قهوة الأحد: هل يمكن اختزال الديمقراطية في النظام الانتخابي التمثيلي ؟

تابعنا هذه الأيام الأحداث على وقع الإيقافات التي طالت عديد المهربين والمتهمين بالفساد.وقد أثارت هذه الحملة اهتمام الرأي العام باعتبار أن محاربة الفساد ومكافحته هي من أهم مطالب الثورة إلى جانب الحرية والديمقراطية ونهاية التهميش الاجتماعي وعدم التوازن الجهوي.

وهذا الاهتمام والمساندة التي لقيتها هذه الحملة على المستوى الشعبي تشير إلى أهمية هذه المسألة التي نخرت أركان النظام السابق وساهمت في نهاية مشروعيته وسقوطه.

ولئن عرفت بلادنا تطورا هاما وتطورات كبيرة على مستوى التحول الديمقراطي فإنّ عديد المطالب والاستحقاقات الأخرى للثورة مازالت تنتظر التحقيق والانجاز ومن أهم هذه المسائل قضية محاربة الفساد التي عرفت تأخيرا كبيرا بالرغم من الترسانة القانونية والمؤسسات التي تم إنشاؤها من اجل القضاء على هذا الداء بل بالعكس فقد أكدت عديد الدراسات أن هذا الداء تمكن من مفاصل الدولة وعرف تطورا كبيرا لم نعرفه حتى قبل الثورة.

وكما أشرت فقد أثارت هذه المسالة اهتماما كبيرا لدى الرأي العام وتطرق السياسيون والملاحظون إلى عديد الجوانب من هذه الحملة ضد الفساد ولعل أحد أهم جوانبها هو علاقة هذه الشبكات بالمسؤولين السياسيين وعديد النواب وجزء من النخب من ضمنهم بعض الصحفيين والناشطين السياسيين وقد أثارت العلاقات وارتباط بعض المسؤولين السياسيين بشبكات الفساد الكثير من السخط والاستنكار لدى الناس وتحول هذا السخط إلى مأخذ على النظام الديمقراطي وهذه العلاقة وتداخل الفساد بالسياسة ليست المأخذ الوحيد في بلادنا عن الديمقراطية فقد أشار العديد من الملاحظين إلى عديد مواطن الضعف الأخرى والوهن في التجربة الديمقراطية في بلادنا بالرغم من الخطوات الهامة التي تمّ قطعها فالعلاقات بين مختلف السلط والتأخير الذي يشوب عمل السلطة التشريعية في التعاطي مع مشاريع القوانين ثم تآكل الحزب الذي

ربح الانتخابات وعدم استقرار كتلته النيابية لمساندة الحكومة هي مظاهر لوهن و حتى بداية تأزم في عمل نظامنا الديمقراطي تجرأت بعض القوى السياسية على اعتبارها أزمة حكم.

وأزمة وهن الديمقراطية هي ظاهرة لا تقتصر على بلادنا بل تعيش على وقعها كذلك اعتى واهم الديمقراطيات في العالم ولعل من ابرز سمات هذه الأزمات والتحدي الذي تواجهه هذه الأنظمة هي تراجع الأحزاب السياسية التقليدية وتنامي القوى الشعبوية التي صبت جام غضبها ونقدها على النخب السياسية التقليدية وأعلنت الثورة على النظام الديمقراطي ومبادئه

جالت هذه الملاحظات في خاطري وأنا أطالع الكتاب الجديد للفيلسوف الفرنسي Jacques Ranciére بعنوان «En quel temps vivons-nous» (في أي وقت نعيش ؟) وهي عبارة عن حوار مكتوب مع الكاتب والصحفي Eric hazan (الصادر منذ أيام

) عن دار نشر صغيرة اسمها La Fabrique ولكنها معروفة باعتبارها نشرت كتبا معروفة وهامة .

