قراءة في كتاب محمّد الشرفي «معركتي من أجل الأنوار»(2015)

أنا معجب بمحمّد الشرفي. أحبّ ما كتب وأحبّ ما حمل من فكر ومن قيم. لم ألتق بالرجل وإن مرّة. قرأت له كتابه «اسلام وحرّيّة» (1999) وأعجبني الكتاب لما وجدت فيه من حسّ ومن منهجيّة. محمّد الشرفي يحسن صناعة الكلام وله قدرة على ترتيب الحجج. هو أستاذ جامعيّ قدير.

له منشورات علميّة عدّة وله نضال متّصل. منذ أن كان طالبا حتّى آخر أيّام العمر، كان الشرفي مناضلا يساريّا، يسعى لنشر الأنوار ومحاربة الحيف والظلام. أنا معجب بمحمّد الشرفي ويؤسفني أنّي لم ألتق به وإن مرّة...
قرأت كتابه الأخير «معركتي من أجل الأنوار» الصادر بالفرنسيّة سنة 2015 في طبعة ثانيّة وفي طبعة اولى سنة 2009، وهو كتاب ممتع، كتب بلغة سهلة. في الكتاب، ضمّن الشرفي أطوار حياته منذ كان طفلا في أحد جنان صفاقس حتّى تنحيّته من الوزارة سنة 1994. الكتاب سيرة ذاتيّة وفيه عودة الى ما كان في تلك العقود من مسائل مجتمعيّة ومن صراعات سياسيّة ومن مدّ وجزر يوميّ وما كان عاش الرجل من عسر أحيانا كثيرة ومن يسر أحيانا أخرى...

مناضل له حسّ ومشروع
محمّد الشرفي رجل متميّز. كذلك أراه. هو أوّلا مثقّف، مرهف الحسّ وقد كسب من العلوم ما استطاع وتفتّح على المحيط شرقه وغربه وأخذ من الرأي الحرّ ما انتشر. طالبا في جامعة باريس، درّس الحقوق في كلّيّة العلوم القانونيّة بتونس وهو أوّل تونسيّ متحصّل على التبريز في الحقوق سنة 1971. كانت للرجل اصدارات علميّة متميّزة وكانت له مساهمات فكريّة وحقوقيّة سابقة لزمانها وإصلاحات مختلفة. لم يكتف محمّد الشرفي بقاعات القسم يغلق أبوابها ليقول لطلبته درسا، كما نرى في الجامعات اليوم، غالبا. الشرفي مفكّر نشيط يقول ما يرى في الساحات، ينشر فكره في الناس حتّى يفعل فكره ما هو مرجوّ. طول حياته، كان مناضلا حقوقيّا. في اعتدال، كان يسعى ولا يقنط. صامد، ثابت في مواجهة قوى الصدّ من أهل اليسار مرّة ومن أهل السلطة والمتزمّتين مرّات أخرى...

حياة الشرفي معركة. هي صراع متّصل. دون كلل، كان يدفع بمن حوله الى إعادة النظر، الى الحثّ الى ما هو أصلح باعتبار ما كان من موازين قوى وما كان في الظرف من خصوصيّة ومن ممكن. ما كان الشرفي متطرّفا، يحمله الغلوّ. ما كان في ذاك الزمن المضطرب راديكاليّا كما هو الشأن للعديد من صحبه، للعديد من اليساريين. على عكس التيّار الجارف وقتها، كان الشرفي رصينا، يمشي في ما هو ممكن، يحسب للظرف كلّ حساب. في فترات عدّة، كان في خصام وأحيانا في قطيعة مع بعض أفراد جماعته وخاصّة منهم أولائك الذين لا يرون من الحلول غير أقصاها ومن سبل التفاوض غير المواجهة.

