مسرحية «قلب الرحى» إخراج دليلة المفتاحي: المسرح فعل إنساني ينحاز إلى الهامش

تتشابك القضايا وتتداخل الاحداث الخاصة مع القضايا الجماعية وتتماهى مشاكل الفرد مع هواجس المجموعة، تتداخل

الاراء التي تسكن المواطن الفرد قبل ان تنطلق عاليا ويصرخ مصرحا بوجعه ووجع المجموعة فمن الانا تولد قضايا الاخرين والهامش وقصصه هو منبع للأفكار والبحث وهو الفضاء الابداعي الذي تسكنه دليلة مفتاحي منذ اعوام لتقدمه مسرحيا بطريقة مختلفة وآخر اعمالها النبش في عوالم الموسيقيين الهامشيين «العرابنية» وما يقدمونه للمجتمع ومعاناتهم وإقصائهم بسبب الاختلاف.
في عمل مسرحي جديد «قلب الرحى» تسلط كاتبة النص دنيا مناصرية والمخرجة دليلة المفتاحي الضوء على المهمشين صانعي الفرحة من موسيقيين وفنانين وقد صمم إنارة المسرحية محمد رشاد بالحلحم وموسيقى لبلال بن سليمان انتاج شركة مسرح الناس للعام 2021.
المسرح يتسع للجميع، يحمل كل الافكار المتناقضة ويحوّلها الى ابداع ينساب كما مياه الشلالات فتحضر المزحة و التراجيديا ينقلها ممثلون احبوا الخشبة واختاروا ذاك الفن القاسي متعتهم وحولوا تعبه الى اعمال مسرحية تمتع المشاهد وتسكنه بالسؤال كذلك هم الممثلون في مسرحية «قلب الرحى» التي قدمها ثلة من امهر الممثلين على غرار لطفي التركي الذي جسد دور امرأة واقنع في الاداء وتماهى مع الشخصية ومع انفعالاتها وطريقة الحركة والرقص ليبدو وكأنه امرأة حقا، و الممثل المختلف كمال الكعبي الذي جسد شخصية مضحكة ومركبة بالإضافة الى ليلى الرزقي ونزهة وشيماء التوجاني وطارق بوزيد وكل منهم ساهم في البناء الدرامي للعمل بطريقته ليكون متكاملا مضحكا ومبكيا في الوقت ذاته.
المكان أمكنة مكان حاضر هو منزل احدى النساء ومقر التدريبات والبرايف وأماكن اخرى متخيلة تحضر فقط من خلال الحوار على غرار منازل النساء الاخريات و امكنة العمل والجامعة فكل الامكنة هي جزء من تركيبة الشخصية ولها تأثيرها على ادائها في الفرقة، هنّ مجموعة من النساء يعملن في فرقة نسائية يغنين التراث يشرف عليهنّ رجل صعب المراس هو المسؤول عن الاتيان بالعرابن ويقوم بخلاص النسوة اللواتي يصنعن البهجة في الافراح لكنهن يعانين الكثير من الوجع بسبب ضعف الاجر ومعاملة المجتمع ونبذه للنساء العاملات بالمجال الفني بالإضافة الى تقديم مادة موسيقية تراثية و اصحاب الافراح يبحثون عن الجديد على غرار «العوادة».
احداث المسرحية تاريخيا قديمة فمن خلال النص تعود الى العام 2008 من خلال المعركة الخفية بين التراثي والتجديدي و كذلك الاشارة الى احداث الحوض المنجمي لكنها صالحة الى الزمن الحالي فلازال هناك صراع بين المجددين في الموسيقى والمحافظين على طابعها التقليدي ولازلت قفصة تشكو التهميش وجور السلطة ولازال الطالب يشعر انه غريب عن الجامعة والوطن ولازال الفنان ينتظر قانونا يحميه من الاستغلال، وكان المتابع للمسرحية يشعر بتوقف عقارب ساعة الاحداث في 2008 فقط تغيرت الاعداد والسنوات لكن التهميش والاغتراب النفسي حافظ على مكانته.
«قلب الرحى» هو اسم المسرحية وللاسم رمزيته لأنه مفتاح العمل وباب الدخول الى تفاصيله، قلب الرحى اين تجتمع حبات القمح بعد رحيها جيدا لتصبح دقيقا صالحا للاستعمال بعد هرسها بطريقة التدوير وتلك العصا الغليظة التي تتوسط الحجرين، كذلك الفرقة الموسيقية النسائية تطحنها حجارة الدولة القاسية بعصا التهميش والاجهاض الفكري لتصبح كما الدقيق خانعة ومسالمة وصالحة للاستعمال ومغيبة فكريا وروحيا.
«قلب الرحى» تتناول مسالة الصراع بين الاذواق الموسيقية ومنه الصراع بين طبقات المجتمع فالصراع بين المعارضين وانصار النظام السابق والأنظمة اللاحقة، صراع بين الحق والباطل، صراع لأجل البقاء، صراعات يومية نعيشها ونعايشها دون الانتباه احيانا الى خفاياها، فهل تساءلت عما تعانيه تلك المغنية في بيتها بعد انهاء عملها اخر الليل؟ هل تساءلت عن الملاليم القليلة التي يتقاضاها الفنان مقابل اسعادك وإمتاعك روحيا ونفسيا؟ هل تساءلت عن مرض استوطن جسده؟ عن خوف من فقر يعانيه؟ عن وجع يخفيه خلف ابتسامة يصنعها قبل الصعود الى المسرح؟ هل تتساءل اللجان عن صدق الممثل او الفنان لحظة الاداء امام امتحان اللجنة؟ هل مجرد غلطة تؤثر على مسيرته وتحرمه من حقه في بطاقة الاحتراف؟ اي وجع وتمزق يعانيه الفنان بين التراث والجديد؟ هل يحافظ على فنه ام يسعى للتغير ليجد مكانته؟ كلها اسئلة تطلقها اجساد الممثلين على الركح، وجع يختزله الممثلون ويقدمونه في المسرحية الوجع الصادق الذي ينقلونه هو وجعهم وخوفهم فكم من مسرحي يعيش ازمة مالية ومجتمعية لانه اختار فنا صعبا موارده شحيحة وتعبه اكثر؟ كم من مسرحي عانى منذ بداية ازمة الكورونا والبطالة القسرية التي احيلوا عليها؟ كل ذاك الخوف أبدع الممثلون في تقديمه من خلال شخصيات يعرفونها ويعايشون المها ومخاضها لأجل البقاء.
«قلب الرحى» مسرحية مسكونة بالوجع ومشحونة بالنقد، هي عمل ينقل معاناة الفنان بين الماضي والحاضر دعوة صريحة لانجاز قانون الفنان واحترام مهنته من قبل المجتمع، هي صرخة ضد الدولة وسياسة التهميش التي تنتهجها منذ سنوات ومحاولة للبناء وتقديم مسرح جاد ينحاز للمواطن والانسان وهي مسار اختارته دليلة المفتاحي في الاعمال التي اخرجتها من «قمرة 14» الى «عروسة البازار» و«قلب الرحى».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115