في ندوة من تنظيم مركز الفنون الدرامية والركحية ببن عروس: مسارات وارتسامات المسرح التونسي في هزم ثقافة العنف

منذ قدم التاريخ كانت الفنون سلاحا في وجه مكبلات تحضر المجتمعات ونبراسا لهداية الإنسانية إلى طريق الرقي الفكري والروحي والجسدي...

وليس العنف إلا أحد الظواهر الخطيرة التي تنخر كالسوس الأفراد والجماعات في تهديد للسلم الاجتماعي والعيش في سلام. في هذا السياق تندرج ندوة «المسرح ومقاومة العنف» التي انطلقت من حادثة عنف واقعية هزت المجتمع التونسي لتحاول الإجابة عن مدى قدرة المسرح على هدم ثقافة العنف وبناء ثقافة اللاعنف ؟
احتضن المركب الثقافي بحمام الأنف ندوة فكرية بعنوان «المسرح ومقاومة العنف» من تنظيم مركز الفنون الدرامية والركحية ببن عروس. وق ترأس الندوة الفنان كمال اليعلاوي بوقاره المعهود ورصانته الوقورة.
• المدير معز العاشوري:
حادثة العنف في معهد الزهراء كانت قادحا للندوة
بعيدا عن التنظير والاكتفاء بتنظيم ندوات فكرية وفق ما جرت عليه العادة وكفى، جاء تنظيم ندوة «المسرح ومقاومة العنف» انطلاقا من الواقع المعيش وفي مواكبة لمستجدات حدثت وتحدث في بلادنا الآن وهنا. وقد كشف مدير مركز الفنون الدرامية والركحية ببن عروس معز العاشوري أنّ حادثة الاعتداء الوحشية التي قام بها تلميذ على أستاذه بمعهد ابن رشيق بالزهراء (ولاية بن عروس) في شهر نوفمبر الماضي كان قادحا بأن يكون موضوع الندوة الفكرية «المسرح ومقاومة العنف». وأضاف قائلا: « كنت في مقر المحكمة لقضاء شأن إداري عندما كان أعوان الأمن يقودون هذا التلميذ للمحاكمة. فنظرت في وجهه مليّا وتمعنت في ملامحه جيدا فلم أجد فيها ما يدل على إجرام أو انحراف أو حتى عنف.... فتساءلت في نفسي لماذا أقدم تلميذ لم يتجاوز 17 سنة على التسلح بسكين وساطور لتنفيذ جريمة بشعة في حق أستاذه؟ وحاسبت نفسي قائلا: ما فعلنا نحن المسرحيين ، نحن الفنانين لاحتواء هذه الناشئة و منع سلوك العنف لديها؟ ومن هنا سعينا إلى تنظيم هذه الندوة حتى نفكر معا في حلول تحد من تفاقم ظاهرة العنف من خلال ركح «أب الفنون.»
• توفيق العلوي:
الكتابة على الجدران ... ثقافة جديرة بالاهتمام
في مداخلة بعنوان « مسرحة ظواهر العنف في المسرح التونسي» قدّم الدكتور توفيق العلوي مقارنة طريفة بين خشبة المسرح وجدار الشارع في اقتفاء لآثار مظاهر العنف في الشارع التونسي والتي يرى أنها مُمسرحة بطبعها. وحاول صاحب كتاب «نحوُ الشوارع» توفيق العلوي تفكيك العلاقة بين العنف اللغوي على الجدار وفن المسرح، قائلا: « إنّ التدوينات الجدارية تمثل نصا ما بالضرورة حتى وإن كانت مجرد خربشات. نحن إذن إزاء نص متمرد وحجاجي ومطلبي. وهو نص عنيف من زاوية السلطة التي تعتبر هذا الخطاب خطاب الهامش. ومنذ ظهور فن الغرافيتي، انقسمت الآراء بين المساندة والإدانة، بين من يعتبره اعتداء على المحيط الاجتماعي والثقافي وبين من يعتبره «ثقافة مضادة لثقافة المركز».
ولابد من الإشارة إلى أنّ الخطاب الجداري مقترن بالتأويل. وهو في غاية الطرافة، فيمكن للجميع قراءته كل من زاويته مهما اختلفت المستويات التعليمية. ولقد عرف العرب الخطاب الجداري منذ القرن الثالث أو الرابع حيث قام «الأصفهاني» في كتابه «أدب الغرباء» بجمع الأبيات الشعرية المكتوبة على الجدران».
وخلص المدير السابق لمعهد الترجمة توفيق العلوي إلى أنّ «الجدار ظاهرة اجتماعية على غاية من الأهمية يمكن تشبيهها بخشبة المسرح باعتبار أن المدوّن على الحائط يجمع بين عديد الأدوار فهو الكاتب المسرحي وهو الممثل والمخرج في آن واحد. وفي الوقت الذي يحتمل فيه النص المسرحي بعض المراجعة على الركح يأتي النص الجداري مفتوحا على التواصل والإضافة إلى ما لا نهاية. ولئن كان الركح في المسرح محددا فضائيا فإن فضاء الجدار غير محدد بزمان أو مكان».
وفي نهاية المطاف، أكدّ أستاذ اللغة واللسانيات بكلية منوبة توفيق العلوي أنّ الكتابة على الجدارن أو «الغرافيتي» هي عنوان ثقافة «هامشية» جديدة تفرض علينا الإنصات إلى صوت الشباب في تحليل لرسائل «نَحوِ الشوارع».