كان الشرفي مناضلا عمليّا، يدرك ما كان في الوضع من ملابسات ومن قوى. رغم اعتدال مواقفه، لم يكن الشرفي من المساومين بالقضايا ولا هو بالمتخاذل لمّا يمسّ الأمر بما كان من ثوابت... علاوة على نضالاته السياسيّة والحقوقيّة، كان الشرفي من النقابيين وهو المؤسّس لنقابة أساتذة التعليم العالي لكنّه يختلف عن النقابيين اختلافا جوهريّا ولا هو بمتّبع لما يفعلون. يقول الشرفي وكان وقتها وزيرا يواجه الاضرابات في كل قطاعات التعليم، في صفحة 258 «مطلب النقابيين هو دوما الزيادة في الاجور والتخفيض في العمل». كما تعوّدنا من النقابات وكما نرى البارحة ونرى اليوم. على عكس هذه النظرة السطحيّة للنضال النقابيّ، كان الشرفي في الآن ذاته حريصا على الدفاع على أجور المدرسين وحريصا على أن يكدّ هؤلاء ويحسّنوا من الجودة ومن المردود.

فكر عمليّ وقيم ثابتة
كانت لمحمّد الشرفي خصومات مختلفة. كانت له صراعات مع رفاقه في السجن ومع آخرين. كانت له خاصّة مجابهات مع معارضيه في الفكر والتمشّي، أولائك الذين لهم غايات أخرى ومصالح مخفيّة ومختلفة. لأنّه يحمل مشروعا وله نظر تقدّميّ، كان لمحمّد الشرفي معارضون كثر وبخاصّة منهم الجماعات الاسلاميّة وقد تشدّدوا معه وألهبوا الشارع ضدّه ورفعوا في وجهه التنديد والسبّ والتكفير. ألم يخرج الطلبة الاسلاميون في الشوارع في مظاهرات عدّة، يندّدون، يهتفون «لا اله الّا الله الشرفي عدوّ الله»؟ (ص. 242). اعترضت الجماعات الاسلاميّة من أتباع حركة النهضة وطلابها سرّا وعلانيّة سبيله وعطّلت مشاريعه الاصلاحيّة ورمته بالكفر وبمناهضة الاسلام وبمعاداة المسلمين. قاوموا بشراسة قصوى ما كان يحمل من مشروع تحديثيّ ومن قيم تحرّريّة ومن نظر يتجاوز الفرع والحدود. ما كان محمّد الشرفي بمتنكر للإسلام ولا هو بجاحد لما كان للدين من فضل ومن تأثير على الأمّة. كان الشرفي «متشبّعا بالحضارة العربية وبالدين الاسلاميّ» (28) وكان لما أتاه الرسول محمد وصحبه من ملحمة وما أتته الثورة الفرنسيّة من تحرّر أثر كبير (26)...
كانت معارضة الاسلاميين راديكاليّة لأنّ الشرفي يعتقد أنه يجب على المسلمين أن يدخلوا العصر ويأخذوا من الحداثة حتّى تتفتّح بصائرهم ويتمكّنوا من أدوات القوّة والعولمة. كيف للعرب وللمسلمين أن يخرجوا ممّا هم فيه من جهل ومن بؤس إن لم يعيدوا للعقل مركزيّته وإن لم يأخذوا بأدوات العلم والتعلّم وبالعمل؟ يكتب الشرفي في صفحة 167 «أعتقد اعتقادا راسخا، في ظلّ اقتصاد معولم، أنّ التعليم والتكوين المهنيّ والعمل الجادّ والجيّد للمواطنين هي عناصر التطوّر»...
أنا معجب بمحمّد الشرفي وأرى في ما أتاه من فكر ومن فعل، في ما عاشه من نضال لتحقيق الأفضل لهذا البلد هو مفخرة لهذا البلد. في نظري، محمّد الشرفي بما كتب وبما أتى من رأي جديد ومن إصلاح تقدّميّ هو منارة مضيئة لتونس ولسوف يظلّ فكره وقّادا، يهدي...

أهمّ محطّات حياته
كتابه «معركتي من أجل الأنوار» كتب بفرنسيّة رشيقة، سهلة. في نحو 300 صفحة، عاد الشرفي الى كلّ مفاصل حياته مذكّرا ما كان له من سيرة وما كان له من نضال في السياسة وخارج السياسة. وفي ما يلي سأتناول أهمّ ما جاء في الكتاب من محطّات ولسوف أختار منها ما كان لقلبي أقرب.