والفيلسوف Jacques Ranciére ليس معروفا عند الرأي العام كـ Bernard Henry levy وسارتر وAlthusser وغيرهم من كبار الفلاسفة الفرنسيين المعروفين على المستوى العالمي ولكنه في رأيي من أهم المفكرين الفرنسيين وكان له تأثير كبير على الساحة الفكرية الفرنسية والفلسفية بصفة عامة منذ منتصف ستينات القرن الماضي إلى يومنا هذا

ولد هذا الفيلسوف في الجزائر سنة 1940 وانتقل إلى فرنسا حيث واصل دراسته الفلسفية في إحدى أهم المدارس هناك وهي Ecole normale supérieure تتلمذ هناك على يد الفيلسوف الماركسي المعروف Louis Althusser وساهم معه في إعادة قراءة الفكر الماركسي وبناء التيار البنيوي وقد عرفت هذه المحاولة من خلال كتاب جماعـي صدر سنة 1965 تحت عنوان lire le capital أو «إعادة قراءة رأس المال» إلى جانـب ثلاثة فلاسفــة آخـرين وهم Etienne Balibar وRoger Establet وPierre Machey ومن خلال إعادة قراءة الكتاب الضخم لماركس «راس المال» يؤكد هؤلاء الفلاسفة وهذا التيار الفلسفي على أهمية البنى والهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في تحديد مصير الأفراد والمجموعات والشعوب التي تفقد هامش الحركة والفعل أمام هيمنة وسيطرة هذه الهياكل التي تشل إرادة الأفراد ولا تترك لها مجالا للخروج و التحرر من هذه الصيرورة التاريخية التي ترسمها لها وكانت هذه الآراء مهيمنة لا فقط على الفكر الماركسي بل كذلك على الفكر الفلسفي بشكل عام لتجعل من الهياكل والبنى المحدد الرئيسي لحركة التاريخ

إلا أن ثورة الشباب في حركات ماي 1968 دفعت الفيلسوف Jacques Ranciére إلى القيام بقراءة نقدية ومراجعة جذرية لأطروحاته السابقة والانسلاخ عنها ففي رأيه أثبتت هذه الثورات أن الأفراد والمجتمعات قادرة في ظروف تاريخية معينة على التحرر من هيمنة الهياكل والبنى السياسية والمجتمعية لتفتح مجالا جديدا للانعتاق والثورة وقد عبر Ranciére عن هذه المراجعات والقراءات النقدية لإرث أستاذه ومعلمه التوسير في كتاب هام صدر سنة 1974 تحت عنوان «Leçon d’Althusser» و قد أثار هذا الكتاب الكثير من الجدل والاهتمام باعتباره ساهم إلى جانب الفلاسفة الجدد «Les nouveaux philosophes» مثل Bernard henry levy وGluksman في فتح نهاية اللحظة البنيوية في الفكر الفلسفي وإعادة الاعتبار لإرادة الفعل للأفراد والمجتمعات والشعوب والخروج من الحتمية وهيمنة البنى والهياكل المجتمعية .

ومنذ تلك الفترة سينصب اهتمام Ranciére على المجتمعات الديمقراطية وسيقوم بنقد الفكر الماركسي الذي يرى أن تحرير الإنسان وإنعتاقه يتم من خلال الخروج من الأنظمة الديمقراطية الليبرالية وبناء المجتمعات الجديدة الشيوعية التي تنبا بها ماركس والتي تنتفي فيها كل الفوارق الاجتماعية والاقتصادية

وقد نقد Ranciére هذه الفكرة الأساسية للمنظومة الماركسية وأكد على أن المسالة الأساسية من الناحية الفلسفية ومن الناحية السياسية هي العمل على فتح المجتمعات الديمقراطية وإعطاء المجال للأفراد للتحرك والانعتاق وتحقيق آمالهم وأحلامهم وقد أعطى Ranciére في كتابه الهام الصادر سنة 2005 تحت عنوان «La haine de la démocratie» قراءات جديدة للنظام الديمقراطي واعتبر أن الديمقراطية ليست اختيار ممثلي الشعب بل هي سلطة من لا يمكن لهم ممارسة السلطة .