• نجمة الزغيدي:
المسرح أنقذ الأطفال من خطر الألعاب الرقمية
في سلاسة طرح وتسلسل أفكار، أقنعت الفنانة والإخصائية النفسية نجمة الزغيدي الحضور في مداخلة بعنوان «عملية الخلق المسرحي لدى الطفل وأثرها في تجاوز السلوك العنيف». وقد أفادت بالقول :»لابد من توضيح أن العائلة التونسية أصبحت تعيش ضغطا اقتصاديا واجتماعيا في ملاحقة قوت العيش والصراع مع الوقت. وهو ما ينعكس سلبا على تنشئة الطفل في غياب للإحاطة النفسية والعناية العاطفية... وفي المقابل يكون هذا الطفل في مرمى عنف الرقمنة وعنف الإعلام وعنف الشارع. والأخطر أن انقطاع وشيجة التواصل بين الطفل والعائلة من خلال قنوات الحوار والنقاش والاستماع، دفعت كثير الأطفال إلى الارتماء في فخ الألعاب الإلكترونية على غرار لعبة «الحوت الأزرق» التي تسببّت في كوارث كبرى». وسردت كاتبة السيناريو نجمة الزغيدي تجربتها مع «جمعية فن الشارع» وكيف استطاعوا إخراج أطفال من عزلتهم وصمتهم وقلة ثقتهم في أنفسهم من خلال مسرحية تحذر من خطر الّألعاب الإلكترونية... وفي ختام مداخلتها قدمت الفنانة نجمة الزغيدي ثلاثة وصايا لحسن تأطير الطفل وهي: الاستماع للأطفال ومنحهم المجال للتعبير عن أنفسهم والوعي بوجودهم والإحساس بذواتهم. وجعلهم يكتشفون أجسادهم من خلال الرقص والرياضة والرسم... وتخصيص الوقت الكافي لهم لممارسة اللعب في أطر سليمة ومفيدة.
• سامي النصري:
مسرح السجون رمز لمقاومة الفنّ للعنف
اقترح الدكتور سامي النصري مداخلة قيمة وعميقة بعنوان «العنف والأعنف في مقاربة المسرح للحياة: بياض وسواد عند حدود الكتابة في المسرح التونسي». وبعد أن نبش في جذور ثقافة العنف في المرجعيات الغربية والمراجع الأجنبية وطرح كيفية تأصل العنف في المجتمعات الحديثة، تساءل المخرج المسرحي سامي النصري : من الخطير أنّ المجتمعات البشرية تقبّلت العنف ولأنّ المسرح لا يقبل العنف، فكيف له أن يواجه العنف، وبأي أسلحة ؟
وأردف قائلا: «في المجتمعات الحديثة أصبح العنف مجالا عمليا لتحقيق السلطة والتسلط، الإخضاع والخضوع... وفي مجتمعاتنا العربية نحن نعي جيدا أنّ الثقافة مهمشة وأنّ المسرح كما بقية الفنون يواجه الحصار و محاولة تضييق الخناق عليه....ولأنّ المسرح هو فنّ إرباك وإثارة السؤال واستفزاز التفكير، فإنّ المسرح التونسي هو من أهم الفنون التصاقا بخصوصية هذا المجتمع في محاولة لطرح هواجسه الأساسية والعميقة. ولقد ذهب الفن الرابع في بلادنا إلى تحليل منابع العنف النفسية والاجتماعية والاقتصادية في علاقة بالسلطة والصراع الطبقي وجدلية الفرد والمجموعة...».
وأكد الفنان والباحث سامي النصري بأن ّ المسرح ليس مجرد تعبير بل هو بناء وعلاج. وقد عرف المسرح التونسي تجارب اشتغلت موضوعيا على العنف منذ السبعينيات في فضح لعنف السلطة على وجه الخصوص... وهناك تجارب ظهرت قبل الثورة وتطوّرت بعدها على غرار مسرح السجون والمسرح المدرسي والمسرح في المؤسسات الصناعية... معتبرا أنّ هذا النوع من المسرح هو في قلب معادلة المقاومة بالفن والبحث عن التغيير الاجتماعي.
• سامي الذيبي:
المسرح المدرسي صمام أمام ضد العنف
هل يستطيع المسرح التونسي العثور على مخرجات لمقاومة العنف؟ هكذا تساءل الدكتور سامي الذيبي في مداخلته حول «دور المسرح في مقاومة ظاهرة تفشي العنف المدرسي» مؤكدا أنّه لابد من التمييز بين نوعين من العنف: عنف التلميذ ضد المدرس وعنف المدرس ضد التلميذ.
وعدّد الشاعر سامي الذيبي إحصائيات محينة وأمثلة دقيقة عن دور المسرح المدرسي في لعب دور الحصن ضد العنف وفوائده في إكساب الأطفال والناشئة الثقة في النفس والمرونة في التعامل والخيال والقدرة على التحليل والتأمل والنقد... إلى جانب غرس قيم النبل والأمانة والصدق فيهم.
واقترح الباحث سامي الذيبي جملة من التوصيات التي من شأنها تخفيف ظاهرة العنف في المحيط المدرسي على غرار نشر ثقافة التسامح ونبذ ثقافة العنف والتربية على حسن الإصغاء والتواصل وإعادة هيكلة الأنشطة الثقافية والرياضية ومراجعة منظومة التأديب بالمؤسسات التربوية لتصبح ذات بعد وقائي وإدراج علم النفس في المؤسسات التربوية...
وشدّد المُحاضر على ضرورة توفر المسرح المدرسي في كل المؤسسات التربوية حتى يحمل جيل الغد حقا مشعل التفكير والتنوير.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115