الكاتب والناقد الطاهر أمين لـ المغرب: إمّا أن يصبح إسلامنا شريكا ثقافيّا وإمّا أن يخضع لتنازلات مؤلمة جدّا ستعمّق غربتنا عن العصر..

«خطابات الإسلام التّونسي» كتاب جديد للكاتب والباحث والناقد الطاهر أمين، يهدف إلى فهم الإسلام عبر دراسة بيئات اجتماعيّة وثقافيّة متعدّدة.. وتناول في كتابه رؤى كل من هشام جعيّط وعبد الوهّاب بوحديبة ومحمّد الطّالبي وعبد المجيد الشّرفي ومحمّد الشّرفي.. ورأى الكاتب في حواره لـ»المغرب»

أنّنا نحتاج إلى وقت طويل من أجل أن نصحّح أخطاء الماضي التي قادت إلى إخراج «العامّة» من الدّين ومن السّياسة والاقتصاد..

• «خطابات الإسلام التّونسي»، هل هنالك إسلام تونسيّ وآخر مثلا مغربيّ وآخر جزائريّ .. هل الإسلام له جنسيّة؟
المسألة لا يجب أن تطرح بهذا التّبسيط، فعنوان الكتاب لا يحمل طموح إدراج الإسلام ضمن خانات تصنيفيّة جديدة، كالتّصنيف القطريّ: إسلام تونسيّ إلى جانب إسلام مغربيّ وإسلام جزائريّ إلى آخر تقسيمات معاهدة سايكس بيكو الأولى في انتظار أن يستكمل الغرب عمليّة مراجعته لها. لا علاقة لعنوان كتابي بما يمكن أن يشكّل سوء فهم متعمّد أو عفويّ، ولا يجب أن يفهم من العنوان أنّه يستهدف إطلاق حكم قيمة على ما اصطلحت على تسميته «إسلام تونسيّ». من الغباء أن أتورّط في صياغة خطاب تمجيديّ، دعائيّ، تشريفيّ

لتصوّر التّونسيّين لممارستهم الدّينيّة مقابل التّقليل من شأن علاقة الجزائريّين أو اللّيبيّين أو غيرهم بالإسلام. الإسلام واحد على صعيد النصّ القرآنيّ منذ أن أصبح «مدوّنة نصّية مغلقة»، كما شدّد محمّد أركون؛ أي منذ الجمع الثّاني والأخير في خلافة عثمان بن عفّان الذي تمّ حسب تاريخين مختلفين (المصحف الإمام: قيل أواخر سنة 24 وأوائل سنة 25 هجريّة، وقيل سنة 30 هجريّة). على صعيد الممارسة التّاريخيّة، أي على صعيد قراءة المسلمين لممارستهم النصيّة الأولى والكبرى لا نجد تأويلا واحدا. لقد تعدّد الإسلام داخل تعدّد الحاجة إلى قراءات جديدة، أي الحاجة إلى «ما يسمّى الوضع التّأويليّ» نتيجة «انقطاع الوحي»، وفق تعبير عبد المجيد الشّرفي. كلّ النّصوص التّأسيسيّة أو التّدشينيّة في التّاريخ ترفض أن تظلّ واحدة طالما أنّها تسمح بأن تنشأ على هامشها قراءات متعدّدة. بهذا

المعنى، هناك إسلام شيعيّ واسع وإسلام سنيّ أكثر اتّساعا، فداخل الإسلام السنّي هناك قراءة خارجيّة وقراءة معتزليّة وقراءة أشعريّة. تذكرين جيّدا مشروع «الإسلام واحدا ومتعدّدا» الذي أشرف على إنجازه الدّكتور عبد المجيد الشّرفي. ضمن هذا المشروع نجد العناوين التّالية: «الإسلام السنّي» (بسّام الجمل)- «الإسلام الخارجيّ» (ناجية الوريمي بوعجيلة)- «إسلام الفقهاء» (نادر حمّامي)- «إسلام المتكلّمين» (محمّد بوهلال)- «الإسلام الشّعبي» (زهيّة جويرو)- «الإسلام الحركي» (عبد الرّحيم بوهاها)- «إسلام الفلاسفة» (منجي لسود)- «الإسلام الأسود» (محمّد شقرون)- «الإسلام الآسيويّ» (آمال قرامي)- «إسلام المتصوّفة» (محمّد بن الطيّب)- «إسلام المجدّدين» (محمّد حمزة)- «الإسلام العربيّ» (عبد الله الخلايفي)- «إسلام السّاسة» (سهام الميساوي)- «إسلام الأكراد» (تهامي العبدولي)- «إسلام المصلحين» (جيهان عامر).. الخ. هل كان هدف المشروع تفتيت «وحدة» الإسلام؟. لا أظنّ ذلك، وإنّما هدف إلى فهم الإسلام عبر دراسة بيئات اجتماعيّة وثقافيّة متعدّدة. إنّه التعدّد والتنوّع داخل ثقافة متعدّدة الأبعاد تصرّ على أنّ الإسلام هو مرجعيّتها الأساسيّة.

