أرح نفسك من التدبير

من الحكم العطائيّة "أرح نفسك من التدبير فما قام به غيرك عنك لا تقم به أنت لنفسك" هذه الحكمة كالنتيجة التي قبلها، فإذا كانت الهمم السابقة

مع سبقيتها وقوتها تقع الأشياء عندها لا بها، بطلت فائدة التدبير، إذ ما يدبر العبد لا يكون منه إلا ما وافق تدبير الله بتدبيره، لا ما وافق تدبير العبد ومن أسمائه المدبّر، والتدبير حقيقة؛ أي النظر في أدبار الأمور وعواقبها، كیف تخرج وتحصل، وما يترتب عنها مستحيل عليه تعالى، لاستلزامه الجهل قبل ذلك النظر والاختيار، والقاعدة أن الله تعالى إذا وُصف بشيء لا يصحّ وصفه به حُمل على غايته، وغاية التدبير؛ الإحكام والإتقان لما يدبّر، فمعنی كونه مدبّرا أنّه محكم متقن، وأمّا علمه فسابق قديم لا متجدّد وحاصل بالاختيار، وإذا كان تعالی مدبرا محكما لأمورك، متقنا لها، وأنت عبده وهو سيدك، وجب عليك أن تسلم له نفسك، ولا تدبر لها معه، إذ هذا حال العبيد مع ساداتهم، فإنهم لا يدبرون لأنفسهم، بل ساداتهم هم الذين يدبرون لهم، ويتصرفون فيهم، ولأنه العالم وأنت الجاهل، والقادر وأنت العاجز، فتدبيرك معه سوء أدب، وعدم اكتفاء منك بتدبيره.
فهذه الحكمة المباركة أصلها ثابت في أرض التوكل والأدب” أي: أن تدبيرك معه سوء أدب، وعدم اكتفاء منك بتدبيره. “وفرعها ضارب في سماء الحصافة والتنوير”، والتنوير فيه إشارة إلى كتاب ابن عطاء الله نفسه الذي خصصه لهذا الموضوع بالذات وسماه “التنوير في إسقاط التدبير”. فالتوكل عليه سبحانه يبدأ بعد استفراغ المرء الواسع فيما هو منوط به من

واجبات وبعد الأخذ بالأسباب مع استدامة استحضار واضع الأسباب سبحانه. والأدب متجلاّه في عدم إقحام الذات في ما تولى رب الذات تعالى وخالقها القيام به، وهو التدبير المذموم؛ أي: “أن تُدبر في المقسوم أو تتهم في المعلوم… فما قدر فلا بد أن يكون، وما لا… فلا، قال تعالى: "وربك يخلك ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، سبحان الله وتعالى عما يشركون" سورة القصص، الآية:68 ".أمّا “الحصافة في هذه الحكمة فمحلها أنها عين التدبير المحمود. والذي يصدق فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: “لا عقل كالتدبير” ، إذ إن الإمام رحمه الله يوجه إلى حسن تدبير العبد طاقته وقدراته، وتوجيهها للقيام بما خلق له، وعدم تبديدها فيما ضُمن له.أما التنوير في هذه الحكمة المباركة، فإشعاعه من كون الإمام رحمه الله تَكَشَّفَ له أن التعبد بالأسباب والتدبير منحصر فيما كُلِّف به الإنسان وطُلب منه لا في ما يتجاوز ذلك وفيها إشارة إلى أن تدبير العبد الغالب عليه الخطأ والطيش، فوجب لذلك التسليم له والانقياد لأحكامه طوعا،” أحسن من أن تُقاد كرها، لأنك إذا انقدت طوعا نفذ حكمه وأنت في راحة ورضى، ولك منه الرضى، وإلا فإنك تساق كرها وينفذ حكمه، وأنت في تعب وسخط، ولك منه السخط إلا أن يتداركك بعفوه، ثم إنك إذا دبرت لنفسك -ما ليس من شأنك- وكّلك إلى تدبيرك فتعجز وتتحير، ويبعد ما حكمت به لنفسك من الخير، ويقرّب ما حكمت به لها من الشر، فيسوء ظنك بربك، وتنقلب سماؤك على أرضك، ويترتب على ذلك الوسواس وغلبة الخلط السوداوي، وإذا سلمت له واعتمدت كفالته وركنت

إلى وكالته، فرغت قلبك وصرت في راحة.
يامن يدبّر أمراً وهــو لــيـــــس له
فـــــي خــــيـرة الله تدبير ولا قدر
إن كنت لا بد مختاراً فخيرة من
بــيــده الأمـــــر والتدبيـــر والقدر
فدبِّر أن لا تدبر في الأمـور وكن
كــالميت الفان لا عين ولا أثر

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115