الشاعر الطاهر البكري لـ «المغرب»: «شعري يتصدّى إلى باعثي الموت»

ديوان جديد للشاعر التونسي الكبير الطاهر البكري عنوانه «توت حزين في الربيع العربي» صدر مؤخرا عن دار المنار للنشر بباريس. هو عبارة عن خلاصة تجربة الشاعر منذ اندلاع الثورة التونسية. فبعد أن نطق بديوان «أسميك تونس» اثر انتفاضة الشعب ضد الدكتاتورية ليقول ميلاد وطن

جال الطاهر البكري، كعادته في متاهات الشعر و الأحاسيس و التأملات في دواوين أخرى. وها هو يرجع للوطن ليخلص إلى ما آلت إليه الأمور من ترد وكـأن «التوت الحزين» يشهد على المآسي التي يعيشها البلد. لكن هذا الديوان الشعري هو ، ككل دواوين الطاهر البكري، جولة في الإنسانية. هو أيضا حوار مع الآخر، مع الشاعر الآخر، مع ناظم حكمت و سينغور و سيزير. هو أيضا تأمل في أرض المهجر أين يعيش الشاعر. وهو كذلك ربط شعري طريف بين الذاتي و الإنساني، بين الأنا و الآخر، بين ما يهم التونسي وما يربطه بالعالم و بالإنسانية. كلمات نحتت مواقف تحررية و أشعار بثت قيما إنسانية خالدة جسدها الطاهر البكري في مشاهد و صور وشخصيات و أشجار و مساحات حالمة من بلاده و من العالم. إلتقيت الطاهر البكري في مدينة باريس أين كان لي معه هذا الحوار.

• نشرت مؤخرا في دار المنار بباريس ديوانا شعريا بالفرنسية تحت عنوان “شجرة توت حزينة في الربيع العربي». وسبق و أن نشرت مجموعة بعد اندلاع الثورة التونسية بعنوان «أسميك تونس». لماذا هذا الديوان الجديد بعد خمس سنوات من اندلاع الربيع العربي؟ هل أردته تقييما للمسار الثوري بعين شعرية؟
الديوان الجديد نابع في كتابته طيلة السنوات الأخيرة من هموم الربيع العربي أو ما سُمي كذلك. لقد تتابعت الأحداث في دمويّتها و حروبها و دمارها و فشلها في إرساء التقدّم و الحداثة والنهوض بشعوبنا إلى طريق الديمقراطية وجني ثمار الكفاح الطويل من أجل كرامة و حرية الإنسان العربي. الشّعر لا يُكتب لتسجيل الأحداث أو لتقييمها حتّى و إن كانت ثوريّة بل للتعبير عنها بصدق و بعمق وجماليّة داخل الشعور و كيان اللغة. و من ثمّ فأنا لا أقبل ما يُرتكب باسمي و باسم الإنسان العربي أو الإسلامي من وحشية وبربرية و إرهاب وتصدير للرعب و القتل. أكتب لأنّ إنسانيتي تمنعني من الصمت ولأن الشّعر قبل كل شيء هو حبّ الإنسانية. و لذلك فإنّي أعتبر الديوان دفاعا عن إنسانيتي وعن ربيع حقيقي. وللشعر قولٌ يجب أن يفوق أو أن يسبق الحدث ويسمو بالشعوب إلى رفعتها و ينادي بقيَمها عندما يجرّها السّاسة إلى الحضيض.حزني كحزن شجرة التوت التي كان بإمكانها أن تعطينا نسيجا و حريرا جميلا ولكنها غطّت الأرض برداء أسود مظلم. تونس حاضرة بقوّة في هذا الديوان الذي يتصدّى إلى باعثي الموت مهما كانت غاياتهم ، دينية أو سياسية أو عقائدية. الشعر قلب الحياة النابض و لا بدّ لشرايينه أن تسيل فيضا خصبا مثمرا لا أنهارا من الدماء والدموع والآلام.

