الأخلاقيات: صِلة الرَّحِم

وهي الإحسان إلى الأقارِب على حسبِ حال الواصل والموصول، فتارةً تكون بالمال، وتارةً تكون بالخدمة، وتارةً بالزيارة والسلام،

وغير ذلك، وصِلة الرحم مِن أسْمَى المطالب التي يُعنَى بها الإسلام، ويرغّب فيها، وهى قرابة الرجل مِن جهة أبيه ومِن جهة أمِّه، وهذه مِن الحقوق التي دعتْ إليها الفطرةُ السليمة، وقرَّرتها الشريعة السَّمْحة.

 قال تعالى: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ» محمد: 22 - 23، وفي الصحيحين أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن كان يؤمِن بالله واليوم الآخِر فليكرم ضيفَه، ومَن كان يؤمِن بالله واليوم الآخِر فليصلْ رحمَه، ومَن كان يؤمِن بالله واليوم الآخِر فليقلْ خيرًا أو ليصمت))، وفيهما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الرَّحِم معلَّقة بالعرْش، تقول: من وصلني وصلَه الله، ومَن قطعَني قطعَه الله))، وعند البخاري عن أنس قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أحبَّ أن يُبسَط له في رِزقه، ويُنسأ له في أثرَه، فليصِلْ رحِمَه))، وبسط الرزق - كما قال النووي -: توسيعه وكثرته، وقيل: البَركة فيه، وأما التأخير في الأجل ففيه سؤالٌ مشهور، وهو أنَّ الآجال والأرزاق مقدَّرة لا تزيد ولا تنقص؛ «فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ» الأعراف: 34، وقد أجاب العلماء بأجوبة، والصحيح منها: أنَّ هذه الزيادة بالبَركة في عمره، والتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخِرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك.
 
والثاني: أنَّه بالنسبة إلى ما يَظهر للملائكة، وفى اللَّوْح المحفوظ ونحو ذلك، فيظهر لهم في اللوح أنَّ عمره ستُّون سنة إلا أن يصِل رحِمه، فإنْ وصلها زِيد له أربعون، وقد عَلِم الله - تعالى - ما سيقع له مِن ذلك، وهو مِن معنى قوله تعالى: «يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» الرعد: 39، فيه النسبة إلى عِلم الله - تعالى - وما سبَق به قدَره، ولا زيادة، بل هي مستحيلة، وبالنسبة إلى ما ظهَر للمخلوقين تتصوَّر الزيادة، وهو مرادُ الحديث.
 والثالث: أن المراد بقاء ذكره الجميل بعده، فكأنه لم يمت، حكاه القاضي... وهو ضعيف أو باطل، والله أعلم.
 

والأحاديث كثيرة في الحثِّ على صلة الأرْحام، والتحذير من قطعها، فأين نحن من صِلة الأرحام؟! وأين صلةُ الأرحام في هذا الزمان الذي انتشرتْ فيه قطيعة الأرحام وعقوق الوالدين - ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله.
 إنَّ حق القرابة قد ضُيِّع في هذا الزمان من قِبل كثيرٍ مِن الناس إلا من رحِم ربُّك، فتجد الواحدَ منهم لا يَصِلُ قرابتَه لا بالجاه، ولا بالمال، ولا بالخُلق.. تمضي الأيام والشهور والسِّنون ما رآهم، ولا زارهم، ولا تحبَّب إليهم بهدية، ولا جلَب لهم منفعة، أو دفَع عنهم مضرَّة، بل ربما - إلى جانب ذلك - أساء إليهم بالقول، أو بالفِعل، أو بهما معًا! يصل البعيد، ويقطع القريب!
 ومن الناس مَن يعامل قرابته بالمثل؛ إنْ وصلوه وصلهم، وإنْ قطعوه قطعهم، وهذا ليس بواصل في الحقيقة، بل هو مكافِئ للمعروف بمثله، والمكافأة على المعروف يشترك فيها القريبُ وغيره، والواصل حقيقةً هو من يصل قرابته ابتغاءَ وجه الله، ولا يُبالي سواء وصلوه أم لا؛ ففي صحيح البخاري قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «ليس الواصلُ بالمكافئ؛ ولكن الواصل الذي إذا قُطِعتْ رحِمُه وصَلَها»

 ولقد حثَّنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أداء حقِّ الرحِم، وإنْ عاملونا بالجفوة والغِلظة والشر، في حين أنَّه يطمئننا على مستقبلنا، ويُزيح عن قلوبنا اليأس؛ ففي صحيح مسلم أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، إنَّ لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأُحسن إليهم ويُسيئون إليَّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ! فقال: «لئن كنتَ كما قلتَ، فكأنَّما تُسفُّهم - تطعمهم وتلقمهم - المَلَّ، ولا يزال معك من الله ظهير - مُعين ناصِر - عليهم، ما دُمتَ على ذلك»، قال الأزهري: أصل الملَّة: التربة المحماة تُدفن فيها الخبزة، وقال القتيبي: المل: الجمْر، ويقال للرماد الحار - أيضًا - المل، فالملة كوضع الخبزة، يقول: إذا لم يَشكُروك، فإنَّ عطاءَك إياهم حرامٌ عليهم، ونارٌ في بطونهم، ففيه تشبيه لما يلحقهم مِن الإثم بما يلحق آكل الرَّماد الحار مِن الألم.

 يتبع

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115