الصناعات الثقافية التاريخية بين المعالجة الترفيهية والمقاربة التثقيفية

بقلم: لطفي عيسى،
أستاذ التاريخ الثقافي بجامعة تونس

«إن الهدف الأسمى من المغامرة البشرية هو محاولة تجاوز عقبة المستحيل، حتى وإن لم يُصِبْ جميعنا من تلك المغامرة غير الوقوع أزلا في الفشل».
«كارلوس فوينتيس»

ما السبيل إلى إثارة اهتمام الأجيال الصاعدة مجدّدا بالتاريخ؟ والحال أن جميع التواريخ، وطنية كانت أو محليّة، لم تعد تتوفر على فهم عميق لحقيقة الواقع المتحوّل الناجم عن العولمة. كما أن مختلف الإبداعات الناسلة عن السياقات الجديدة لتكنولوجيات الاتصال الحديثة، تلك التي تحيل على انشداد الأجيال الجديدة لما تنتجه الصناعات الثقافية كونيا (ألعاب الفيديو بتطبيقاتها الافتراضية المتنوعة والمسلسلات الموسمية وحتى العروض الفنية الضخمة)، ليس بوسعها هي أيضا وعلى الرغم من جميع ادعاءاتها ومن طابع الاثارة الذي لازمها خلال العشريات القليلة الماضية، توفير مفاتيح حقيقية تسمح بتقديم إجابات وافيّة بخصوص ما نعيشه حاضرا، الشيء الذي يدفع بشكل ملحّ إلى التساؤل بخصوص ما يتعين القيام به من أجل تمكين الأجيال الجديدة من بناء علاقة صحيّة بأحداث الماضي بوصفها إرثا إنسانيا مشتركا؟ ثم ما السبيل إلى تشييد ذاكرة نقدية قادرة على التمييز بين ما يُقترح علينا هنا وهناك من أعمال إبداعية تستظل في معظمها بالماضي قصد استقرائه وفق توجّهات مخصوصة، من السهل التفطّن إلى انزلاقها وفي العديد من الحالات في ضرب من تعمّد التحريف وتبرير المغالطة أيضا؟

فمنذ ما لا يقل عن ربع قرن تقريبا والعالم يعيش حالة انقلاب في آفاقه جراء مخلّفات الثورة الرقمية، التي حدّت من هيمنة الغرب وساهمت في صحوة المجالات الشرقية القصيّة على غرار الصين وبلدان جنوب شرقي آسيا وازدهار قوى صاعدة جديدة على شاكلة روسيا والبرازيل. ولعل من نتائج هذا الانقلاب تراجع التصوّرات التاريخية السائدة منذ أكثر من خمسة قرون، تلك التي اتسمت توجهاتها بكثير من الانحياز إلى التصوريات المركزية الأوروبية، والدفاع بشراسة على تمثّل موروث للكونية يحيل على المكتسبات الغربية لفكر «الأنوار».
فما الذي يتوجّب علينا القيام به حيال هذه التصوّرات التاريخية الموسومة بالانحياز لماضي الغرب الأوروبي، وذلك ضمن سياق تاريخي يُنبئ بعدم قابلية مكتسبات العولمة للتراجع، مع قلة نجابة واضحة في الاحتفاظ بكونية التصوّرات التي حرص الغرب على تسويقها بوصفها التأويل الوحيد لتاريخ البشرية؟
لقد ساهمت المعرفة التاريخية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى تسعينات القرن الذي يليه في هيمنة تصورات «وطنية يعقوبية» تُعلي من مكانة «الدولة الأمة أو الوطن». وتضافرت جهود الفاعلين السياسيين كما العالميين وبرامج التدريس ومحتويات الصحف وإصدارات دور النشر بغرض الدفاع عن سرديات تُؤول التاريخ باعتباره مسارا إجباريا باتجاه تكريس فضائل التمسّك بذلك الانتساب والاعلاء من شأنه. وهو تصوّر اثبتت تهافته البحوث المحسوبة على الدراسات ما بعد الاستعمارية، وهي دراسات ركّزت على الواقع الذي عاشته الفئات الاجتماعية القاعدية من خلال تشديدها على حضور مؤشرات بليغة عن استحكام قراءة مشوبة بالحنين والمحافظة، احتضنت وهم الخصوصية وأعلت من شأن مشاعر الانتماء، ذلك الانزياح الذي لم تسلم من سلبياته حتى البحوث التاريخية الصادرة خلال نهاية القرن الماضي والتي اتصلت بما نُعت بـ «المنعرج التذكري tournant mémoriel».