ماذا أعني بـ»الإسلام التّونسيّ»؟. إنّه المقاربة التّونسيّة الخاصّة للإسلام التي جرت عمليّة صياغتها على امتداد قرن ونصف تقريبا، أي منذ أن طرح مشروع الإصلاح في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر إلى اليوم. هذا لا يعني أنّني أهدف إلى إضفاء خصوصيّة عرقيّة على هذه المقاربة الخاصّة، كما أشار سؤالك «هل الإسلام له جنسيّة؟».

• وفق أيّ مقياس بوّبت «خطابات الإسلام التّونسي»؟
كتابي لا علاقة له بالتّقسيم التّصنيفيّ، بمعنى تمييز وتفريق الأفكار حسب خصائصها. لست مهتمّا بتاريخ الأفكار بدرجة أولى. أدرجت مساهمات خمسة رموز فكريّة (هشام جعيّط- عبد الوهّاب بوحديبة- محمّد الطّالبي- عبد المجيد الشّرفي- محمّد الشّرفي) ضمن أسئلة «المدرسة التّونسيّة» في تعاطيها مع مفاهيم النّهضة والإصلاح والتّجديد والحداثة. شكّل حضور هذه المفاهيم في مساهماتهم الفكريّة منطلقي الأساسيّ. لم أكن حريصا على الوصول إلى استنتاجات كبرى، لقناعتي الثّابتة بأنّ آفاق المستقبل لم يتمّ بلوغها بعد رغم أنّ «الإسلام التّونسيّ» تأسّس، وما زال يتأسّس، داخل الوعي العميق بالماضي والحاضر معا. صحيح أنّ الحداثة شكّلت إطارا تحليليّا ثابتا بسبب انخراط المفكّرين الخمسة في أفقها المستقبليّ، ولكنّها لا يمكن أن تحجب عنّا الاختلافات بينهم داخل الجهاز المفاهيميّ لكلّ واحد منهم.

• لماذا هاجمت، أو لنقل، نقدت خطاب الدّكتور محمّد الطالبي؟.
وهل يجب أن يبقى محمّد الطّالبي فوق النّقد؟. إنّه مؤرّخ كبير، ولا أحد ينكر كونه علامة اختصاص نادر في ما يخصّ الدّولة الأغلبيّة. لنترك جانبا الطّابع الفولكلوريّ لفقيهنا المؤرّخ كلّما تصدّر للفتوى في قنواتنا التّلفزيّة، وهو فولكلور يسيء كثيرا لصورة المفكّر. مفارقة الطّالبي الأولى هي أنّه يؤسّس خطابه على ذاتيّة تأمّليّة، لذلك يتداخل لديه صوتان: صوت الواعظ الدّينيّ وصوت الفقيه معا. إنّه صوت التّاريخ البراغماتيّ، أي صوت التأمّل الأخلاقيّ واستخلاص العبر من الماضي وتهذيب السّلوك عبر ضرب الأمثال، الطّالبي يدّعي العقلانيّة متناسيا أنّه أسير المنظومة الإيمانيّة، والدّليل أنّنا لا نجد انضباطا مفاهيميّا في كتاباته عن الإسلام، فهو لا يمارس فحصا نقديّا صارما للمفاهيم القرآنيّة التي يستعملها بعفويّة لا مبرّر لها. المفارقة الثّانية هي ضعف نظريّة المعرفة لديه، ذلك أنّ «تأويليّة السّياق» (ويليام دلتاي) التي يوظّفها في قراءاته تظلّ وفيّة لمنطلقها الأساسيّ المرتبط بعلم اللاّهوت: تأويل النّصوص الدّينيّة بطريقة خياليّة ورمزيّة، أي بطريقة تحاول اكتشاف المعاني «الحقيقيّة» والخفيّة وراء النّصوص الدّينيّة. هذا يعني أنّ قراءته التي يسمّيها «قراءة تاريخيّة- إناسيّة- غائيّة» ليست سوى ذريعة للكشف عن دوافعه الجوّانيّة. هناك زعم متوهّم بوجود «موضع» تاريخيّ يمكن كشفه عبر فعل التّأويل. ما هي غائيّة التّأويل عند الطّالبي؟. ببساطة، استعادة النصّ القرآنيّ بوصفه أصلا ثابتا؛ ومفارقة الطّالبي هي أنّه يتجاهل حقيقة التّأويل الذي لا يعني العودة إلى الأصل الثّابت، وإنّما هو تغيير لمفهوم الأصل ذاته. ما يطمح إليه الطّالبي عبر «تأويليّة السّياق» هو بناء لاهوت جديد وتكوين منظومة عقائديّة. هذا يعني أنّه «عقل» غارق في لغة الكلام. إنّه أسير عقله اللاّهوتيّ. بتعبير آخر، هو مؤرّخ يسمح لعقله بأن يجيء من خارج التّاريخ.

