قهوة الأحد: أفكار وآمال سنة على الأبواب

وأنا أفكر في أهم تحديات السنة الجديدة تذكرت السنوات الأولى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية -وفي- رأيي فإن أوجه الشبه بين المرحلتين التاريخيتين وبالرغم من تعدد الاختلافات الكبرى يمكننا بالتالي من أخذ الدروس من المرحلة الأولى لمواجهة المخاطر التي مر بها اليوم.

لنعد إلى الفترة الأولى أي إلى نهاية الحرب العالمية الثانية والتي كانت لها انعكاسات سياسية كبيرة لا أريد في هذه القراءة العودة إلى الانعكاسات السياسية لهذه الحرب الطاحنة والتي كادت لا فقط أن تقود العالم إلى الجحيم بل كادت أن تنعى الإنسان في إنسانيته.
أريد الوقوف على مسألتين هامتين – المسألة الأولى وهي سياسية وتهم انتصار الديمقراطيات على الأنظمة الفاشية - وهذا الانتصار وهزيمة الفاشية تعتبر مرحلة هامة ومحورية في التجربة الإنسانية.فصعود الفاشية والنازية شكل تهديدا كبيرا للمشروع الديمقراطي وبرنامج الحداثة السياسية الذي انطلق مع الثورات الأوروبية وفلسفة الأنوار منذ نهاية القرن الثامن عشر في أروبا.وقد شكل هذا المشروع قطيعة كبيرة مع التجارب والأنظمة السياسية السابقة من حيث قطعه بين السياسي والديني الذي أصبح يقتصر وجوده على الفضاء الخاص بينما صار السياسي يهيمن على الفضاء العام.كما وضعت هذه الثورة السياسية مسألة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والعدالة والمساواة كأسس للأنظمة السياسية المفتوحة والدول الوطنية.

قد عرف هذا النظام السياسي الجديد عديد الإنقطاعات ومن ضمنها التوسع الاستعماري في بلدان العالم الثالث و عديد القارات الأخرى ورفضه إعطاء شعوب هذه البلدان نفس الحقوق السياسية وتمتيعها بمبادئ الحداثة السياسية من حرية وديمقراطية-كما عرف كذلك عديد الهزات والأزمات أذكر منها الحرب العالمية الأولى وكذلك الأزمتين الاقتصاديتين لنهاية القرن التاسع عشر وأزمة 1929 اللتين كادتا أن تعصفا بأسسه.
إلا أنه وبالرغم من النقد والأزمات التي مر بها فقد برز النظام السياسي الديمقراطي والمتشبع بأفكار الحداثة كنظام عالمي وليصبح كذلك المعيار لحوكمة الأنظمة السياسية.

وسيشكل صعود النازية والفاشية أول تحد هام للنظام الديمقراطي – فهذه الأنظمة ستنفي المبادئ التي يعيش عليها النظام الديمقراطي –لتعود إلى التأكيد على مبادئ ما قبل حداثية وتنفي مشروع حرية الفرد.وقد تراجعت هذه الأنظمة عن المبادئ الديمقراطية وحرية الفرد وحقوق الإنسان-وذهبت إلى حد التأكيد على دونية بعض الشرائح الاجتماعية كاليهود والغجر والمختلفين جنسيا وأصحاب بعض الحاجات الخاصة.وأعدت لهذه الشرائح برنامجا رهيبا لتصفيتهم ونفي إنسانيتهم من أجل حماية الجنس الاري المتفوق على كل الأجناس الأخرى.

شكلت هذه الأنظمة الخارجة من رحم النظام الرأسمالي و المجتمعات الاروبية تحديا صارخا للنظام الديمقراطي وكذلك للمشروع الإنساني الذي حملته الأنوار والثورات الرأسمالية في الغرب-وكان لانتصار الأنظمة الديمقراطية إثر نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة الفاشية تطور هام ومصدر فرح ونشوة وبهجة كبيرة حيتها كل شعوب العالم باعتبارها تؤكد استمرارية مشروع تحرير الإنسان بالرغم من انتكاسها وأزماتها.

إلا أن نهاية هذه الحرب ستكون كذلك وراء بروز أحاسيس أخرى يمتزج فيها الخوف بالرهبة من مصير برنامج التحرر ومشروع استقلالية الإنسان – ومرد هذا الخوف والكآبة هو بروز نظامين هامين وعالميين سيعملان على مواصلة مشروع الحداثة وتدعيمه-البرنامج الأول هو البرنامج الليبرالي والذي سيراهن على حرية الفرد والديمقراطية من اجل فتح فترة جديدة نحو نهضة جديدة وانطلاقة لمشروع تحرير الإنسان واستقلاليته –أما مشروع الثاني فهو المشروع الاشتراكي والذي سيجعل من برنامج الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج ونتاج العمل طريقا لنهاية استغلال الإنسان للإنسان وإعادة إنتاج النظام الرأسمالي.

إذن ستسجل فترة ما بعد الحرب وجود هذين البرنامجين اللذين سيعملان جاهدين على تفادي العنف والهمجية اللذين عرفتهما الحرب العالمية الثانية وإعادة بناء إنسانية الإنسان.

إلا أن هذين المشروعين سيصبحان سريعا عدوين لدودين وستكون هذه العداوة وراء نشوب حرب باردة بين معسكرين وهما المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي والتي كادت أن تؤدي من جديد إلى حرب طاحنة ستعود بنا إلى نقطة الصفر وتنتهي بنفي المشروع الإنساني.
إذن كانت فترة نهاية الحرب فترة هامة وعرفت أحاسيس متناقضة-فمن جهة كانت النشوة والفرح والنخوة بعد انتصار البرنامج الديمقراطي والمشروع الحداثي-ومن جهة ثانية كان هناك الخوف والحذر من هذا التناقض الذي قد يودي من جديد بالعالم إلى حافة الهاوية.
وقد اقتنع عديد الناشطين السياسيين والمفكرين والمثقفين بخطورة هذا الوضع وبالانعكاسات الهدامة للحرب الباردة على مستقبل البرنامج الإنساني –فحاولوا تنظيم أنفسهم والقيام بالعديد من المبادرات السياسية لإيقاف هذا الانصياع والانزلاق نحو الجحيم.