محمّد الشرفي صبيّا
عاش محمّد الشرفي وعائلته في جنان بصفاقس. كان وحيد أمّه وأبيه ولا أحد من حوله في عمره يتحدّث اليه، يلعب معه. كان يجالس الكبار وبخاصّة والده وعمّه الرجل الورع وإمام المسجد والنقابيّ. كان الأب عصيّ الطبع وكان الطفل معجبا بأبيه أمّا أمّه فكانت به دوما رحيمة، عطوفة. لم تكن طفولة الشرفي «سعيدة» وهذا أبوه وعمّه يراقبان ما يأتي ويتابعان ما يقول. في المدرسة، تعلّم الفتى النقد وإعمال العقل على خلاف ما كان يحفظ في البيت من دين ومن حدود. كذلك نشأ محمّد الشرفي في بيئتين مختلفتين. كان يحمل بين أضلعه ثقافتين متباينتين: ثقافة الاسلام التقليديّة وثقافة الفرنسيين العصريّة. كان الأب صاحب «عقليّة ضيّقة» وفي المدرسة كان الفتى يأخذ فكرا متحرّرا. أدرك الصبيّ أنّه «ينتمي الى عالمين مختلفين، الى مدرستين، الى طريقتين في التفكير كانتا على طرفيّ نقيض» (ص.31 و32 ). ولأنّه كان وحيد أبويه، كان الصبيّ يتابع ما كان يدور بين الكبار من حديث ومن جدل. أيّامها، كان الحديث الأهمّ هو النضال الوطني وكيف السبيل الى التحرّر وما قاله الزعيم بورقيبة وما كان يجب من مقاومة. كانت القضيّة الفلسطينيّة هي الأخرى قائمة وقد شغلت الناس. منذ الصغر، سكنت الصبيّ السياسة وأحبّ الطفل بورقيبة لما كان له من فكر ومن منهج (ص.45) وأعجبه النضال من أجل تونس ومن أجل فلسطين. منذ الصبى، ولع التلميذ بالشأن السياسيّ وها هو يخرج في المظاهرات، يندّد، يصرخ...

محمّد الشرفي ومجموعة «آفاق»
كان المذهب الماركسيّ في السنوات الستّين وما بعدها هو المرجع وفيه يلقى الطلبة والمعارضون عصيرة الفكر الثوريّ. الكلّ يومها يعتقد أنّ في تطبيق الماركسيّة نجاة وفي اتباع سننها يكون التقدّم. كان الكلّ تقريبا وقتها ماركسيّا. الكلّ يساريّون، تقدّميون. في باريس، التقت جماعة من الطلبة التونسيين وقد اشتعلوا وطنيّة وحماسا. كان الشرفي من بينهم، في الصفّ الأوّل. كانت الجماعة تشدّ بحبل الماركسيّة ويسكنها حبّ الوطن...

في باريس، حصلت بين الجماعة الصغيرة اجتماعات للنظر، لتحديد السبل للنهوض بهذا البلد. الكلّ يتّقد حماسة وتطلّعا. فكان التأسيس لجمعيّة آفاق سنة 1963 وأخرجت الجماعة نشريّة سرّيّة اسمها «برسبكتيف». هي نشريّة في ورقتين، كتبت بخط جيّد وفيها تنديد بما كان يأتيه الحكم من تسلّط ومن تضييق. في النشريّة تحاليل ترصد الوضع وتقول ما يجب أن يتمّ من إصلاح ومن تغيير في النظم. تواصلت التجربة نحو خمس سنين (1963 - 1967) وكان لها أيّامها تأثير كبير على الناس المتّبعين وخاصّة على السلط التي رأت في المشروع جحودا وعداوة... رغم انتمائه لليسار ورغم دوره الأساسيّ في نشأة آفاق، لا يؤمن محمد الشرفيّ أبدا بدكتاتوريّة العمّال ولا يرضى بالأفكار الماويّة الراديكالية المتداولة لدى اليساريين في ذاك الزمن (ص89). لمّا رأى أن مجموعته تسير في طريق مغلوط وقد انقلبت على الطرح الأوّل وآمنت بدكتاتوريّة العمّال، الى غير ذلك من الفكر المتطرّف، استاء الشرفيّ وعارض ثم انسحب بهدوء. حصل هذا التغيير في التوجّه وهذه الراديكاليّة المشطّة خاصّة منذ انتماء جلبار النقّاش الى جماعة (آفاق). حسب الكاتب، كان جلبار النقّاش ماويّا، يحمل راديكاليّة لا يقبلها عقله ولا يرتضيها مزاجه...

