والانتصار للأحلام وإن أجّلت، فالرسم والتشكيل والتنصيبات جميعها مناخات ابداعية عبرها تصنع الرسامة ذاتها الفنية وتنقد الراهن والمجتمع وكلّ ما تلحظه العين ويلتقطه الفكر كانت تحوّله الى عمل فنّي فهي فنانة تبحث عن الاختلاف وتلامس كل المواد وتحولها الى تنصيبات ولوحات زيتية بأحجام عملاقة تلامس امتداد الروح وارتدادات الافكار.
فاتن الرويسي فنانة تبحث عن المختلف، تلامس كل المواد وتحولها الى مادة ابداعية جمالية، علّمها الفن التشكيلي التركيز في التفاصيل ونقدها بطرق فنية مختلفة، فنانة متعددة المواهب والتجارب، تؤمن ان الفن التشكيلي سبيل للمقاومة المستمرة ضدّ كل اشكال السوداوية وفي معرضها الجديد «رسائل الزمن الراهن» تجسد مقاومتها الفنية في رواق «الف ورقة» بالمرسى.
الرسم فلسفة وسؤال
«رسائل الزمن الراهن» عنوان المعرض من فكرة الرسالة انطلقت الفنانة في صياغة رسائلها المختلفة، رسائل شفافة بعضها تحتوي على الفراغ واخرى تتضمن لوحات كبرى وثالثة ملأتها بألوان حارة كأنها صرخة غضب ضد الواقع والراهن ورابعة تضمنت بعض القصص والحكايات اليومية وخامسة مغموسة في ألوان زاهية وقصص حب كأنها محاولة للخروج من ابتذال اليومي وانتشار السوداوية في المجتمع التونسي برسائلها المميزة ترسل فاتن الرويسي بإشارات حب واختلاف إلى مرسل مجهول معلوم، هو أولا متلقي المادة الإبداعية من محبي الفن التشكيلي والمهتمين بفلسفة الرسم وهو أيضا الزمن والراهن وكأنها تحاول تزيينه أو حثه على التغيير.
«انطلقت التجربة من لوحة ظرف واحد لتتفرع إلى مراسلات عديدة، فمراسيل ودّ جياش واختلاجات لكلّ فرد منّا، ثم تتالت وتضاعفت الظروف بتعبيرات مختلفة مجسدة بمواد متعددة ادّت إلى ظهور طبقات وفواصل، وجزئيات دقيقة في شكل لوحات تفتح إمكانيات متشعبة للقراءات والتاويل» كما كتبت ليلى الدعمي عن المعرض، فالرسائل الفارغة حبلى بالمعاني والأفكار التي انطلقت منها فاتن الرويسي لانجاز مساحتها الإبداعية.
ظروف فارغة من المادة الملموسة ومليئة بالمعاني، بعض الظروف تجعلك تقف أمامها لدقائق طويلة تتحسس من خلال شفافيتها وفراغها، رسالة تدفعك للوقوف امام الذات والبحث في المعاني الخفية والرسائل المشفرة ففاتن الرويسي تصنع بفنها السهل الممتنع، لها فلسفتها الخاصة لتحفيز ذهن المتلقي لقراءة لوحاتها وتنصيباتها، فنانة مسكونة بالحب والنقد تنفث في اعمالها القليل من روحها المتمردة.
ظروف مختلفة كأنها الرسائل التي تصل الى التونسيين يوميا، واحدة عن غلاء المعيشة وأخرى تنقل ترهات برامج تلفزيون الواقع وثالثة تكشف ارتفاع العنف والجريمة في المجتمع، ظرف رابع على التناحرات السياسية، فالوطن ومشاكله جميعها تعيشها الفنانة بحساسية مختلفة وتنقلها لمتلقي الفن التشكيلي بتعابير متباينة تترك فيها كامل الحرية للون ليقول الكلمة الفيصل، الالوان تضعها داخل الظرف الشفاف وكأنها تبحث عن غلاف يمكنه امتصاص السوداوية وتحويلها الى مستقبل مشرق ميزته الامل.