وكان هذا التحديد نقطة انطلاق عند الفيلسوف لقراءة جديدة لازمة الديمقراطية في البلدان المتقدمة وهي نتيجة للخلط بين النظام الانتخابي التمثيلي والديمقراطية

فالأزمة تكمن حسب هذا الفيلسوف في اختزال الديمقراطية في العملية الانتخابية لاختيار ممثلي الشعب . وهذا الخلط بين التمثيلية الانتخابية والديمقراطية يخلق حسب الفيلسوف نخبة سياسية أو سياسيين محترفين سيحتكرون السلطة بعيدا عن مطامح وآراء وآمال الشعب
وقد أكد Ranciére على هذه الفكرة في كتابه الجديد وأشار إلى أنها استفحلت أكثر وأكثر في المجتمعات الما بعد حداثية التي نعيشها اليوم فساهمت الآلة الاتصالية في خلق نخب سياسية جديدة تجيد وتحسن التحليل والحديث في البلاتوات التلفزيونية وتتصدر استطلاعات الرأي وهي بعيدة كل البعد عن المشاغل اليومية للناس ومصالحهم

ولا يكتفي Ranciére بالنقد لما آلت إليه الديمقراطية وأزمتها – بل يقترح في هذا الكتاب وفي عديد المؤلفات الاخرى طرق الخروج من أزمة الأنظمة الديمقراطية ونقطة الانطلاق التي يؤكد عليها هي ضرورة الفصل بين الديمقراطية والتمثيلية الانتخابية والتأكيد على أن جوهر وكنه الديمقراطية يكمن في مبدإ المساواة بين المواطنين في المجتمعات الحديثة .

ويشير Ranciére إلى مسارين متلازمين للخروج من هذه الأزمة . المسار الأول يهم تحديد وضبط بطريقة جذرية مبدأ التمثيلية من خلال عديد القواعد كإعطاء ولايات انتخابية قصيرة وتأكيده مبدأ عدم التجديد ورفض إعطاء أكثر من ولاية واحدة – أما المسار الثاني فيهم فتح مجالات أخرى للعيش المشترك وجعل الديمقراطية لا تقتصر على أهميتها على المسار الانتخابي التمثيلي.ويشير إلى أهمية النشاط الجمعياتي ودور المجتمع المدني الذي يساهم في بناء سلطات ديمقراطية مستقلة وقاعدية قادرة على بناء علاقات مجتمعية واطر جديدة للعيش المشترك والمواطنة.

إن الاطلاع على أفكار Jacques Ranciére وقراءة مؤلفه الأخير «En quel temps vivons-nous» هام نظرا لعمقها ودسامتها الفكرية إلا أن هذه القراءة هامة أيضا باعتبارها لا تقتصر على الجانب الفكري والفلسفي على أهميته فهذا الكتاب يطرح بعض الأفكار والآراء للخروج من أزمة الديمقراطية وتجنب مطباتها كوضع بعض الضوابط للنظام التمثيلي والتأكيد على مجالات أوسع لممارسة الديمقراطية والعيش المشترك – وهذه الأفكار ليست نظرية فقط بل أثرت تأثيرا كبيرا في السياسات العامة .فمثلا لو ندرس القانون الجديد الذي تعده الحكومة الفرنسية الجديدة والذي التزم به الرئيس الفرنسي Emmanuel Macron أثناء حملته الانتخابية فسنجد عديد التأثيرات من هذه الأفكار والآراء التي قدمها Ranciére وفي رأيي فانه يمكن لنا استنباط بعد الأفكار والآراء من هذه التجارب والتحاليل من اجل حماية ديمقراطيتنا الناشئة من بعض الأمراض التي بدأت تلم بها ووضعها في القوانين الانتخابية القادمة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115