مع النقّاش وما كان من نقاش مطوّل بين أفراد الجماعة، حصلت اختلافات بين الأفراد وتباينت الأفكار والمناهج. كان الشرفيّ برغمائيّا، في مواقفه اعتدال واتّزان. بطبعه، لا يحبّ الشرفي الغلوّ. بطبعه هو واقعيّ. بعد جدال مطوّل، كانت الغلبة للنقّاش ومشت خلفه الأغلبيّة. كان لهذا الانشقاق، أن أفرد الشرفي واعتبره رفاقه الماويّون «متخاذلا»، «يمينيّا»، «محرّفا» للفكر الماركسيّ (95). أجبر الشرفي على الاستقالة (ص.94) واعتبر أنّ تمشّي جلبار النقّاش التروتسكيّ ومن سانده لا يتناسب مع فكره المعتدل ولا مع ما كان من منهج. كتب الشرفي يقول «الثورة الماويّة لا تعنيني» (89). فما كان الشرفيّ أبدا ماويّا. بل لعلّه مازال يحمل في قلبه قربا من بورقيبة ومن فكره. حسب الشرفي، طيلة الخمس سنوات لآفاق ورغم مناهضة الفريق للحزب الحاكم ورغم ما جاء في يرسيكتيف من نقد لاذع لما تفعله السلط من تجاوز ورغم ما كان من مناهضة لبورقيبة وحكمه، يقول الشرفي: «كنّا معجبين بحداثة الرئيس بورقيبة... فنحن أولاده الشرعيين حسب مقولة نور الدين بن خذر» (ص.99).

محمّد الشرفي في السجن
في 23 مارس 1968 تم إيقاف أهم قادة برسبكتيف وأنصارها وكان السجن للشرفي بسنتين. كانت تلك الفترة، يقول الشرفيّ، «قاسيّة». كانت محنة كبرى وقد عانى الرجل من التعذيب الذي لحقه في زنزانات الداخليّة وخلال التحقيق وفي ظلمات السجن. كانت زوجته لجانبه تسانده وكان هو ثابتا، يدافع عن فكره، يرافع بكلّ جرأة وقد غاب عن المحكمة خوفا المحامون... في زنزانات برج الروميّ، التقت الجماعة وعاد النقاش مجدّدا واختلف القوم حول سبل النضال وكيف المقاومة الأنسب. لا يرتضي الشرفي الفكر الماويّ ولا هو من أهل الغلوّ. أمّا جلبار النقّاش ومن معه فكانت عندهم كلّ السبل ممكنة بما فيها الاضراب المفتوح عن الطعام... ازداد الخلاف شدّة بين الجماعة الماويّة والرجل. اشتدّ الجدل وتمّت محاصرة الشرفي، فكره ومنهجه. كذلك، نكّلت الجماعة الماويّة بالرفيق القديم لأنّه معتدل النظر ولأنّه لا يرى نفعا في اضراب جوع مفتوح... أكثر من ذلك، اعتبر الماويون رفيقهم الشرفي «جبانا»، «مائعا» بل وصفوه «بالخائن»... يقول الشرفي صفحة 130 «كذلك، كنت محلّ تعسّف في الآن نفسه من قبل بورقيبة ومن قبل الماويين. ما العمل؟». تجاه ما يلقاه السجين من أصحابه من سبّ ومن تنكيل، اضطرّ الشرفي الى كتابة رسالة عفو ويقول حول هذا الموضوع الذي كثر فيه الحديث: «... كان عليّ ان أخلد الى واحد من المتسلّطين: نقّاش ومن معه أو بورقيبة فاخترت أن أطلب العفو لأني اعتقدت ومازلت أعتقد دائما أن بورقيبة هو أقل ظلما» من جلبار النقّاش ومن أصحابه الماويين (130).

