القاصّة لمياء نويرة بوكيل لـ«المغرب»: الكاتب ليس نبيّا... والأدب عرّاب المجتمع

في محاولة لتعريف نفسها تقول لمياء نويرة بوكيل: «لشدّما كان السؤال عن مسيرتي الحياتيّة والأدبيّة يحرجني، فأنا حين أنظر إلى ما خلّفه العظماء للإنسانيّة،

وما تركه الكبار في المدوّنة الأدبيّة، ينتابني الخجل ويداهمني سؤال قاس، من أنا وماذا حقّقت، وهل غيّرت شيئا في هذا العالم، الحمد للّه أنّني توقّفت عن جلد ذاتي، لقد صالحت نفسي، وثمّنت إنجازاتي الصغيرة السابقة، وأملت خيرا في اللاحقة، وقلت قولي الفصل: يا لمياء، قومي، لك شيء في هذا العالم»، وهذه مقولة أستعيرها بتصرّف من الشهيد الأديب غسّان كنفاني».
• هل لك في البداية أن تعرّفي القارئ بمسيرتك الحياتيّة والأدبيّة؟
كنت في أوّل الطريق الجادّ من حياتي،معلّمة مرحلة ابتدائيّة، بذلت سابقا ومازلت أبذل ما في وسعي حتى أكون مفيدة ومميّزة، كنت أتعمّداستدراج انتباه تلاميذي إلى الفنون، وإلى استشعار الجمال من حولهم، إنّ التدريس بنظري أرحب من أن يقتصر دوره على تعليم القراءة والحساب والكتابة، كما أنّه عندي فعل مشاركة، فلكم تعلّمت من الصغار، أبناء الريف وأبناء المدينة، في المدرسة العموميّة، وفي المدرسة الأجنبيّة التي أعمل فيها منذ عقدين كملحق ثقافي، تعلّمت منهم الكثير، وهم يعتقدون أنّي أعلّمهم.
في محطّة أخرى موازية من حياتي صرت أمّا، وعيت خلالها بصعوبة دوري وأهمّيته، فانقطعت له انقطاعا كبيرا وسرت في تجربتي بروح عالية وحالمة، حتّى مرّت سنوات واشتدّ عود أطفالي، وانتبهت فجأة إلى أنّني قد نسيت نفسي تماما، إنّ المرأة فيّ ليست أمّا خالصة، ولا معلّمة خالصة، ولا زوجة خالصة، أنا كائن مستقلّ بذاتي، وأنثى خاصّة تحتاج أن ترى ارتداد بريقها الذي يجب ألّا يخمد ولا يأفل أبدا، وقتها سارت بي قدمي نحو محطّتي الثالثة، نحو ضوء فاتن وصاخب، كانت الأرض التي وطئتها مختلفة، تتطلّب منّي أن أسير فيها بعينين متكاملتين، واحدة تلاحق موطئ قدميّ، وأخرى متطلّعة إلى أعلى لا تنقطع عن التفكير والحلم.
تلك الأرض الرائعة هي أرض الإبداع، منذورة أنا لأن أبلغها، وأمارس وأتدرّب على المشي فيها، سرت نعم بروح عالية وحماسة كبيرة، فكان كتابي الأوّل (سفر في قبضة اليد 2018) فالثاني (قرية بوتيرو 2020) ثم الثالث (مذاقات مختلفة) وهو قيد النشر.
• كيف جئت إلى عالم القصّة؟
كيف هي حياتنا بدون قصّ؟
أنا مذ وعيت كانت القصّة لصيقة بي، نحن نحكي بشكل يوميّ وطبيعيّ عن القصص اليوميّة التي نعيشها، بشكل مألوف وروتنيّ، أومفاجئ وغريب، لم يكن ينقصني إلّا أن أكتبها بطريقة إبداعيّة واحترافيّة، وذلك يتطلّب وعيا بشيئين متكاملين، الوعي بما يحدث حولنا، والوعي بأدوات الكتابة وصنعة القصّ.
لتسيير عملي كمدرّسة، كنت أكتب قصصا، مفتعلة ومتّسمة بالموعظة، وكتبت باستمرار لنفسي قصصا غير ناضجة بعضها بوح أو خواطر ويوميّات، حتّى صار لديّ حساب فايسبوكيّ، بدأته بمنشورات تفصح عن ميولاتي الفنيّة والموسيقيّة، ثم ّتماديت أكثر فيما أحبّ، وجرّبت من باب الفسحة والمرح، أن أقصّ قصّة، فإذا به حبّ حقيقيّ، أوّله هزل وآخره جدّ، لقد وجدت نفسي متورّطة في القصّة القصيرة، وملزمة بكلّ ما أوتيت من جدّ وشغف ومسؤوليّة، بمعرفة أساسيّاتها وجمالياتها، والاطّلاع على كتابات كبارها وشيوخها.
