حديث الأنا 7. أي منوال للتنمية ؟ نحو بناء دولة معدّلة فيها الفرد حرّ، فاعل

الحكم القويّ هو ذاك الذي يتنحّى عن المركز ويدفع بالفرد حتّى يكون هو المركز. الفرد المركز هو الأصل والمرجع في المجتمعات المتقدّمة. هو الحامل لنفسه، الفاعل، العاقل. في ظلّ الحكم الربّانيّ، كان الفرد التونسيّ ،غالبا، عبدا مستجديّا، في وضع ارتزاق، يتبكّى، يطلب شغلا وماء وخبزا...

في ظلّ الدولة القويّة، يتولّى الفرد أمره وينظر في حاله ويسعى ويجتهد وفق ما ارتأى من فكر وما أراد من نحو. له الحرّيّة في ما اختار من منهج، من نمط عيش، من معتقد...

الدولة القويّة قليلة التدخّل في شؤون الناس ولها شؤون محدّدة. من مهامّها، حماية البلاد من كلّ خطر وحماية العباد من كلّ ضيم، من كلّ مسّ بالحريّات، بالممتلكات، بالمعتقد. للدولة القويّة حقّ النظر في التعليم وكيف التوفير لحظوظ متساويّة للنشء وفي الصحّة وكيف تدعمها حتّى يلقى الناس علاجا وبخاصّة من كان به عوز. عليها التأسيس لأمن قادر، مقتدر، في خدمة الناس كلّهم ولجيش محترف يحمي الأرض والعباد من كلّ سوء وخطر...

أمّا الاقتصاد وما كان فيه من منشآت ومن انتاج ومن بيع وشراء، فهذه ليست من مشمولات الدولة ولا هي من أولويّاتها. لا دخل للحكم فيها ولا الحكم قادر على التسيير والتصرّف. على الدولة ان تأتي دورها الأهمّ وأن لا تتلهّى بما لا يهمّ الحكم... دور الدولة الأهمّ هو التعديل والمراقبة. التعديل بين الفئات وما كان بينها من مصالح متباينة ومشارب مختلفة، بين حاجيات الفرد ومطالب الجماعة، بين حتميّات الحركة وضروريّات الأسس، بين من استثرى وسطع نجمه ومن كان في فقر وبه عوز، بين ما جاء به الزمن وما يلزم للغد، تأهّبا... على الدولة أيضا أن تراقب ما يجري في البلاد جميعا حتّى تعلم وتتّبع السير في ما هو يدفع بالمجتمع ويحفظ سعيه ويزيد في عزمه. الدولة هي الراعيّة والراعي يمشي خلف «غنمه». يدعها في حرّيّة، ترعى، تتدبّر دون تدخّل أو نكد...

أمّا الاقتصاد وشؤونه فهذه ليست من مهامّها بل إنّ تدخّلها فيه مفسد للاقتصاد وللبيع وللشراء وفيه أيضا تشتّت. لأنّ لها العنف وبيدها الأمن والجيش، لمّا تتدخّل الدولة في مثل هذه الشؤون لسوف يحصل افساد للسوق وتتعطّل يده الخفيّة ويلقى المنتجون تشدّدا وخنقا ويعترض المبادرة تعطيل وحصر. بحثا عن الربح، تعمد الدولة المتاجرة الى سنّ القوانين تلك التي تلقى فيها نفعا ومصلحة، الى استعمال الجباية للتضييق على الخلق، لضرب المنافسين، الى افساد العملة، الى الاحتكار ان لزم، الى تشويش السوق كلّه. كذلك، تصبح الدولة المتاجرة خصما وحكما. بيدها الحكم. تفعل ما تشاء في السوق. توجّهه. تكبّله. تثقل سيره... اضافة الى ما قد يحصل في السوق من تعثّر، تتشتّت جهود الدولة وقد غدت تتعاطى انتاجا وشراء وبيعا. عوض ان تتلهّى بالأمن وبضبط السبل وما يجب من رقابة ومن تعديل، تراها تغرق

في التصرّف اليوميّ وفي ما يلزم التسيير من متابعة وجهد فتضيّع الخيوط وتتداخل عندها الشؤون ويتفكّك الحكم... هذا بالإضافة الى ما يجري في المنشآت العموميّة من اضطرابات ومن اضرابات ومن عجوزات متعدّدة...

كلّ الشركات العموميّة تشكو اليوم عجزا ثقيلا. هو عجز مفزع، متواصل منذ عشرات السنين. لم ولن تر الشركات العموميّة يوما اعتدالا في الموازين ولسوف تبقى محلّ انفلات ماليّ وعجز... رغم ما تأتيه ميزانيّة الدولة من دعم متّصل وما تصبّه، منذ سنين، من مال بعشرات الملايين من الدنانير ورغم ما تمنحه من امتيازات ومن فضل، ظلّت تونس الجوّية والشركة التونسيّة للبنك وشركات النقل وشركة الكهرباء والغاز والصناديق الاجتماعيّة وكلّ الشركات العمومية الأخرى جميعا في تراجع، في خسارات متّصلة... لماذا تريدها أن

تقتصد في الانفاق، أن تجتهد، أن ترفّع في الجودة وتزيد في المردود والشركات العموميّة هي دوما محصّنة، مضمّنة ؟ مهما أتت من تقصير ومن تبذير ومن لصوصيّة، سوف تلقى لدى خزينة الدولة كلّ عام ما تريد من مساندة ودعم.

تونس بلد متخلّف ولعلّ هذا التخلّف متأتّ في عديد من جوانبه ممّا يجري في الشركات العموميّة، في الادارات، في الديوانة، في قطاع الصحّة والتعليم... من اهمال، من لامبالاة، من تبذير. ثقل وزر القطاع العامّ. اختلّت منذ عقود موازينه. أمّا انتاجه فالكلّ يعلم ما فيه من رداءة، من تبعثر. يشتكي اليوم الناس أجمعين ممّا يلقونه في القطاع العام من خدمات متردّيّة. الكلّ يشتكي ما تأتيه المؤسسات العموميّة والادارات من رشوة، من تعطيل، ومن انحرافات مزريّة...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115