في مسلسل «حرقة» على الوطنية الأولى: صفعات قوية في وجه الحكومات النائمة في العسل !

هي رحلة إلى المجهول تحفّها المخاطر ويطوّقها شبح الموت، وهي هجرة سرية لا يمكن لأحد أن يتنبّأ بمصيرها، هي «حرقة»

قد تكون قشة نجاة أو شرارة نار تحرق آخر الآمال والأحلام. إنّ البحر يشهد على قصص آلاف وآلاف من البشر امتطوا قوارب الموت زهدا في حياة قست عليهم فوق احتمالهم وأملا في مستقبل أفضل وحلما بالعيش في بلاد أخرى قد تكون أرحم بهم أكثر من وطنهم وموطنهم.
بمنتهى التشويق يدفعنا مسلسل «حرقة» الذي يبث على قناة الوطنية الأولى إلى انتظار حلقته الموالية بكثير من الشغف بعد أن ترك في أذهاننا أسئلة معلّقة عمّا سيحدث يا ترى والأبطال عالقون في اليّم والأرواح معلّقة فوق قارب الخطر؟
معالجة درامية متقنة وجماليات متفردة
كثيرا ما تكون البدايات المشوّقة فاتحة للشهيّة لبلوغ النهايات المثيرة. ومنذ أولى حلقاته نجح مسلسل «حرقة» في تحويل الأنظار إلى شاشته وشد جمهور المتفرجين إليه... لقد نطق هذا العمل بلسان مئات العائلات التونسية التي اكتوت بنار فقدان أحد أفرادها على متن قوارب الموت. كما ترجم معاناة وآلام أمهات وآباء وهم يعثرون على جثث فلذات أكبادهم وقد اقتاتت الحيتان شبابها الغض...
كما يحلل مسلسل «حرقة» من منظور اجتماعي ونفسي الأسباب القاهرة التي دفعت «الحارق» سواء كان رجلا أو امرأة إلى ركوب الخطر في هجرة غير مضمونة الوصول، فإنه في المقابل لم يتردد في توجيه الأصابع إلى الحكومات المتورطة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في إجبار الشباب على مغادرة بلد يعانون فيه الفقر والقهر والبطالة وقتامة المستقبل.
هل الحياة هناك، في الضفة الأخرى من المتوسط أفضل؟ عن هذا السؤال يجيب مسلسل «حرقة» من خلال نقل تفاصيل يوميات تونسيين وأفارقة حالفهم الحظ في الوصول إلى إيطاليا. هؤلاء المهاجرين عثروا على مهن متواضعة تقيهم الجوع لكنهم لم يجدوا الأمان والاستقرار والجنة الموعودة !
عين على الأفارقة بكاميرا مغايرة
إن كان الإتقان هو العنوان الكبير لمسلسل «حرقة»، فإنّ من نقاط القوة و الطرافة في هذا العمل الدرامي هو تسليط الضوء على قضايا الأفارقة الذين يجابهون الموت والأخطار هربا من الفقر والجوع والحرب ليصلوا إلى تونس كمحطة للعبور نحو إيطاليا في مرحلة ثانية. هؤلاء الأفارقة ننتمي وإياهم إلى قارة واحدة وبعضهم يعيش بيننا ويقتسم معنا أرضنا وسمائنا... لكن لم يحدث أن تعرفنا عليهم عن قرب كما صوّرهم لنا مسلسل «حرقة».إنهم لا يقلّون عنا بل يحدث أن يفوقوننا شهامة وإنسانية ولكنهم يحملون أوزارا ثقيلة من الوجع والحرمان والعنصرية توهموا أن الوصول إلى إيطاليا سيخلصهم منها لكنهم كثيرا ما يغرفون مع آلامهم وآمالهم في بحر متلاطم الأمواج.
سواء كانت «الحرقة» من شواطئ جرسيس أو صفاقس أو المهدية... فإن العدّة واحدة: «شقف» مهترئ و»حرّاق» يتاجر في الأرواح. أما نهاية الرحلة فكثيرا ما تكون موّقعة بالفاجعة... الكارثة.
إن مسلسل «حرقة» حرق بدوره حدود الزمان والمكان ليطرح قضية إنسانية معقدة ومعضلة كبرى تؤرق العائلات ومن صحي ضميره من الحكومات !