• الصناعات الثقافية التاريخية و«تسليع» أحداث الماضي:
تنتشر على هامش المعارف المقدمة بقاعات الدروس ومدرّجات الجامعات والبحوث المحكمة المنشورة ضمن الدوريات المواقع المتخصصة، صور ومرويات لا تعيرها الأوساط الأكاديمية كبير أهمية حتى وإن ثبتت مساهمتها وبطريقة خاصة في الإجابة عن التحدياّت الحقيقية أو المتخيّلة التي فرضتها العولمة راهنا على الإنسانية قاطبة. فنحن نعيش وفق ما انتهى إليه «راهنية» من الصعب الإفلات من حبالها، لأنها تلتهم جانبا كبيرا من الماضي ومن المستقبل، متجنبة الخوض فيما ليس بوسعها تكييفه وفق حاجياتها. فقدر الماضي هو الانفلات من بين أصابعنا دون أن يكون بالوسع المسك به. لذلك تبدو البشرية وفق ما سبق وأن انتهت إليه «حنا أرنت» غير مهيأة ولا مستعدة أيضا لمثل هذا النشاط الذهني الذي يمنح صاحبه فرصة التموضع في موقع وسط بين الماضي والمستقبل». ولأن تحدي الإمساك بالحاضر في سياق الألفية الجديدة يحتاج وبالإضافة إلى معرفة العالِم إلى الاستعانة برؤية الفنان وإلهامه، فإنه تعاملنا مع الحاضر يحسن أن يتسم بقدر غير قليل من الحدس ورهافة الحسّ وتعقل ما يدور حولنا، مستعينين في ذلك بتشغيل قوة أحاسيسنا، مع التوفّر على رصيد ذهني يتضمن في الآن نفسه شذرات من الماضي وتصوّرات لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع مستقبلا.

والمربك من زاوية ما نحن بصدده أن الثقافة التاريخية قد انسلخت بَعْدُ ووفق أفضل التحاليل إلى مجموعة من السرديات الفنيّة أو العروض الجمالية المُتّسمة بتسليع مخلّفات التراث المادي وغير المادي، مع التشديد على الجوانب المثيرة ضمن مسارات الشخصيات التاريخية الفاعلة دون سواها. ولعل في التجارب التي آثرنا التعريف بمضامينها والتي يحيل جميعها على تطور تقنيات التعبير الإبداعي المشدود إلى ما وسمناه بـ«الصناعات الثقافية»، ما يكفي للدلالة على طبيعة العلاقات التي تشدّ التخيّلي إلى التاريخي حاضرا، وتجعل من الأخير عنصر استلهام تقتصر علته على الإمساك بالرواية التاريخية وتحويلها وفق تقنيات ابهار إلى خرافة مشوّقة تحجب كل توجه يرمي إلى تثقيف الناشئة وتأصيل الفكر النقدي لدى المتابعين من المحسوبين على الأجيال الجديدة.

ويخضع «تعليب» هذا النوع من المنتجات ذات التوجه الترفيهي المعلن إلى نوع من الاستعادة الإحيائية للماضي وفق تصوّرات تفتح على خصوصيات واقع الإنسانية المشبّك حاضرا، أكثر من اتصالها بالفترات التاريخية التي تحيل عليها. فقد تزايد خلال السنوات القليلة الماضية وبشكل ملحوظ عدد الأعمال الفنية الخاضعة للمواصفات التي وضعتها العلامات الكبرى في مجال الصناعات الثقافية ذات الطابع الجماهيري المُبهر، وهي علامات أغرقت سوق الانتاج الجمالي والإبداعي كونيا.