سأظلّ مدينة للفضاء الأزرق الذي بفضله سجّلت أوّل تجارب القصّ والنشر بانتظام، في سلسلة سمّيتها حديث الأربعاء، كان أيّامهاتفاعل القرّاء رائعا ومحفّزا كبيرا لديّ.
• في ما أصدرته من قصص، ما أهمّ القضايا التي قمت بتناولها؟
من أصغر الأشياء تولد الأفكار، قال درويش، وبرأيي كلّ الأشياء التي تمثّل الهمّ الإنساني، المشترك منه أو الشخصيّ، هي قضايا جديرة بأن نكتب عنها وأن نلفت النظر إلى دقائقها وإعادة تقديمها بشكل فنّي وبجماليّات تستقطب انتباه القارئ وتؤثّر بمشاعره وتثير أفكاره.
الأدب عرّاب المجتمع، وكل منتوج أدبيّ مهما كان نوعه إلّا منتم بالضرورة إلى سياق ثقافيّ وتاريخيّ واجتماعيّ معيّن، متّصلا بقضاياه، وكلّ العوامل الاجتماعيّة بأدقّ أنواعها وصفاتها، مولّدة للأدب.
الكاتب ليس نبيّا، ولا رجل موعظة أو صاحب سلطة، هو فرد بسيط من المجتمع شديد الحساسية، يحمل وعيه بشقاء ويحوّل مواقفه ورؤيته للعالم إلى نصّ تخيليّ، يحيكه بحذر متناه، ومسؤوليّة كبيرة، الكاتب يثير القضايا ولا يقدّم الحلول.
كم غيّرت كتب من حياة أشخاص بعد أن قرؤوها، هذا أمر يرعبني ويحفّزني في آن لأن أكتب للإنسان وعنه، أنا محبّة صادقة له، وحاملة لهمّه الذي هو همّي، والحبّ الذي يمجّده الحرف، سيعظم حتماً في روح النصوص.
• فيم تتمثّل جماليات القصّة القصيرة بالنسبة إليك؟
القصّة القصيرة فنّ دقيق وصعب وطاقة تعبيريّة قصوى، تمنح كاتبها متعة بلا حدّ، وتسمح له بأن يقول كثيرا في بضع صفحات، وأن يترك أثرا قويّا لدى القارئ، وانطباعا صارخا وحادّا لا يحتمل شكّا.
وجماليّات القصة كثيرة، أهمّها لغتها القصصيّة التي تتقن المزج بين النثر والشعر،والحوار الذي يجمّل النصّ و يمنحه حرارة،يضمن بها الكاتب تفاعلا حميما بين القارئ وشخصيّاته، لا أنسى كذلك جماليّات الزمان والمكان اللذين يمنحان القصّة مشهديّة عالية تلهب خيال القارئ وتذكّيه.
يذكر ويلسون ثورتلّي أنّ التقمّص سجيّة القصّة القصيرة، وعلى القاصّ أن يطلق حواسّه ويرهفها وهو يكتب النصّ، فكلّ شخص فريد في حواسّه، والكتابة فعل وحيد، وبذلك يكون النصّ الجيّد بالضرورة مؤثّرا وفريدا.
• في حوار سابق لك، قلت أنّك تعتزمين كتابة الرواية، هل قمت بهذه التجربة؟
القصّة القصيرة هي حبّي الأوّل، ولكنّها ليست الأخير طبعا، كانت مجموعتي الأولى انطلاقتي العذبة، وكان القصّ على سجيّته الأدبيّة البكر، وفي تجربتي التي تلتها، صرت أكثر رشدا ووعيا بدقّة هذا الفنّ، وبأنّ الكتابة أكبر وأخطر من مجرّد متعة واستهلاك فكريّ، لذلك صرت شديدة التوجّس والدقّة في اختيار مواضيعي، والتجهّز لها بالبحث العميق حين يستلزم الأمر ذلك، كما سعيت إلى الاشتغال بعمق على أدواتي وعلى»الصنعة». أنا أفعل ذلك بلا هوادة لأنّ فكرة ألّا أتطوّر وأن أكرّر نفسي ترعبني.
هذا الهاجس سيؤدّي بالضرورة إلى أن أخوض غمار الرواية.
وأنا أجرّب ذلك في الوقت الحالي وأشتغل عليه، ولكنّ نجاح تجربتي الروائيّة سوف لن يمنعني من أن أظلّ على قلق إبداعيّ دائم.
• بين النصّ القصصي الذي تكتبين واللوحة التشكيليّة التي ترسمين، أين تكمن أوجه الالتقاء والاختلاف؟
لا اختلاف، بل التقاء دائم، وانصهار محتوم.
