Print this page

باب القرآن: "الفاءات" في القرآن الكريم (3)

خامساً: الفاء الفصيحة: ويسمّيها بعض المفسّرين (الفاء) التفسيرية. ومعنى فاء الفصيحة: أنها الفاء العاطفة، إذا لم يصلح المذكور بعدها

لأن يكون معطوفاً على المذكور قبلها، فيتعين تقدير معطوف آخر بينهما، يكون ما بعد الفاء معطوفاً عليه. وتسميتها بالفصيحة؛ لأنها أفصحت عن محذوف. مثالها قوله عز وجل: "فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا" البقرة:60، قالوا: (الفاء) في الآية هي فاء الفصيحة، والتقدير في مثل هذا: فضرب، "فانفجرت". ومن أمثلتها أيضاً، قوله عز وجل: "فما جزاء من يفعل ذلك منكم" البقرة:85، (الفاء) فصيحة عاطفة على محذوف، دل عليه الاستفهام الإنكاري. وبهذا تعلم أن (الفاء) الفصيحة ترجع في خاتمة المطاف إلى قسم (الفاء) العاطفة.

ومن المفيد القول هنا: إن المفسرين قد تختلف أنظارهم في تعيين المراد بـ (الفاء) في هذه الآية، أو تلك، هل هي عاطفة، أو جوابية، أو سببية، أو زائدة؟ ولا غرابة في ذلك؛ إذ إن السياق الذي ترد فيه (الفاءات)، يحتمل هذا النوع من الاختلاف، ولا يمكن القطع دائماً بمعنى معين من المعاني التي تفيدها (الفاء).
ومن الأمثلة على هذا الاختلاف في تعيين (الفاء)، قول الآلوسي عند تفسيره لقوله تعالى: "فتوبوا إلى بارئكم"البقرة:54، قال: الفاء للسببية؛ لأن الظلم سبب للتوبة، وقد عطفت ما بعدها على {إنكم ظلمتم أنفسكم}، وتشعر عبارات بعض الناس أنها للسببية دون العطف، والتحقيق أنها لهما معاً.

ويرشد لهذا أيضاً ما ذكره ابن عاشور عند تفسيره لقوله سبحانه: "فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين" الزخرف:55، قال: إما أن تجعل الفاء زائدة، لتأكيد تسبب "آسفونا" في الإغراق، وأصل التركيب: انتقمنا منهم فأغرقناهم، على أن جملة "فأغرقناهم" مبينة لجملة "انتقمنا منهم"، فزيدت الفاء لتأكيد معنى التبيين، وإما أن تجعل الفاء عاطفة جملة "انتقمنا" على جملة "فاستخف قومه" الزخرف:54، "فأغرقناهم".

ومن هذا القبيل أيضاً، قوله عز وجل: "وربك فكبر"المدثر:3، قال الرازي: "فكبر"، ذكروا فيه وجوهاً: أحدها: أن الفاء زائدة. ثانيها: دخلت الفاء لإفادة معنى الجزائية، والمعنى: قم فكبر ربك. ثالثها: أن الفاء لإفادة معنى الشرط، والتقدير: وأي شيء كان، فلا تدع تكبيره.
ومن ذلك أيضاً، قوله تعالى: "أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم"الجاثية:31، قال أبو حيان: وفاء "أفلم" تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون زائدة. والوجه الثاني: أن تكون تفسيرية.

ونظير ما تقدم قوله سبحانه: "فيقسمان بالله إن ارتبتم"المائدة:106، قال القرطبي: الفاء في "فيقسمان" عاطفة جملة على جملة، أو جواب جزاء؛ لأن "تحبسونهما" معناه: احبسوهما، أي: لليمين؛ فهو جواب الأمر الذي دل عليه الكلام، كأنه قال: إذا حبستموهما، أقسما. ومثل هذا الاختلاف في تعيين المراد بـ (الفاء) كثير في أقوال المفسرين.

المشاركة في هذا المقال