ولئن اتسمت توجهات مختلف الأعمال الصادرة عن هذه الصناعات المحدثة بالاستظلال بالتاريخ عبر ربطه بالقدرة التخيّلية للمؤلف استجابة لحاجيات المستهلك ولمستوى تكوينه أيضا، فإن اتسام الروايات أو الحكايات المعروضة، وعلى حبكتها المدهشة وإغرائها المشهدي الذي لا يقاوم، بمجانبة المساءلة النقدية لوقائع التاريخ المستجلبة، بل وسقوطها أحيانا في نوع من التبسيط والابتذال والتكرار لا يمكن أن تخطئه كل عين حصيفة.
وحتى تجد هذه المزاعم النظرية ما يسندها بشكل ملموس، نقترح هذه التعريفات المبسطة بمضمون بعض التجارب الإبداعية الكونية التي تصب محصّلتها فيما أقررناه. فقد آثرنا التوقف عند تجربتين طريفتين فارقتين تعكسان العلاقة القائمة حاضرا بين مجالي المعارف التاريخية والعروض الابداعية الكونية وتحيلان على سلسلتين روائيتين مرئيتين تحسبان على الانتاج

المصوّر الذي صادف انتشارا عالميا وشهرة كونية في غضون العشرية التي نحن بصددها ونقصد بذلك السلسلة الأمريكية الذائعة الصيت «لعبة العروش»، وهي سلسلة قابلتها يابانيا رسوم متحركة طريفة في ضربها وسمت بـ«مسابح روما».

• «لعبة العروش Game of Thrones» مسلسل أمريكي في مواسم أو العصور الوسطى القادمة:
مثلت هذه السلسلة الموسمية الأمريكية التي انتجتها شركة «هوم بوكس أوفيس Home Box Office» وامتد بثها على سبعة مواسم متتالية منذ سنة 2011، إعادة صياغة لرواية الكاتب الأمريكي ومؤلف السيناريوهات والمنتج التلفزيوني المشهور «جورج ريمون مارتين Georges Raymond Martin». وهو كاتب أمريكي برع في تأليف روايات الخيال العلمي تشبه رواياته الأعمال الذائعة الصيت لـ»جون رونالد رويل تولكين Jean Ronald Reuel Tolkien» مؤلف رواية «سيد الخواتم Le seigneur des anneaux» المُبهرة.

حملت الرواية عنوان «العرش الحديدي ملحمة الثلج والنار» وصدرت أجزاؤها الخمسة، وهي «لعبة العروش» و»صراع الملوك» و»عاصفة السيوف» و«وليمة للغربان» و»الرقص مع التنانين»، تباعا بين سنوات 1996 و2011، واستُقبلت ببالغ الحفاوة من قبل النقاد حاصدة العديد من الجوائز العالمية، الشيء الذي شجع القناة التلفزيونية الامريكية «هوم بوكس أوفيس HBO» بداية من شهر جانفي 2007 على اشتراء حقوق اقتباس رواية «العرش الحديدي»، بغرض انتاج مسلسل تلفزي شارك في كتابة مواسمه الأربعة الأولى «جورج مارتين» نفسه، وتم تصوير موسمه الأول بداية من 2009 ليُبث مع حلول شهر أفريل من سنة 2011.

وتبدو العوالم التي تدور ضمنها وقائع روايات «جورج مارتين» متجهّمة وحزينة مع اتسامها بنفس عدمي ساخر، بحيث ينطوي تصرّف أبطالها الكُثر على قتامة مع عدم الرضا عن الواقع، فضلا عن اختراق البعد الدرامي لمسارات حياتهم ونهايات معظمها المأسوية الفاجعة. ولئن شكل هذا البعد المتشائم حاجزا حال دون إقبال جانب من القراء على مطالعة هذا النوع من الأعمال، فإن الخطة المتبعة في تركيب مختلف فصول رواية «العرش الحديدي» قد ارتكزت على بناء مسارات سريعة التلوّن والانقلاب للشخصيات الأساسية، الشيء الذي شدّ فئات شبابية واسعة من القراء لمتابعة تطور أحداث الرواية، وذلك من مواقع مختلفة ووفق وجهات نظر متباينة. كما لم يتهيب المؤلف من الانخراط وبعمق في طريقة تفكير من أسند لهم

