قهوة الأحد: متى تخفت الحروب عند الاقتصاديين؟

أثار صدور كتاب « Le négationnisme économique. Et comment s'en débarrasser» «الدفق الاقتصادي وكيفية التخلص منها» للجامعيين الفرنسيين Pierre Cahuc و André Zylberberg عن دار النشر الباريسية

Flommarin أوزار الحرب بين الاقتصاديين - وقد أثار نشر هذا الكتاب سجالا كبرا وردودا ساخنة نظرا للأسلوب الذي استعمله الكاتبين والذي فيه الكثير من الحدة والتي تجاوزت في بعض المساهمات الحدود المقبولة للحوار.

وإن كان الاقتصاديون متعودون على السجالات والنقاشات وحتى الخصام حول الاختيارات الاقتصادية ونتائج السياسات الاقتصادية فإن الأزمة المالية العالمية لسنوات 2008 و 2009 أشعلت لهيب الحروب في المجال الاقتصادي وكانت وراء معركة من أهم المعارك التي أقامت الدنيا ولم تقعدها في عالم الاقتصاديين - وكنت قد ساهمت في هذا المجال وأصدرت مع زميلين كتاب بعنوان «crise naufrage des economistes» «الأزمة وغرق الاقتصاديين» وصدر هذا المؤلف في فرنسا سنة 2010 عن دار ..... - وقد انطلق هذا السجال اثر زيارة الملكة ايليزبات الى أحد أهم المدارس وكليات الاقتصاد في العام وهو معهد لندن للاقتصاد «london school of economics» في نوفمبر 2008 أي في أحلك فترات الأزمة المالية العالمية - وكان هدف هذه الزيارة هو تدشين أحد الأقسام الجديدة في المعهد - وفي حفل التدشين أطنب رئيس المعهد في الحديث عن انجازات المعهد ومساهمته في تكوين أهم الاقتصاديين في العالم وفي بروز أهم المفكرين في العالم في هذا المجال.

وتابعت الملكة بهدوئها المعتاد خطاب رئيس المعهد واثر نهاية الكلمة لم تتكلم الملكة وهي التي خسرت الكثير من المال في الأزمة المالية العالمية من طرح سؤال بسيط على رئيس المعهد، كيف لم تكونوا قادرين على التنبؤ بالأزمة المالية العالمية؟ طبعا قابل جهابذة أساتذة الاقتصاد سؤال الملكة «البسي» بكثير من التهكم المكتوم.

إلا أن هذا التساؤل «البسيط» في - ظاهره أصبح حديث الساعة عن المفكرين الاقتصاديين وأساتذة الجامعات - تبا لهذا الجيل من العلماء والمفكرين.. كيف عجزوا عن التنبؤ باحدى أهم أزمات الاقتصاد العالمي إن لم نقل أهمها مع أزمة سنة 1929 والتاي كادت أن تعصف بأسس الاقتصاد العالمي وتدفع بع الى الجحيم.

إذن عرف المجال الاقتصادي سجالات كبرى وصراعات هامة منذ انطلاق الأزمة الاقتصادية العالمية - ومحور هذا السجال هو كنه وماهية العلوم الاقتصادية وهل نحن بحضرة علم «صحيح» ككل علوم الطبيعة وبالتالي قادرين على التنبؤ بتطور الأوضاع الاقتنصادية بكل دقة كعلوم الفيزياء والتي بمقدورها الاعلان مثلا عن خسوف الشمس وحركة الكواكب سنوات طويلة قبل وقوعها - أم نحن بصدد علم ينتمي الى مجالات العلوم الاجتماعية وبالتالي يحمل في طياته جانبا كبيرا من الشك وعدم اليقين وبالتالي صعوبة استقراء التطورات الاقتصادية بكل دقة - إذن جوهر خلاف وسجال الاقتصاديين هو فلسفس استمولوجي ويدور حول ماهية الفكر الاقتصادي... هل نحن بحضرة علم «صحيح» ككل علوم الطبيعة أم أن الاقتصاد هو علم سياسي واجتماعي بالأساس؟