دعنا نتّفق أوّلا أنّني لست رسّامة أو فنّانة تشكيليّة، أنا متذوّقة كبيرة فحسب، أخالط القماشة التوال، أو طين الأواني الخزفيّة مدفوعة برغبة غامضة، وحاجة ملحّة إلى الخطوط والألوان، أحبّ الخطوط الممتدّة والملتوية، وأكره الزوايا الحادّة والمنافذ المغلقة بقسوة، الألوان تحرّرني، أحبّ في الألوان ضوءها وظلالها، تدرّجاتها اللونيّة وإيقاعاتها، كلّ ذلك يشعرني بالاكتمال وبالسعادة، قال نيتشه بالفنّ يشعر الفرد بنفسه ككمال، وقال ستندال، الجمال وعد بالسعادة، وأنا أسعد بالفرشاة في يدي سعادة شبيهة ومكمّلة لسعادتي بالقلم والحرف الذي به يزهر النصّ، الرسم والكتابة صنوان، والأفكار والخطوط صنوان، والرسم عندي، سواء بممارسته ممارسة شخصيّة، أو بتأمّله، يجعل نفسي صاخبة، وأفكاري متوالدة متدفّقة، وحواسّي رهيفة متنعّمة، وكلّ ذلك يؤذن عندي بنصّ قريب.
تماهي الفنّين، الرسم والكتابة، يتجلّى في النصّ الذي تقرؤه فتراه، تراه لوحة، ومشهدا فوتوغرافيّا متحرّكا أمامك، تحضر فيه الصورة والموسيقى المتجلّية في إيقاع النصّ.
• اليوم بدأت القصّة القصيرة جدّا أو القصّة الومضة تفرض نفسها في الساحة، فهل جرّبت هذا النوع من القصّة، وما تقييمك للقصّة الومضة؟
بكلّ صدق لا كفاءة لديّ لتقييم القصّة القصيرة جدّا، ولكنّي لا أمنع نفسي من إبداء رأيي وموقفي منها.
القصّة القصيرة جدّا هي عندي بمثابة تمرين عضليّ شديد القسوة، أو حمية مؤلمة وصعبة لبطن شره وأكول.
هي دسمة هذا صحيح، ولكن لا طاقة لي عليها، أنا كاتبة شرهة للحرف وللعبارة، أكره التمارين الرياضيّة القاسية وحلّ المعادلات الفكريّة الصعبة، ولكنّي بالمقابل أحبّ فكّ الملغّز حين يكون محبوكا بحنكة واقتدار وعذوبة في نصّ سرديّ مطوّل.
ذات نقاش مع صديق يحترف القصّة القصيرة، قال لي إنّها المستقبل الحتميّ للأدب، وأنّ الرواية والقصّة القصيرة إلى زوال، والقصّة القصيرة جدّا هي مستقبل الأدب، لأنّها روح العصر ونسقه المتسارع، يجب أن يكون النصّ ومضة مكثّفة، فلا طاقة لقائلها أو قارئها للإطالة... شعرت بالهلع، وأوقفت المحادثة، ثمّ مرّ وقت قليل عدت بعده بشغف ومزاج عال إلى كتابة قصّة، كما يجب أن تكون عليه القصّة، أكتبها وأنا أردّد، ماذا حياتنا لولا القصّ؟
• كيف يبدو لك المشهد الثقافي بعد 2011؟
لا أذكر من تلك الفترة غير الحراك السياسيّ، والأحداث القويّة التي عشناها، ولكنّي سأتحدّث عن المشهد الحالي، الذي استعاد حركيّة محمودة بعد أن نفض عن وجهه ذلك الخمول والحزن الذي فرضته علينا جائحة الكورونا، ثمّة إنتاجات وفيرة، ثمّة أيضا صحوة مبهجة في الكتابة لليافعين، ولكن كلّ هذا لا يغطّي النقائص الفادحة في الساحة الثقافيّة والخور والإهمال للإبداع، قلّة الإمكانيّات فادحة، دور النشر متطلّبة، والكاتب يموت من أجل أن يخرج كتابا، والنقد الحقيقيّ مهمّش، والإمكانيات ضحلة، والقارئ جوهرة ثمينة، ولكنّها نادرة، سنظلّ على هذا البؤس ما لم تنهض وزارة الثقافة، وما لم تخصّص الدولة ميزانيّة مهمّة لها.
يجب مراجعة المناهج الأدبيّة وتطعيمها بنصوص حديثة محليّة ومعاصرة، أحلم بإدراج مادّة تاريخ الفنون منذ سنوات الابتدائي حتى السنوات الكبرى على غرار المدارس الأوروبيّة، لتربية النشء على التذوّق ولتهذيب نفسه وتجميلها واستفزازها إبداعيّا.
وأحلم بأن تنتشر الورشات التدريبيّة في الكتابة الإبداعيّة في كامل أصقاع الوطن. وأطالب بملتقى دولي للقصّة القصيرة، وبملتقى جامع للفنون، يلتقي فيه الأديب بالرسّام والموسيقيّ.
أحلم بإدراج ملتقيات ومهرجانات ثقافيّة تتمتّع بتمويل محترم يضمن الجودة ويعزّز كرامة الأديب،
وأخيرا، أطالب بأن تكون الكتابة فرض عين على كلّ متعلّمّ، حتّى يزهر عطر الكتابة ربيعا أينما حلّ في هذا الوطن.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115