فنانة ملتزمة بفكرة النقد والتغيير
فاتن الرويسي فنانة تشكيلية تونسية -عالمية، تنفتح أعمالها وأفكارها على متلقي الفن التشكيلي اينما وجد، تعمل على التنصيبات العملاقة وتنحت مسيرة فنية ابداعية مختلفة منفتحة على الانساني، فنانة تعلمت من عائلتها حبّ الكتاب والالتزام في الفعل الثقافي، اختارت الفن مسارها الحياتي والمهني وانطلقت في نحت تجربة فنية مختلفة، في اعمالها تخاطب الرويسي الروح والعقل، تتوجه بشيفراته الى احساس المتلقي وتحفزه ليصبح جزء من لعبتها التشكيلية، تتقن مشاكسة الألوان ومزجها بنظرتها الخاصة.
في رواق «الف ورقة» بالمرسى، تعرض الرويسي واحدا وخمسين عملا، تجمع التنصيبات واللوحات التشكيلة، أعمال بأحجام مختلفة اختلاف الرسائل المقدمة، البياض هو السمة المشتركة بين اغلب الأعمال، تلك القيمة الضوئية منها تنطلق الرويسي لتقدم عوالمها الإبداعية الشفافة المسكونة باسئلة النقد، بفنها تحارب راهنها وواقعها، تتمازج الألوان في لوحات كبيرة الشكل كأنها صوت للغضب الداخلي، تموجات البرتقالي مع الأزرق ومساحة للون الأصفر، ثلاثة ألوان تصنع الخريف بما يحمله من رمزية «الفناء» وكأننا بالفنانة تحاول أن ترسم واقع التونسيين المليء اصفرارا وحيرة وانعدام الثقة، كل ما يعيشه المجتمع تعيد الفنانة صياغته في أعمالها التشكيلية.
«رسائل من الواقع الراهن» مساحة لمساءلة التونسي لذاته ولواقعه، دعوة للتغيير بعد اقتفاء اثر المحسوبية والفساد الاجتماعي والسياسي، بعد النقد تطرح الفنانة امكانية التغيير عبر الوانها الهادئة وظروفها الشفافة المليئة باللاشيء، فقط الإحساس بانفراج الأزمة والإحساس بتمثلات افضل للمستقبل، المستقبل الذي يحلم به أغلب التونسيين بعد سنوات من الازمة والضبابية، المستقبل الواضح ترسمه الفنانة في لوحاتها.
«رسائل من الواقع الراهن» معرض يقدم مساحة للتفكير، طرح فلسفي لمشاكل التونسيين قدمتها الرويسي عبر الالوان والتنصيبات، يبوح الاصفر بالوجع،وينتصر الازرق للأمل ويكتب البرتقالي مساحة من الهدوء والثقة، اما البني فتعبيرة عن صمود التونسيين لسنوات امام ضبابية الواقع، والأحمر هو خط الثورة المتواصل منذ اعوام، عبر ثورة الالوان واختلافها تقدم الفنانة قراءتها النقدية للمجتمع التونسي وللواقع المشحون فوضى.
في المعرض تشد فاتن الرويسي زائر لوحاتها، تجبره على السفر مع اللون والشكل، يكون رهين فكرتها وتمثلاتها الفنية للاشياء، فنانة تحول السياسي الى مادة ابداعية، تعمل بتقنية «الزوم» وكانها تضع كاميرا صغيرة خفية داخل عقل التونسي ثم تفرغ تلك الصور والمشاهد على المحامل، في معرضها تمنح للزائر الفرصة ليقف امام مرآة واقعه، يراه دون تجميل، ثم تدفعه للثورة والتغيير، فالفن لدى الرويسي التزام بقضايا الانسان وانتصار ابدي للوطن.
معرض الفنانة فاتن الرويسي: «رسائل الزمن الراهن» تحت مجهر الألوان تعيد صياغة واقع التونسيين
- بقلم مفيدة خليل
- 09:47 28/10/2022
- 1000 عدد المشاهدات
الفن التزام، الفن مطية للدفاع عن الكينونة واثبات الذات ونحت مسار نقدي مختلف، التشكيل والألوان سلاح فاتن الرويسي للصراخ ضدّ الظلم وتعرية قبح الواقع التونسي