عماد الدين الحكيم كاتب لمّاح والأسعد الوسلاتي مخرج ذكي
للمرّة الثانية تراهن مؤسسة التلفزة التونسية على عمل درامي من إخراج الأسعد الوسلاتي وسيناريو وحوار عماد الدين الحكيم وتكسب الرهان. فبعد أن حقق مسلسل «المايسترو» الذي بثته الوطنية الأولى في رمضان 2019 نجاحا باهرا، أتى مسلسل «حرقة» في رمضان 2021 ليصالح الجمهور مع الدراما الجادة والحاملة للقضية وليثبت مرة أخرى أن عماد الدين الحكيم والأسعد الوسلاتي ثنائي من ذهب قادر على صنع العجب حين يلتقي على الخط الإبداعي نفسه.
لقد كتب عماد الدين الحكيم «حرقة» بقلم الواقع وحبر الصدق بلا إثارة مجانية وبلا توظيفات مسقطة بل أبدع في تدوين ما قلّ ثرثرة وما دلّ معنى ومغزى. فإذا بنا أمام قصص كثيرة لشخصيات عديدة فرّقت بينها التفاصيل والأوجاع لكنها التقت على قوارب الموت من أجل تحقيق حلم واحد أو السقوط في الخيبة ذاتها. لقد وجد هذا الكاتب الحكيم خيطا رابطا بين كل شخصياته المشتتة وأحداثه المتشابكة فجمع بينها في توليفة منسجمة ومشوّقة. وبكثير من الطرافة، مرّر عماد الدين الحكيم من مشهد إلى آخر ومضات أو غمزات تعلق مباشرة في الأذن وقد اتخذت شكل الموعظة أو العبرة أو الخلاصة على غرار :» كلنا في فلوكة واحدة مش عارفين وين هزتنا...» - «الضناء كي شمعتو تطفى... تطفى معاها برشا حاجات» - « الصلاحيات إلي بش تنزع مني صفة البنادمي ما حجتيش بيها ...».
في «حرقة» انساب الحوار بسلالة وعفوية دون تعسف أو ارتباك... فكان الحديث بين أبطال العمل مستقرا في الوجدان ونافذا إلى القلوب لأنه بكل بساطة يشبههم ومنهم وإليهم.
في هذا السيناريو اللاذع لعماد الدين الحكيم، وجد المخرج الأسعد الوسلاتي قصته وضالته... فطوّع كاميراه لتصوير مشاهد مؤثرة وحارقة في «حرقة». إن يمتلك هذا المخرج زوايا نظر وجماليات تصوير خاصة به ولا تشبه غيره، فإنه يمتاز بالقفز برشاقة بين المشاهد والأحداث ليجعل المتفرج يلاحق كاميراه وخطاه بشوق وإعجاب في كل حلقة جديدة.
يبدو اجتهاد الأسعد الوسلاتي واضحا في سعيه إلى إخراج مسلسل على قدر عال من الحرفية والجودة وهو الذي قضى أشهرا طويلة في التصوير سيما وأن جزءا هاما من الأحداث يدور على ظهر قارب في عمق البحر. في نسق متسارع غير ممل، وّجه مخرج «حرقة» الكاميرا والحركة في مسارها الصحيح والمثير دون تمطيط ركيك أو تكرار كريه... لا أحد يمكنه التشكيك في تمكّن الأسعد الوسلاتي من إدارة الممثلين على غرار وجيهة الجندوبي وعائشة بن أحمد ورياض حمدي ومهذب الرميلي ومالك بن سعد وجمال شندول والقائمة تطول عن أبطال لعبوا أدوارهم بكل روعة في الظهور وصدق في الأداء.
كثيرا ما تم تناول قضية الهجرة غير الشرعية في الدراما كما في الروايات والسينما والمسرح ، ولكن مسلسل «حرقة» انطلاقا من عنوانه وصولا إلى مضمونه سلط كل الضوء والاهتمام على تفكيك أسباب هذه الظاهرة ونتائجها... في انتظار الكشف عن المزيد من الخبايا والأسرار وربما الحلول في الحلقات القادمة من «حرقة».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115