ولعل أهم المبادرات في هذا الإطار هي مبادرة «اشتراكية أو بربرية» التي كونها بعض من أهم المفكرين الفرنسيين سنة 1946 وتواصلت نشاطاتها حتى سنة 1967 زمن حلها وقد كان لهذه المجموعة تأثيرها الكبير على المستوى الفكري في فرنسا وأوروبا بصفة عامة بالرغم من انحسار تأثيره السياسية.ويمكن أن نشير إلى أن تأثير هذه المجموعة يكمن في سببين أساسيين الأول هو وجود جملة من أهم المثقفين الفرنسيين في هذه المجموعة ونذكر منهم كلود لوفور Claude Lefort/ Corrélius Castonichas/Guy Deboud الذي كان ضمن المجموعة ولو لوقت قصير.أما المستوى الثاني –فيكمن في موقعها السياسي والإيديولوجي والناقد بطريقة راديكالية للنظام الرأسمالي وكذلك نقده للستالينية كما ظهرت في الاتحاد السوفياتي وذهاب إحدى أولى «مجتمعات العمال والطبقات الكادحة»نحو نظام توتاليتاري لا يختلف كثيرا عن الأنظمة الما قبل ديمقراطية.

وخالجني شعور كبير أننا نعيش اليوم نفس التحديات ونفس الأخطار ونحن على أبواب سنة جديدة ونحتاج كذلك لنفس المثقفين الملتزمين اجتماعيا للخروج من هذه الأزمات وبناء مشروعهم الكبير.ويعتريني هذا الشعور أكثر فأكثر عندما نعلم إن تحديات عالم الأمس هي تحديات عالم اليوم وجزءا من عالم المستقبل.

وهنا أود الإشارة إلى ثلاثة أخطار تحدق بنا اليوم وهي الوطنية الشوفينية ورفض الآخر والشعبوية.لقد عرفت عديد البلدان وبصفة خاصة البلدان المتقدمة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية صعودا كبيرا للوطنية الشوفينية-وهذا التطور ناتج عن عديد الأسباب من ضمنها فشل العولمة وتزايد الفوارق الاجتماعية وتهميش عدد كبير من الطبقات الاجتماعية المرتبطة بالنظام الفوردي «Fordiste» كالطبقات العاملة وحتى عدد هام من الشرائح الاجتماعية المتوسطة.هذه الأزمات الاجتماعية كان لها دور كبير في صعود الشوفينية كما بينت نتائج الانتخابات في عديد البلدان وكذلك استطلاعات الرأي في عديد البلدان الأخرى.وقد أكدت هذه القوى أنها ستعمل على الرجوع إلى البرنامج الوطني وإعادة بناء الحدود والجدران السميكة التي يصعب ثقبها حول الدولة القومية.وأشارت عديد الدراسات والتحاليل أن هذه الشوفينية ستؤدي إلى حروب ومواجهات تجارية واقتصادية وسياسية قد تضع العالم من جديد على حافة المجهول.

الخطر الثاني يخص صعود ونمو فكرة رفض الآخر والتيارات اليمينية التي تدافع عنها- وهذا التيار يرى في وجود الآخر سبب مشاكله وأزماته ومصائبه-وللخروج والقطع مع وضعه المتردي فانه لا مناص من رفض الآخر وطرده.وتجد هذه التيارات في أراء بعض المستشرقين القائلة برفض الآخر وعدم قدرته على الانخراط في مشروع الحداثة الفكرية والسياسية سببا في برنامجها السياسي و ستعمل هذه القوى على بناء الحدود ورفض المهاجرين واللاجئين ورفض كل أشكال الإعانة والدعم لهم-كما كان الشأن في الحرب العالمية فقد يصل هذا الرفض للآخر ليأخذ أشكالا عنيفة وحتى حيوانية تنفي عن الآخر إنسانيته.

أما الخطر الثالث فيخص الشعبوية والتي تحاول وتعمل جاهدة على نفي دور النخب والتأكيد على أزمتها وقطيعتها مع الشعوب.ويتواتر هذا النقد وحتى الثلب للنخب التقليدية والمرتبطة بالمنظومة الديمقراطية ومشروع الحداثة السياسية بصعود نخب جديدة مغامرة اثبت التاريخ خاصة في وقت الحرب العالمية الثانية قدرتها على تخريب المجتمعات بأعنف الأشكال وأكثرها شراسة.

إن السنة الجديدة مرتبطة بصعود عديد الأخطار الكبرى-فصعود الوطنية الشوفينية ورفض الآخر والشعبوية قادرة على الذهاب بالعالم إلى الهاوية وتذكيرنا بأكثر المراحل السوداوية في تاريخنا كما كان الشأن في فترة الحرب العالمية الثانية- وهذه الفترة تتطلب ممن سماهم غرامشي «المثقفون العضويون» كما كان الشأن لمجموعة «اشتراكية أو بربرية» النهوض والوقوف لبرنامج الإنسان والدفاع عنه ودعمه بابتكار مشاريع ورؤى سياسية جديدة يكون التعاون والانفتاح على الآخر وبناء عالم جديد منفتح على آمال وأحلام الناس قواسمها المشتركة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115