لعب أدوار الأشرار ضمن أبطال روايته، عامدا وبشكل واع إلى كسر الثنائيات المبسّطة، بحيث تتضح لنا وجاهة تصرفات الخيرين كما الممارسات التي يجنح لها الأشرار - بالرغم عن طابعها غير الأخلاقي - واقعية يستقيم تبريرها بل وتحويلها إلى سلوك مألوف. وتبقى الثيمات أو المواضيع الأكثر حضور ضمن كتابات «جورج مارتين» الابداعية مشدودة إلى توجه المؤلف المقصود إلى بناء عوالم يعاني ضمنها مختلف الأبطال من صعوبات متعددة تحيل على قساوة الوحدة ومعاناة تقلّب الأمزجة البشرية حال المخالطة، مع السقوط أزلا في نهايات مأسوية تكشف عن حدة التمزق بين مشاعر العشق والتضاد الصارخ بين حساسية المجاهرة بالحقيقة وسهولة اللجوء إلى المخاتلة والكذب.

ومهما يكن من أمر، فإن سناريو مسلسل «لعبة العروش» يُعيد وبطريقته الخاصة تشكيل تسارع نسق تبني مقوّمات حضارة الغالب الغربية كونيا، حيث تروي مختلف حلقاته ضراوة المواجهات السياسية ضمن سياق مُتخيَل يُركّب بدهاء ومخاتلة لا حدّ لهما واقع القرون المظلمة التي توشك على العودة من جديد، مؤذنة بانهيار زعامة الولايات المتحدة الأمريكية للعالم. وبلوغ المواجهات بين الشرق والغرب أشدها. وتنفتح تلك العصور بعد عشرية من انحباس الامطار على صراع عنيف بين خمس عائلات متنافسة هدفه الظفر بـ «العرش الحديدي» لـ«مملكة التيجان السبعة». وهو صراع مهّد لحصول موجة من البرد الجليدي تراجعت خلالها بشكل ملحوظ درجات الحرارة وانتشرت مخلوقات متوحّشة مرعبة وفدت من المناطق الشمالية الباردة. تضرب ويلات الحرب البلاد ويحمَى الصدام وتظل عجلة الدسائس دائرة بلا انقطاع، لتسلب الآلاف من الأبرياء والمذنبين أرواحهم على حد السواء. فيما يبدأ الخطر القادم من جهات الشمال في الكشف عن وجهه. وتولد في هذه الحرب التحالفات وتموت في طرف عين وتسيل الدماء بلا حد ولا سبب.

بوسع المرء رفض اعتبار العولمة قدرا ليس هناك أمل في الفكاك منه والعيش بسلام ضمن حدود عالمه الضيق والخاص، غير أنه ولحسن حظنا أو قد يكون لسوئه أيضا، فإن الخوف من هذه العودة المفزعة للقرون الوسطى قد تمكّن من التعشيش في مُخيلة جانب واسع من مشاهدي تلك السلسلة، ليشكّل عنصر إبهار تضمّن حكايات ووعودا مبهجة وتصرفات وحشية مرعبة في آن، وما على المتابعين إلا أن يعملوا على توجيه ذلك الدفق المشهدي الناظم لمخاوفهم الجماعية في الاتجاه الذي يسمح بتحقيق سعادتهم وضمان رفاههم، بدلا من القبول في خنوع وعدم اكتراث بأسوأ الاحتمالات.

