عرض Glaise لإيمان العظيمي وبلال الجلاصي: رسائل متعددة، أبرزها السياسية: الحوار الذي لا ينبع من القلب هو عاصفة منتظرة..

جسد امرأة مقابل جسد رجل والطين حكم بينهما.. ترقص إيمان العظيمي باسم حواء كما يرقص بلال الجلاصي باسم ادم، لتطوّر المتناقضات حتى ندرك أنّ الصراع صراعات، صراع علاقات، وصراع فكري، وصراع وجودي.. عرض صامت، تكلّم فيها الجسد بقوة.. صراع امتدّ بين الطرفين ليجدا حلا في الأخير..

اعتمد هذا العرض الذي دام أربعين دقيقة على قصيدة شارل بودلير Charles Baudelaire، «الغريب» كمرجعية له.. هذا العرض كان بمثابة حلبة ملاكمة انتهت بانتهاء أصل الاختلاف.. وربما من خلال هذا العرض نفهم رسالة سياسية مفادها أنّ الحوار الذي لا ينبع من القلب لا يؤسس إلا لهدوء نسبي وعاصفة منتظرة..

يقول بودلير في قصيدته «الغريب»: قل لي، أيّها الرجل المُحيّر، من تحب أكثر، أباك ، أمّك ، أختك أم أخاك؟ ليس لي أب أو أم أو أخت أوأخ. أصدقاءك ؟ ها أنت ترطن بشيء مازلت أجهله. وطنك؟ لا أدري أين هو. الجمال؟ أحبّه عن طيب خاطر لو كان معبودة خالدة. الذهب؟ أمقته بشدّة. حسن ! ماذا تحب أيّها الوحيد الفريد ؟ أحب الغيوم ..... قطع السحاب ..... هناك ..... في الأعالي ..... الغيوم الرائعة».

وظّف العرض هذه القصيدة مرجعية له، وأراد الأجساد من خلال الرقص أن تشيّد ملحمة الإنسان الذي يعرف ذاته، ويصارع الآخر من أجل بقائه ليعقد اتفاقا بينه وبين الأخر، يعيش فيه معه بسلام.. بعيدا عن الصراعات التي لا تنتهي إلا بانتهاء أحدهما..
الذي يولد ساكنا هو أصلا ميّت..

أرادت إيمان العظيمي وشريكها بلال الجلاصي أن يصوّرا من خلال جسديهما ومن خلال حركة الأضواء حكاية الأنا والأخر التي تقوم أولا على الصراع، لنفهم بعد ذالك أنّ هذا الصراع يمكن أن يكون حتى بين الإنسان والطبيعة (المجسّدة في الطين)، بين الإنسان والزمن، وبالأحرى بين كل ثنائيات الصراع.. هذا الصراع الذي يشتدّ مرة ليخفت أخرى، لكنه يبقى متواصلا بتواصل حياة الإنسان.. هذا الإنسان الذي يحتاج للصراع كما للماء كي يعيش.. وهل تسمى الحياة نعمة دون صراع؟ الذي يولد ساكنا هو أصلا ميّت..
وكما في علم الرياضيات فإنّ القاعدة تقول: السلبيات تصنع الإيجابيات، في هذه اللحظة تحوّل الصراع الغاضب إلى نقطة قوّة ضد الأرض وما تملك من قوى رهيبة أقوى من الإنسان في غالب الأحيان، أصبح الجسدان ملتحمان ومتحالفان بالرقص وبالفكر ضد عدو واحد، أنهت الأجساد المفكرة الصراع بالحوار، فلم يعد الجسد الواحد يحارب الكل ليخسر الكل..هذا الحوار الذي فهمناه من خلال حركات وإيماءات الجسدين.. بالتالي يمكن أنّ نفهم أنّ هذا العرض هو دعوة لكف الصراعات التي لا تنتهي إلا بانتهاء الآخر، العرض دعوة لبناء أسس تبنى من خلال الحوار، هذا الحوار الذي يمكن أن يكون بين الإنسان وجسده، بين الإنسان وانتمائه، بين الإنسان وهوّيته، بين الإنسان وميولاته، بين الإنسان وأفكاره، بين الإنسان والآخر، بين الإنسان والمجتمع، بين الإنسان والزمن... ولا تنتهي الصراعات أبدا..
الحوار الذي تفرضه الأحداث الفوقية هو هدوء قبل العاصفة...

بالطبع لم نفهم الحوار الذي جسّده الراقصان الممثلان، حوارا تحت الطلب، ولا حوارا فرضه طرف قوي ضد آخر ضعيف، إنما كان حوارا لا بدّ منه من أجل البقاء.. حوارا لا مناص منه وإلا الفناء.. حوارا لأجل البناء.. لا غدر فيه، فهمنا ذالك من حركات الأجساد وصدق العيون.. وربما في هذا العرض نفهم رسالة سياسية مفادها أنّ الحوار الكاذب، الحوار الذي لا ينبع من القلب، الحوار الذي تفرضه الأحداث الفوقية لا يؤسس إلا لهدوء نسبي.. وهو بمثابة هدوء قبل العاصفة... لأنّ المعركة لم تفضّ حتى النهاية.. هو بمنطق الحرب هدنة لإعادة ترتيب الأوراق..

إن الثنائيات والصراعات التي حرّكت التاريخ، وأجّجت الإنسان ، هذه الصراعات التي أنتجت مما أنتجت من الفجائع تلو الفجائع.. اختار شارل بودلير أن يتخطاها كما تخطاها هذا العرض، إنّ الطبيعة أرحب وأغنى، يكفي أن ننظر إلى الأفق البعيد.. أن ننظر إلى امتداد الكون الشاسع.. أن ننظر إلى جبروت القدر وهالته، أن ننظر إلى الأعالي كما قال شارل بودلير في قصيدته الغريب.. هذا العرض لا يدعو إلى الحوار البناء فقط، وإنما هو دعوة إلى التحرّر.. فلا قيمة للحياة الإنسانية والقيود تكبلها من كل جانب.. اختار الجسدان في آخر المطاف إعلان الإتحاد ضد «الطين» الذي اعتبر في العرض عنصرا مؤثرا فيه، وهو بطل كما البطلين.. الطين الذي يرمز إلى العالم السفلي، إلى المحدود، إلى النهاية، إلى الشرور.. اتحد البطلان ضدّه فكأنّ الإنسان الذي يرنو إلى الخلود والبقاء حري به أن يعانق الكمال وكل ما يساهم في مساعدته نحو الكمال المنشود..

هذا العرض باختصار هو دعوة للتحرر، ومعانقة الآخر الذي نبني معه المستقبل دون أن يضع في أيدينا الأغلال بتعلّة التعايش الذي لا بدّ منه.. نجحت الأجساد من خلاله في تصوير ملحمة الاختلاف والصراع والحب..

بطاقة العرض
اسم العرض Glaise
فكرة وانتاج واخراج : حبيبة الجندوبي
كوليغرافيا: رشيد بالقاسمي
تمثيل: ايمان العظيمي وبلال الجلاصي
موسيقى: أسامة السعيدي

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115