أثارت رسالة العفو هذه ضجّة في أوساط اليساريين. اعتبر الكثير الشرفي مرتدّا بل هو خان القضيّة وكان من البورجوازيين، الى غير ذلك من الكلام ومن النعوت. ما كان الشرفي متخاذلا ولا هو بالخائن، كما كانوا يقولون. للشرفي حسّ وبراغمائية لا تلقاهما عند المغالين. ما كان فكر الشرفيّ متكلّسا كما كان فكر الماويين وغيرهم من التروتسكيين. فكره حرّ ولن يرضى الشرفي أن يقيّد فكره بأوامر الحزب الفوقيّة أو أن ينضبط كجنديّ لتعليمات التنظيم... كانت معاناة الشرفي في السجن كبيرة وكان لها تبعات في حياة الرجل. حسب الشرفي، انتهى التحزّب و«لن ينتمي أبدا في ما بعد الى حزب سياسيّ» (130).

الشرفي وإصلاح التعليم
في أفريل سنة ،1989 دعي الشرفي الى تولّي شؤون وزارة التربيّة والتعليم العالي والبحث العلميّ. كانت المهمّة صعبة وقد تردّى التعليم وقتها وساء حاله وكانت الوزارة من أهمّ الوزارات في البلاد، ميزانيّة وأعداد موظّفين. يجب اصلاح التعليم بإعادة النظر في البرامج التعليميّة جميعا وبتأهيل الأساتذة والمعلّمين. لا يخاف الشرفي المهمّات العسيرة. حوله، انضمّ الى المشروع خيرة ما في البلاد من كفاءات. معه، انطلق مشروع الاصلاح وكانت الاجتماعات القطاعيّة تلتقي وتتشاور وتقترح وتصلح. كان الشغل لا ينتهي. لكنّ هذا الاصلاح الشامل لن يرضيّ الجماعات الاسلاميّة وعملت النهضة وأتباعها على تأليب الرأي العام وعلى الدفع بشبابها الطلّابي خاصّة الى التشويش والى الاضرابات بل والى غزو الجامعات والاعتصام فيها، ليلا، نهارا. في رأي الاسلاميين مشروع الشرفي الاصلاحيّ هو «تجفيف للينابيع» (ص. 232) لأنّه أعاد النظر في نصوص التدريس وفي بعض المواقف التقليديّة المتخلّفة تجاه المرأة وتجاه الحكم والحياة بصفة عامّة. في هذا الصخب القائم بين الاصلاح ورفض الاصلاح، كان طلبة الشريعة وأصول الدين في الزيتونة هم في الصفوف الأماميّة وكانت منظّمة الطلبة الاسلاميين في مواجهة لا تنتهي، في اضراب متّصل بين كلّيّة القيروان مرّة وكلّيّات تونس الأخرى، مرّات...

ومن غرائب المواقف وقتها، أن ساند النهضة وجاء لنصرتها نجيب الشابي وكان سخّر جريدته الموقف مثلها مثل جريدة الشروق لتعطيل مشروع التحديث ولكيل التهم للوزير. أكثر من ذلك، كان الحزب الحاكم على يد عبد الرحيم الزواري هو الآخر يسعى لعرقلة الاصلاح سرّا وعلانيّة... رغم المعارضات المختلفة ورغم ما كانت تعرفه الجامعة من اضرابات لا تنتهي ومن اعتصامات لا مبرّر لها، تواصل الاصلاح وأعيد النظر في الكتب وفي البرامج ومكّن الكثير من الأساتذة من التكوين...
في اعتصام بكلّية الحقوق وبعد صبر ونظر، تدخّل البوليس لرفع الاعتصام بالقوّة ولإعادة الدروس. يومها، اشتدّ الوطيس وحصل تدافع بين الطرفين ورشق بالحجارة وردّة فعل من البوليس فكان أن قتل طالبان في الشغب وكان الموت سببا في انفجار كبير وفي نقد الشرفي ومن معه...