• هذه المجموعة الجديدة من الأشعار تبدو كذلك خلاصة لتجربة إنسانية، لجولات في مدن مختلفة من العالم فيها قصائد تتجول في تونس و كوبا و تركيا وفرنسا و سوريا و السينغال و مالي و جزيرة المارتينيك. هل للربيع العربي صلة بهذه الرحلات - التجارب؟
انتمائي لتونس هو كذلك انتماء إلى العرب وإفريقيا والمتوسط و الجذور التاريخية المتّصلة بربوع العالم المتشابكة و المتلاحمة في واقع إنساني يكاد يكون واحدا بحكم الأحداث وتقلباتها. لقد أسعفني الحظّ منذ سنوات في السفر والتجوال والترحال فكانت الأمكنة التي منها أكتب بمثابة مسار « الثابت و المتحوّل « و ما الربيع العربي إلا حلقة من سلسلة جغرافية وتاريخية متماسكة و لا يمكن للشاعر أن يغضّ الطرف عنها في أحادية مفتعلة. تجربتي الإنسانية وليدة عصارة التلاقح والتأمّل في فسيفساء الحضارات المتداخلة وذاكرتي اليومية تتغذّى من واقع و خيال يحملان ما يسكُنني من أمل و خيبة فردية أو جماعية والربيع الذي سُرق من صانعيه الفعليين هو نفسه الذي حُرمت منه شعوب أخرى عبر القارّات ، ماضيا وحاضرا. لقد كان الشاعر أبو العرب الصقلي يكتب في صقلّية في القرن الحادي عشر:
إذا كان أصلي من تراب فكلها بلادي و كلّ العالمين أقاربي
فكيف للشاعر العربي اليوم أن يتجاهل انتماءه إلى الإنسانية؟

• تبدو النزعة التحررية أهم ركائز تجربتك الشعرية كما لخصتها في ديوانك «في حضرة يونس إمره» عندما قلت: «فضل / أن تبقى غريبا/ و حرا/ على أن تكون كلبا مخلصا ومقادا/». و تتجلى هذه النزعة في هذا الديوان الجديد عبر حوارات شعرية طريفة مع ناظم حكمت و ليوبولد سيدار سنغور وإيمي سيزار و غيرهم من الشعراء و كأنك تربط قضية تحرر الإنسان العربي في الربيع العربي بتجارب أخرى في العالم و تعطيه بعدا كونيا. هل هذا ما أراده قلمك؟
قيمة الشعر الأخلاقية كتابة ومعنى تكمن في حريّته دون مساومة أو تنازل عن القيم الإنسانية الأساسية . مهما كلفه ذلك : ثقل المنفى أو معاناة المهجر، مثلا. إخوتي في الحرّية و الشعر عديدون يملؤون تاريخ الأدب و أذكر منهم : الشابي، السيّاب، درويش، نيرودا، سيزار، ناظم حكمت، سنغور، غارسيا لوركا، بوشكين و تطول القائمة فكان في الديوان قصيد «المنفى المتمرّد» و ربّما سمّيته كذلك «المنفى المتحرّر» و كانت قصائد أخرى تتحاور معهم ، تحمل حبّا واعترافا وتنويها لأنّ موقع الشعر يكون في طليعة التمسّك بالمبادئ التي لا تقبل الذلّ والعبودية والمهانة والتكسّب والمديح المخزي. الكونيّة طبيعية بالنسبة لي. وكنت كتبت سابقا : «الجذور هامّة و لكنّ الأهمّ هي الزّهور».

• يبدو نصك الشعري «متسيسا» يأخذ موقفا واضحا لفائدة النور و ضد الظلام. و سبق أن قلت «إحفظ قلمك قائما / بعيدا عن حبر السلطان»/ . فهل يعني ذلك أن استقلالية الشاعر لا تمنعه من خوض معارك آنية ضد أعداء الحرية مثل الحركات التكفيرية الجهادية التي حولت الحلم الثوري إلى كابوس في الربيع العربي؟
لا أكتب خطابا سياسيا متساهلا يرجّع صدى سيّده بل حقائق ذاتية وجماعية أكابد وقعها الخطير يوميّا واستقلاليتي لا يعني انعزالي أو تجاهلي لكلّ ما أعيشه كقلق و حيرة وانكسار في بحر الظلمات وقلعة الحشاشين وذبح النفس البشرية ووعْدا بالجنة وبالآخرة. أعداء الإسلام هم هؤلاء الذين يجعلون من العقيدة الآمنة و المحتارة في نفس الآن بهتانا كمطيّة للسلطة بشتّى أنواعها وهم ينخرون دينهم كالسّوسة في العظم. الشعر تأسيس و بناء حضاري و من يساهم أو يعمل على تقويض وهدم الحضارة هو من أعداء الإنسانية. وبالتالي فأنا لا أخوض معارك آنية بقدر ما أكتب واجبا شعريا ضدّ «خفافيش الدجى « وأعداء النور الذين دمّروا و يدمّرون البلدان العربية والإسلامية واحدا واحدا و من السّهل تصوير خريطة الدمار المتواصل منذ عقود كأنّ هناك مخططا جهنّميا لصنيعهم الغريب. ولكن لا غرابة فهم يُنَظِّرون لإدارة التوحّش...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115