ولنفهم أسباب الأزمة الفكرية الحالية في - المجال الاقتصادي لابد لنا من العودة شيئا فشيء الى التاريخ وتطور النظريات الاقتصادية بارتباط بتطور النظام الرأسمالي منذ بدايات القرن العشرين وستكون الازمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929 نقطة تحول كبيرة في التفكير الاقتصادي - هذه الأزمة ستساهم في ما سماه الاقتصاديون بأهم ثورة فكرية - في مجالهم وهي عجز السوق على إدارة النظام الرأسمالي - فالى حدّ هذه الأزمة كانت هناك قناعة أساسية هامة في الفكر الاقتصادي وهي أن «اليد الخفية» على حد تعبير المفكر الاقتصادي الانڤليزي Adam Smith أن السوق قادرة على استيعاب كل تناقضات الاقتصاد الرأسمالي وفظها وترتيب عمل هذا الاقتصاد بطريقة متناغمة ومتكاملة - وله يحتاج النظام الرأسمالي حسب هذه النظرية الى تدخل عناصر خارجة عن الاقتصاد وبصفة خاصة الدولة، فالسوق قادرة على القيام بكل التعديلات الضرورية لحسن سير الاقتصاد.

إلا أن أزمة 1929 أثبتت محدودية وفشل هذه التوقعات والقراءات الاقتصادية - فالسوق لم تكن قادرة على ادارة الأزم وعلى التخفيف من حدة التناقضات التي عرفها الاقتصاد العالمي والتي كادت أن تعصف به - وفكرة عجز الأسواق وعدم قدرتها على ادارة المجتمعات الحديثة وضرورة تدخل الدولة لتعديل هذه الاقتصاديات وكبح جماح الأسواق وراء ثورة فكرية أساسية في ميدان التفكير الاقتصادي سيقودها مفكر وفنان وجامعي انڤليزي اسمه جون كينز (Veynes) والذي سيخلق نظرية جديدة باسمه ستحارب لسنوات طويلة النظرية الليبيرالية في الاقتصاد.

وستتطور هذه الثورة في الميدان لاقتصادي على ثلاثة مستويات: المستوى الأول ابستيمولوجي أو اديولوجي ويهم ماهية وغرض الفكر الاقتصادي وعلى خلاف الفكر الليبيرالي السائد في تلك الأيام فقد أكدت هذه الثورة الفكرية أن الاقتصاد ليس علما صحيحا بل هو علم أو ممارسة سياسية واجتماعية باعتباره توجها وتأثيره على الديناميكية الاجتماعية والسياسية.

أما المستوى الثاني لهذه الثورة فهو يخص المنهج والأساليب فقد قطعت هذه الثورزة مع الأساليب المعياريج التي كانت سائدة والتي تهدف الى تحديد المقاييس والمعايير التي يجب اتباعها وجعلت من تفسير وفهم عمل الاقتصاد أحد أهم أهدافها وهكذا لم يعد هدف الاقتصاد السياسي ضبط معايير مسبقة لطرق عمله وتوازناتها بل فهم الواقع الاقتصادي وتحدياته وصعوباته.

ويخص المستوى الثالث لهذه الثورة الاقتصادية السياسات وهنا قطعت هذه الثورة مع فكرة «اليد الخفية» ودافعت على ضرورة تدخل الدولة في المجال الاقتصادي لتحد من حدة تناقضات اقتصاد السوق ولتلعب دورا مهما في ايجاد وبناء التوازنات الضرورية لحسن سير الاقتصاد.

وقد فرضت هذه الثورة الاقتصادية أفكارها وآراءها منذ الازمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929 وساهمت لا فقط في الخروج من هذه الأزمة بل كذلك في أهم تجربة نمو سيعرفها العالم اثر الحرب العالمية الثانية والمعروفة بـ«الثلاثين الذهابية» وستعرف أغلب البلدان المتقدمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية الى بداية السبعينات فترة نمو كبيرة استثمارات مما سيمكنها من القيام بعملية تحديث اقتصادية هامة وبناء دولة الرفاهة أو ما نسميه بـ (Etat providence).

