موعد الأربعاء: التهرب الجبائي والنوايا الطيبة

تشترك أحداث وثائق الباناما والتّحرّكات الأخيرة على المستوى الوطني للأطبّاء ومن بعدهم المحامين والرّافضة لتطبيق أحكام الفصل 22 من قانون الماليّة لسنة 2016 في كونها قد أعادت إلى السّطح موضوع التّهرّب الجبائي.
وإن انغمست بعض وسائل

الإعلام في حرب المزايدات السّياسيّة والمتعلّقة بمدى تورّط بعض الأسماء أو بضرورة «معاقبة» بعض المهن الحرّة بوصفها «تحتكر الثّروة في تونس»، إلاّ أنّ هذه المزايدات لا يجب أن تخفي الخطر المتزايد لهذه الظّاهرة على مستوى ميزانيّة الدّولة وإعادة النّفس للاقتصاد.

وموضوع التهرّب الجبائي في تونس قديم قدم الجباية نفسها. إذ ارتبط في مخيّلتنا بأشكال النّضال ضدّ جبروت واستبداد السّاسة الذين كانوا يسلّطون جباية مجحفة وغير منصفة على الأفراد. فبالعودة لبضع عشرات السّنين فحسب، كان البايات يسلّطون الجباية على المناطق الدّاخليّة دون الولايات الكبرى وعلى أفراد الشّعب من الفلاّحين دون المقرّبين من الحاشية. فكان التّحيّل الضّريبي وسيلة من وسائل مقاومة ظلم واستبداد السّاسة، خاصّة وأنّ إعادة توظيف هذه الموارد الجبائيّة لم يكن يصبّ في إحداث أو تحسين المرافق العامّة، بقدر ما كان يصبّ في خزينة الحكّام أنفسهم. وقد استمرّ الوضع رغم بعض الإصلاحات على هذه الحال، حتّى أصبح التّحيّل والتّهرّب الضريبي ثقافة في تونس. فارتبطت «مشروعيّة» التّهرّب بفقدان الحكّام لمشروعيّتهم الّسياسيّة ولفقدان الأفراد لإحساسهم بالمواطنة، إذ لا أحد ينسى أنّ أوّل الإدارات التي تعرّضت لـ»ديقاج» أيّام الثّورة كانت الإدارة الجبائيّة التي ارتبطت في وجدان الأفراد بالفساد المالي للحكّام.

الإشكال الحقيقي للجباية في تونس أنّ الانتخابات الدّيمقراطيّة التي جاءت بعد الثّورة قد منحت مشروعيّة الحكم بالنّسبة للحكومات المتعاقبة، ولكنّها لم تنجح في تغيير ثقافة التّهرّب الجبائي ولا في تكريس المصالحة بين الجباية والمواطن. ثنائيّة المشروعيّة السّياسيّة والمواطنة الجبائيّة لم تتركّز بعد الثّورة، على خلاف بقيّة الدّول الدّيمقراطيّة التي ارتبط فيها قبول واستبطان المنظومة الجبائية بتركيز نظام سياسي ديمقراطي.

تقتضي المواطنة أن تكون الجباية، كأداء الخدمة العسكريّة تماما، واجبا وطنيّا وأن ترتبط، من ناحية، بمشروعيّة الحكم، ومن ناحية أخرى، بإجراء الإصلاحات اللاّزمة على المنظومة الجبائيّة والتي تشعر المواطن بأهمّيّة أدائه للواجب الأسمى. إحساس المواطن الحالي بأنّ لا شيء قد تغيّر لن يساهم في تجاوز هذه الثّقافة ولا في محاربة التّهرّب ولا التّهريب. بعض الأرقام المخيفة تشير إلى عبء هذه الثّقافة الموروثة على موارد الدّولة، في حين تشير أرقام أخرى إلى أنّ عدد الميليارديرات في تونس قد ارتفع بنسبة 17 بالمائة منذ 2011 وأن عدد المهربين قد ازداد في غياب واضح للسلطة العقابية للدولة، لتؤيّد إحساس الطّبقات الوسطى بالإجحاف مقارنة ببعض المهن الأخرى. النّصوص القانونيّة لم تتغيّر في مجملها، والإدارة الجبائيّة لا زالت تعاني من ضعف الإمكانات البشريّة والماليّة، ومن صورة أداة الحاكم نظرا لتضخّم صلاحيّاتها، في حين تبقى الإصلاحات متعثّرة ومرتجلة.

الأطبّاء والمحامون، تماما كما حدث في أواخر الثّمانينات متمسّكون بنواياهم الطّيّبة في أداء الواجب الضّريبي، ولكن حسب طريقتهم الخاصّة. والإدارة متمسّكة، كذلك على طريقتها الخاصّة، بتغيير المنظومة الجبائيّة المطبّقة على المهن غير التّجاريّة، خاصّة وأنّها لا تساهم، رغم النوايا الطيبة، سوى بـ3 بالمائة من مجموع الضّريبة على دخل الأشخاص الطّبيعيّين حسب أحد تقاريرها لسنة 2014. تململ الأطبّاء ليس سوى رفضا لإلزامهم بمقتضى هذا القانون بإجباريّة تقديم كشوفات أتعاب مرقّمة قد تصبح طريقة مباشرة لمراقبة مداخيلهم.
تستمرّ عمليّة ليّ الذّراع، ويبقى الواجب الجبائي رهين الإحساس بالمواطنة ولكن خاصّة رهين الوعي السياسي بضرورة تكريس الإصلاحات الجبائيّة الناجعة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115