هنا، أسأل، واليوم نرى نفس المنهج ونفس السبيل، كيف يمكن تجنّب مثل هذا لمّا تحصل مواجهات بين طرفين متضادّين، مقرّين العزم على المواجهة؟ لمّا يلتقي معتصمون وجها لوجه مع البوليس سوف يحصل لا محالة عنف وقد تسقط أرواح من الطرفين وخاصّة لدى المعتصمين. هل سقوط «ضحايا» في مثل هذه الملابسات يحسب على البوليس أم هو نتيجة لمواجهة ما كان لها أن تكون؟ ماذا عسى أن يفعل الوزير الشرفي والحكم وهؤلاء طلبة، مطيّة، مقرّون العزم على غلق الجامعة وتعطيل الدروس؟ ماذا عسى أن يفعل البوليس لمّا يرى أناسا يقطعون الطريق، يحرقون المنشآت، يعطّلون الحياة، يفسدون؟ هل نتركهم يفعلون رغم ما كان بذل من جهد لإقناع المعتصمين، لتحسيسهم، لإنذارهم بعواقب ما هم يفعلون...؟
خلال تلك الفترة العصيبة وما كان يحصل كلّ يوم من اضرابات ومن مظاهرات ومن تشويش على الوزير، كان زين العابدين بن على يساند وزيره ولا يتدخّل. أكثر من ذلك، أحيانا، يدعوه القصر الى إدخال البوليس، الى طرد ذاك الأستاذ لما أتاه من نقد للحكم أو تأديب للآخر فيرفض الشرفي الدعوة ويواجه وحده أوامر الحكم القائم...حول علاقته بالرئيس، يقول الشرفيّ «ان الرئيس زين العابدين بن عليّ كان دوما محترما لي وله تجاهي تقدير وامتنان» (ص.275) بل «كنت أكنّ له المودّة وكنت معجبا بذكائه، بوطنيّته، بقدراته في العمل» (ص.279).

في الكتاب، تعرّض الشرفي لأشياء أخرى عديدة. كتب في الاقتصاد وقال (ص.68) «المؤسسة الحرّة والسوق الحرّ هما النموذجان الوحيدان للإنتاج الناجع... وأنّ المصلحة الفرديّة هي محرّك الفعل» ويضيف «انّ البيروقراطيّة هي أفسد من ظلم السوق» (ص.63). موضّحا «أنّ الدولة سيئة التصرّف في الاقتصاد» (ص.67). أما في خصوص المنصف المرزوقي وكان وقتها رئيس الرابطة، يقول الشرفي «المرزوقي رجل حماسيّ، مستعجل جدّا وهو مانيكيّا» (264).
علاوة على المعارك الحقوقيّة والسياسيّة وما أتاه الرجل من عمل دؤوب ومن اصلاح للتعليم مرهق...، كان الشرفي محبّا للحياة، شغوفا بما فيها من خير ومن نعيم. كان خاصّة حبيبا لزوجته فوزيّة وقد ذكر لها ودّها وما أتته من مساندة أيّام العسر ومن جهد وتضحيّة حتّى يحيا الزوج والبنات في كنف الودّ والاحترام والمحبّة. كان الشرفي يحبّ الحياة ويعشق البحر وله غرام بما استوى في السماء من كواكب ومن فلك ومن نجوم... رحم الله محمّد الشرفي رحمة واسعة وأودعه الجنان فهو رجل ذو أخلاق عاليّة وفضل كبير.

حياته في سطور

• ولد في 11 أكتوبر 1936 بصفاقس
• 1962 أسّس وبعض المناضلين جمعيّة «أفاق»
• 1967 تحصّل على دكتورا في القانون من جامعة باريس
• 1968 ايقافه والحكم عليه بسنتين سجنا من محكمة أمن الدولة
• 1972 انتخب الكاتب العام المساعد لنقابة الأساتذة الجامعيين
• 1981 انتخب نائب رئيس رابطة حقوق الانسان التونسيّة ثم انتخب رئيسا
• 1989 عيّن وزيرا للتربيّة والتعليم العالي والبحث العلمي حتّى سنة 1994
• توفّي في 6 جوان 2008

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115