في العرض ما قبل الأوّل لمسرحية «الوجه والقفا» لحمادي المزّي: متاهة الإنسان بين «الوجه والقفا» وطاقية الاختفاء !

«لقد أحطت نفسي بجدار لا أدعو أحدا إلى داخله ولا أحاول الخروج منه، قد يكرهونني وربما يخشونني لكني مرتاح لأنهم لا يزعجونني».

في خانة هذه القولة التي تتخذ نظرية حياة عند «كافكا»، سجن المخرج حمادي المزي شخصيات مسرحيته «الوجه والقفا» في قضبان بلا أبواب وبحواجز من حديد. لقد ارتفعت الستارة على ركح مشحون الأصوات ومضطرب المناخات، تدور فيه الشخصيات حول نفسها في سوداوية ومتاهة «كافكاوية» لينتهي بنا المخرج عند أبواب تساؤلات تُفتح ولا تُغلق على خشبة «المسرح ما بعد الدرامي».

بعد صدور كتاب «الوجه والقفا في تلازم التراث والحداثة» لحمادي صمود، اشتغل المسرحي حمادي المزّي على ثنائية «الوجه والقفا» واختارها عنوانا لمسرحيته الجديدة من إنتاج «دار السندباد» بدعم من وزارة الشؤون الثقافية وبطولة: رحاب اليوسفي وصالح الظاهري ورحاب الفرشيشي ونادر بلعيد ومروان الميساوي وشيماء بلحاج. وقد تمّ تقديم العرض ما قبل الأوّل مساء السبت 22 أوت 2020 بقاعة الفن الرابع بالعاصمة.

أجساد مسجونة وأرواح قلقة
كانت مجرد أطياف تتحرك فوق الخشبة، تلبس الأبيض وتلتحف بالبياض، كالأرواح المهاجرة أو كالأشباح الغامضة. فربما كانت شياطين وربما كانت ملائكة؟!
في البداية، لا يعلم الجمهور شيئا عن الشخصيات الخمس الحبيسة داخل حدودها الفولاذية سوى أنها قلقة ومتوترة، تبحث عن شيء ما، وتفتقد معنى الحياة !
شيئا فشيئا، يرأف بنا المخرج حمادي المزي من الضياع على خشبته المتأزمة وأمام شخصياته المبهمة فيستدعي شخصية سادسة تدفع كل شخصية إلى التجرد أمام الجمهور وتكشف عن حقيقتها وسبب أنينها ومصدر وجعها... إلى وسط الركح تتقدّم الشخصيات على دفعات في اقتراب أكثر من الجمهور وكأننا بالفضاء الأمامي للخشية يتحوّل إلى غرفة تحقيق أو كرسي الاعتراف حيث لا تملك هذه الشخصيات طوعا أو كراهية سوى البوح و الاعتراف! بالكلام وحده يتعرّى الأفراد من كل مكابرة وكبرياء وتتحرّر كل شخصية من أسر الخجل والكتمان، فيلقون بأقنعتهم ويرمون برداء التخفي لتتجلّى الذوات عارية من الزيف، صادقة كما هي حقيقتها، واضحة كشفافية لون لباسها الأبيض.
تتعدّد الحكايات وتتنّوع الروايات من قصة «عزيزة» وزوجها الماجن إلى موظف البنك وزوجته الأستاذة الخائنة إلى الطبيبة الفلسطينية وعلاجها للجندي الإسرائيلي ... فتبدو لنا شخصيات المسرحية تارة في ثوب الأبرياء وأحيانا أخرى في دور الجناة، لكنّها في النهاية ضحايا مجتمع انتزع منها إنسانيتها وقتل فيها إحساس الحب والجمال ووأد فيهم القدرة على القرار والاختيار.

هم في النهاية نماذج لآلاف العباد في كل الأزمان والأوطان، مصائرهم محكوم فيها وحريتهم مسلوبة وأرواحهم معدمة!

ثنائيات من الأضداد ضمن معادلة التقويض والترميم
بعيدا عن دعامات جماليات المسرح الكلاسيكي وفي تحرّر من أساليب وحدة العرض التقليدية، اختار المخرج حمادي المزّي أن يُفجّر على ركح «الوجه والقفا» فوضى من الأصوات والحركات والدلالات ثم لا يلبث أن يسارع إلى ترتيب خشبته وترميم بيته المسرحي. في هذا السياق، كشف حمادي المزي لـ«المغرب» في تصريح خاطف ما يلي: «إن مسرحيّة»الوجه والقفا» تقطع معرفيا مع الأنموذج الأرسطي وتستمد مناخاتها من «المسرح ما بعد الدراما» وخاصّة من نظريات «ليمان». .عموما لقد اعتمدت في هذا العرض على تعايش الأضداد حيث يتداخل السرد والتعليق والإبانة في الخطاب المسرحي ، كذلك يتداخل الأداء بين الشخصية والشخصية التناوبية... كما إن الفضاء المسرحي تحوّل إلى دورة خياليّة حتّى يأخذ الأثر بعدا جديدا ويوّفر قراءات متعددة ضمن نوع من التوازن المتقلّب: أي الاعتماد على البناء والنسف والترميم بحثا عن النغمة البصرية حتى تعانق المسرحية آفاق أخرى من التفاعل ورجع الصدى ...».
كان الجسد هو المنطلق والمنتهى، الغاية والوسيلة، القبح والجمال على ركح مسرحية «الوجه والقفا»، وباشتغال مكثف على طاقة الجسد، نجح الممثلون ومن ورائهم المخرج في صعقنا بنار هذه الأجساد المكتوية بلهيب الألم و المعاناة، وفي مشاهد أخرى تشحذ فينا الأجساد الثائرة الرغبة في المقاومة والصمود وتحدي القدر المحتوم ...حتى لو كانت النهاية الموت أو

الانتحار !
حتى دون نص منطوق، استطاعت أجساد اللاعبين فوق الركح أن تخلق الصور والدلالات وأن ترسل المعاني والإيحاءات ضمن مشهدية بصرية يقترحها «المسرح ما بعد الدرامي».

إبداع رجل المسرح في زمن الأزمات
على ركح «الوجه والقفا» استأثرت التأثيرات الموسيقية والتعبيرات الصوتية من أنين وتأوه وصراخ ... بحيّز واسع من المساحة والحضور. فخلقت بدورها صورة إيقاعية خاصة بمسرحية «الوجه والقفا» توّفقت إلى حد كبير في ترجمة أجواء المسرحية ونقل أحاسيس شخصياتها المبعثرة والمذعورة والمنتحرة!
ككل عرض ما قبل أوّل، قد يعدّل المخرج من بوصلته وقد يستغني عن أشياء ويضيف شيئا آخر في العروض القادمة، طالما أن المسرح هو الفن الحيّ الذي يولد على كل ركح جديد ولادة جديدة. ولكن مما لاشك فيه أن رجل المسرح حمادي المزي قد سجلّ أكثر من هدف في مرمى مسرحية «الوجه والقفا» منها شجاعة المغامرة في إنتاج عمل مسرحي جديد في ظل الظروف الراهنة، وكذلك ابتكار و كتابة نص مسرحي جديد دون الاستناد إلى المرجعيات العالمية والآثار الخالدة، إلى جانب الاعتماد على طاقات ومواهب من الشباب لتتوّلى زمام الأمور على خشبة مثقلة بالهواجس والهموم وحائرة أمام اشتباك الاتجاهات والدروب... وكثيرا ما يتيه الإنسان في التخفي والظهور ما بين «الوجه والقفا» !

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115