحكومة مطالبة اليوم اكثر من اي وقت مضي ان تبادر بإطلاق إصلاحاتها الكبرى، واستكمال حربها على الفساد بل والتصعيد من نسقها، فان لم تقم هي بذلك، قدمت لغريمها اسباب اسقاطها وسيجدون في ظل عدم اخذ الحكومة بزمام الامور والمبادرة دعما من رئاسة الجمهورية.

دعم يبدو انه سيكون لزاما على رئاسة الجمهورية، التي قد تكرر ما حدث مع الصيد، فقبل اشهر قليلة عن ابعاده كانت الرئاسة تدعمه، لكن الصيد وحكومته اختارا بعد التحوير الوزاري عدم القيام باي شيء لتجنب اغضاب اي طرف، مما ادى في النهاية الى إسقاطها لفشلها في ادارة المرحلة. هاجس إغضاب اي طرف سياسي، اتحاد الأعراف، اتحاد الشغل ، الاحزاب ، الرئاسة جعل حكومة الصيد مكبلة غير قادرة على ادارة الدولة وهذا ان وقعت فيه حكومة الشاهد سيكون إعلانا عن قرب نهايتها.

لكن في المقابل اخذ زمام المبادرة والفعل قد ويؤدي بالشاهد الى الصدام مع اتحاد الشغل، خاصة واذا تعلق الامر بملف الإصلاحات الكبرى والضرورية، فالحكومة والاتحاد لا يتقاسمان رؤية مشتركة في حل الملف، سواء في ما يتعلق بالترفيع في سن التقاعد الى 65 سنة او خفض نفقات الدعم او تجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية او التفويت في مؤسسات عمومية تعاني من عجز وخسائر كبرى.

جملة من الملفات التي يرفض الاتحاد ان يقع تجاوز خطوطه الحمراء بشأنها، لكنه في المقابل يقول في كواليسه انه قابل للتفاوض والبحث عن حلول مشتركة، وهنا سيحرص الاتحاد على ان يدفع حكومة الشاهد مرة اخرى الى التراجع امامه دون ان يضيق الخناق كليا عليها. هذا الامر ان تم سيكون بمثابة إعلان رسمي عن فشل حكومة الشاهد في تنفيذ الاستحقاقات التي تعهدت بها مع صندوق النقد الدولي وستضعها في موقف غير مريح داخليا او خارجيا مما قد يعجل باستقالتها.

الخيار الاخر امام حكومة الشاهد هو الصدام مع الاتحاد من اجل تمرير الاصلاحات وخسارتها هنا ستكون ذاتها، فهي ستعادي الطرف السياسي الوحيد الذي ساندها ودعمها، مما يعني انها ستكون دون حماية ليس امام الاتحاد بل أمام حركتي النهضة والنداء اللتين لن تغفرا للشاهد انتصاره عليهما، وستختاران القفز في مركب الاتحاد او اي طرف يعلن الصدام مع الحكومة، مما سيدفع برئاسة الجمهورية في الاخير الى التدخل لتجنب ازمة اكبر وقد يكون ثمنها اقالة حكومة الشاهد.

الإقالة او الاستقالة ليس قدرا حتميا على حكومة الشاهد لكنها ستكون مضمونة ان اخطأ الشاهد في قراءة الوضع الحالي وفي رسم سياسته التي ستكون محكومة بعدة اكراهات كبرى واولها قانون مالية 2018 المنتظر انطلاق التحكيم بشأنه في الأيام القادمة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115