• في كتابك شعرنا وكأنّك لم تعط المصلح والمفكّر الطاهر الحدّاد حقّ قدره، رغم أنّ الحدّاد يعتبر من قادة التّنويريّين التّونسيّين؟.
أوّلا، لم أكن منشغلا بمسألة التّنوير في حدّ ذاتها، وثانيا، لم أكن أؤرّخ لأيّ كاتب تونسيّ، وثالثا، لم أطمح إلى تناول قضيّة المرأة كما طرحها الطّاهر الحدّاد. كتابي محكوم بسياق «تاريخيّ» محدّد: إشكاليّة «الدّولة الوطنيّة» عبر ثنائيتي الدولة/ المجتمع والتّقليد/ الحداثة؛ وهو إطار القسم الثّاني من الكتاب الذي خصّصته بشكل كامل للمرحلة البورقيبيّة (الحبيب بورقيبة بين تخوم ثقافتين). أمّا القسم الأوّل، فقد طرح أسئلة «المدرسة التّونسيّة» من خلال فحص مفاهيم الإصلاح، التّجديد، النّهضة، الحداثة. بهذا المعنى، لم يكن واردا لديّ استدعاء الطّاهر الحدّاد رغم اعترافي بأهمّية إضافته.

• هل تعتقد أنّ «خطابات الإسلام التّونسيّ يمكن أن تتطوّر أكثر للانفتاح على القيم الكونيّة التي ربّما تُعتبر من التّابوهات في مجتمعنا؟
لم يعد الانفتاح على قيم العصر الحديث مجرّد خيار مسموح لنا بقبوله أو رفضه. لن يتراجع الغرب عن عولمة نموذجه السّياسيّ والاقتصاديّ والمعرفيّ وحتّى القيميّ. نحن جزء من هذا العالم الذي لن يسمح لنا بالانخراط فيه إلاّ عبر الحسم في أحد الاحتمالين: إمّا أن يصبح إسلامنا شريكا ثقافيّا، ومساهما في صياغة القيم التي ستحدّد مصير الإنسان؛ وإمّا أن يخضع لتنازلات مؤلمة جدّا ستعمّق غربتنا عن الذّات وعن العصر.
سؤالك يتضمّن إشارة خفيّة إلى مسألة المثليّة الجنسيّة ومسألة النّسويّة ومسألة الشّريعة والمسألة السّياسيّة: هناك جدل عميق يجري اليوم في تونس رغم أنّه يرافقه تهريج إعلاميّ. هذا الجدل يؤشّر لمعطيين: نحن بصدد تجاوز الكوابح التي أعاقت مشروع الإصلاح الدّينيّ، من جهة، ونحن نمارس معالجة جذريّة للمسألة الدّينيّة، من جهة أخرى. هذا إيجابيّ، ولكنّه يظلّ معلّقا ما لم نجد حلولا حقيقيّة للمسألتين الاجتماعيّة - الاقتصاديّة والثّقافيّة (أزمة الوسائط الثّقافيّة ذلك أنّ خطابات الإسلام التّونسيّ لا تزال تصطدم برواسب الموروث الدّينيّ وتمثّلاته).

• هل تعتقد أنّ «العامّة» غير معنيّة بـ»خطابات الإسلام التّونسي»؟ هل تعتقد أنّ للعامّة خطاب آخر لم يدرس بعد؟
هي ليست معنيّة إلاّ بمعنى واحد: معظم حديثنا عن الإسلام يظلّ غارقا في نخبويّته، وهو يجري بمعزل عنها وضدّ نمط حياتها الموروث. يجب أن نعترف بأنّ الفجوة عميقة بن النّخبة والقاعدة الشّعبيّة. ينضاف إلى هذا أزمة الإسلام الرّسميّ بسبب إصرار السّلطة على توظيف خطاب دينيّ معاد لمصالح الشّعب. نحتاج إلى وقت طويل، من أجل أن نصحّح أخطاء الماضي التي قادت إلى إخراج «العامّة» من الدّين ومن السّياسة ومن الاقتصاد.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115