الا أن الأزمة الاقتصادية العالمية لبداية السبعينات مع تراجع لدور الولايات المتحدة الامريكية وتقهقر الدولار وأزمة البترول ستكون لها انعكاسات كبيرة على التفكير الاقتصادي وستعرف مبادئ الثورة الفكرية في الاقتصاد انتقادات كبيرة من قبل التيار الليبيرالي والذي لم ينحدر بل واصل عمله بقيادة مفكره الأساسي «ملتون فريدمان» ومدرسة «شيكاڤو النيو ليبيرالية ..... وستكون هذه المدرسة وفق ما يسميه رجال الاقتصاد بثورة فكرية «مضادة أو Contre révolution » ويبقى المجال الاقتصادي هو المجال الوحيد الذي لا يستثني فيه المفكرون لما ننعتهم بالثورة المضادة بل هم يعتبرون هذه التسمية تعبيرا صحيحا عن آرائهم وأفكارهم الاقتصادية.

وستشمل هذه الثورة المضادة وتسعى إلى دك الأسس الرئيسية الثلاثة للثورة التي قام بها اللورد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي فعلى مستوى الماهية والخوض سيرفض الاقتصاديون الجدد الانخراط في الاقتصاد السياسي والعلوم الاجتماعية وسيؤكدون أن الاقتصاد هو

علم من فئة علوم الطبيعة ويرتقي بالتالي إلى مجال العلوم الصحيحة والتي لا تخطىء في توقعاتها وقراءاتها لتطور الاقتصاد العالمي.

أما من الناحية المنهجية فستدافع هذه الثورة المضادة على استعمال الرياضيات والمناهج الكمية والاحصائية في عمل الاقتصاديين مما يقرّب طرق عملهم من الطرق المتبعة في العلوم الصحيحة.

أما المسألة الثالثة والأساسية في هذه الثورة المضادة فتخص السياسات الاقتصادية وستهاجم الثورة المضادةتدخّل الدولة في الاقتصاد وستدافع بكل ضراوة على قدرة الأسواق على تعديل نفسها وتحقيق التوازنات الاقتصادية الضرورية لحسن عمل الاقتصاد العالمي.
وستسيطر هذه الأفكار وآراء الثورة المضادة على التفكير وبصفة خاصة على السياسات الاقتصادية على مدى ثلاثة عقود أي منذ بداية الثمانينات إلى أزمة 2008 و2009 وستكون وراء كل السياسات الاقتصادية الليبرالية التي سيتم اتباعها في البلدان المتقدمة كما في البلدان النامية كل هذه السنوات.

إلاّ أن الأزمة الاقتصادية سنتي 2008 و2009 ستكون لها كذلك انعكاسات هامة على التفكير الاقتصادي وستعصف بالثورة المضادة التي هيمنت على الفكر وعلى السياسات خلال ثلاثين سنة. كما ستفتح هذه الأزمة مجالا جديدا للسجال والمعارك الطاحنة بين الاقتصاديين تؤججها الاصدارات والمقالات والكتب لتفتح حروبا لن ينتهي رحاها بين رجالات الاقتصاد.

وعلى أهمية هذه السجالات والنقاشات فقد أثبتت أن الفكر الاقتصادي هو جزء من الديناميكية الاجتماعية لا يمكن فصلها عن آمال الناس وأحلامهم وبالتالي هو اقنصاد سياسي بالأساس . أما الجانب الثاني فهو يخص السياسات الاقتصادية وأحقية دور الدولة كشريك هام يساهم في ضبط التصورات الكبرى وتحديد التعديلات الضرورية لتجاوز حدود الأسواق وضبط البرامج الكفيلة بتحديد نمو سريع يحقق التوازن الاجتماعي - والاندماج الضروري للاستقرار السياسي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115