لسان الروح: صناعة الفتوى: الأهلية الأخلاقية للمفتي (2)

من المعلوم أن الفقيه لا يكون فقيها حتى تتوفّر فيه الأهلية العلمية، من تمكن في العلم الذي يفتي فيه على التمام والكمال، ويجيزه أهله المختصون به،

حتى يستطيع أن يفتي، لكن لابد من توفر شرط آخر وهو شرط نبه عليه مجموعة من العلماء خصوصا الإمام مالك رحمه الله، ألا وهو الأهلية الأخلاقية، حيث يتم ربط الفتوى بالمسؤولية الأخلاقية للمفتي، حتى لا تكون الفتوى صادرة عن محض الشهوة والهوى وإرضاء الغير، أو الخوف من ذي منصب أو التقرّب إلى البعض، إلى غيرها من الآفات، وفي ذلك يقول الإمام مالك: “إذا سألك إنسان عن مسألة فابدأ بنفسك فأحرزها”. ويقول أيضا: “من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب”.

لذلك نجد العلماء الربانيين كثيرا ما يتأملون في المسائل الليالي الطوال، بل والسنوات عسى أن يهتدوا إلى الجواب الذي يطمئنون إليه، ويبحثون عن دليله، ويقلبون وجوه النظر حتى لا يفتوا عن غير علم ولا سلطان مبين، ولا يتسرعون في الجواب، ولا يضرهم أن يقال فيهم فلان تأخر في الجواب، عكس ما نجده اليوم في قنواتنا من فتاوى مباشرة في كل المسائل وبسرعة كبيرة، وربما يفتي البعض بفتاوى غريبة وشاذة حتى لا يقال في حقه إنه لا يدري أو يتأخر في جوابه وكأنها نقيصة.

قال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: “العجلة نوع من الجهل والخرق، وكان يُقال: التأني من الله، والعجلة من الشيطان”.

قال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا سئل عن المسألة قال للسائل: “انصرف حتى أنظر فيها فينصرف ويتردد فيها، فقلنا له في ذلك فبكى وقال: إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم”.
وقد “سأله آخر فلم يجبه، فقال له: يا أبا عبد الله أجبني!

فقال: ويحك! أتريد أن تجعلني حجة بينك وبين الله؟ فأحتاج أنا أولا أن أنظر كيف خلاصي، ثم أخلصك”.
وقال عبد الرحمن العمري: “قال لي مالك: ربما وردت علي المسألة تمنعني من الطعام والشراب والنوم”.
وقال سحنون: “قال مالك يوما: اليوم لي عشرون سنة أتفكر في هذه المسألة”.

وكان العلماء شديدي الحرص على توريث هذه المعاني والأخلاق لتلامذتهم لما فيها من صلاح أمر دينهم والنجاة في آخرتهم، وكانوا دائما يرددون أقوال شيوخهم، حتى يتعودوا على أخلاقيات الفتوى، كما يستدلون بآثار السلف لتأكيد ذلك وغرسه في نفوس ووجدان تلامذتهم، والأمثلة على ذلك كثيرة، فعن نافع عن ابن عمر أنه سئل عن شيء فقال: لا أدري، فلما ولى الرجل قال: نعما قال عبد الله بن عمر سئل عما لا يعلم فقال: لا علم لي”.

وعن عقبة بن مسلم قال: “صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهرا فكثيرا ما كان يُسأل فيقول: لا أدري، ثم يلتفت إليَّ فيقول: تدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسرا لهم إلى جهنم”.
وعن مجاهد قال: سُئل الشعبي عن شيء فقال: لا أدري فقيل له: أما تستحي من قولك لا أدري وأنت فقيه أهل العراقين؟! قال: لكن الملائكة لم تستحي حين قالت: "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا "سورة البقرة"
وكان ابن عجلان يقول: “إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله، وقد روى هذا الكلام عن ابن عباس رضي الله عنهما”

يتبع

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115