• «مسابح روما»: رسوم متحركة يابانية تعيد استلهاما قراءة تاريخ الحضارة الرومانية:
مثّلت هذه السلسلة مؤلفا للرسوم المتحركة من نوع «المانغا» أنجزته اليابانية «ماري يامازكي Mari Yamazaki». وهو أثر إبداعي تم نشره في البداية مسلسلا ضمن أعداد مجلة «كوميك بيم Comic Beam» وذلك بين شهري ديسمبر 2008 ومارس 2013. ثم ما لبثت هذه الاسهامات أن جُمعت في ستة أجزاء، وظهرت ترجمتها الفرنسية ضمن منشورات «كاسترمان Casterman» المتخصّصة في نشر رسوم «المانغا»، وذلك مع حلول أواسط شهر مارس من سنة 2012. وشكّل هذا الإصدار الذي طبع فيما لا يقل عن عشر مليون من النسخ، بيع ثلثها بعد سنة واحدة من صدورها، حدثا فنيا يابانيا وكونيا فارقا بكل المواصفات، لذلك سارعت شركات الإنتاج إلى اقتباس صور متحركة من هذه الرسوم غطت ثلاثة مواسم، قُسّم كل واحد منها إلى جزئين وانطلق بثها على قناة «فوجي» التلفزيونية مع حلول شهر جانفي من سنة 2012. وتدور أحداث سلسلة الرسوم المتحركة الموسومة بـ«مسابح روما» بحاضرة الرومان أيام حكم الإمبراطور «هادرينوس (117م-138م)، حيث نتابع بشغف وفضول لا حدّ لهما تعثرات مسار حياة مهندس معماري مختصّ في تشييد المسابح عاين

مسار حياته المهنية مرحلة ركود مردّها تمسكه بتصورات معمارية قديمة انقضى فصلها، لم تعد تستجيب لدواعي التجديد والمعاصرة. كما عاينت حياته الشخصية من جانبها هزة عنيفة بعد قرار زوجته الانفصال عنه نهائيا، غير أن تدخّل الصدفة أو القدر هو الذي قلب رأسا على عقب مسار حياة ذلك المهندس المعماري الروماني فقد عاينت حياته فجأة تحوّلا فارقا، وذلك بمجرد أن عمدت «يامازاكي» إلى ربط حكايتها الخيالية المستظلة بتاريخ مدينة روما على أيام إمبراطورها البنّاء «هادرينوس». فقد صادف تردّده على حمامات روما ومسابحها للتأمل في واقعه العاثر والتخفيف من مساوئ مصابه، حصول أمر خارق ومباغت تمثل في القدرة على طي الزمن ليجد نفسه متنقلا بين حاضرة زمانه روما وحواضر اليابان المعاصر ذات المعمار المستقبلي المُبهر، فتنفتح بصيرته الابداعية على معارف غير مسبوقة توصّل باستلهامها إلى تجديد رؤيته الهندسية والفنية، متجاوزا بذلك عقمه الفني وانحسار تصوراته الجمالية، عائدا إلى مسقط راسه قصد تحويل مشاهداته إلى واقع حي عبر فتح أوراش تجريبية عكست توجهاته الهندسية المجدّدة.

تأثرت واضعة هذه الرسوم المتحركة في صياغتها للحمة هذا العمل ونسجها لسداها بالعديد من المؤلفات الإبداعية والعلمية التي نذكر في مقدمتها كتاب المؤرخ الإنجليزي «إدوارد غيبون»(ت 1794) «تاريخ انحدار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها»، و»مذكرات الامبراطور الروماني هادرينوس»، وهي رواية تاريخية ألفتها الكاتبة الفرنسية البارعة «مارغريت يورسنار» (ت 1987)، وصدرت سنة 1951 في شكل رسالة متخيّلة وجهها هذا الامبراطور الموسوم بـ «البنّاء» لخليفته الامبراطور الحكيم «مارك أوريل» (161 – 169م)، متعرضا في ثناياها إلى ولوعه بالشعر والموسيقى والفلسفة، وإطلاقه العنان للتخيل الخلاق عقلا وذوقا، وهي نفس التوجهات التي احتفظت بها «ماري يامازكي»، عاملة على مزجها بمحصلة تكوينها التشكيلي ومعرفتها المجهرية بالفضاءين الزمانيين والمكانيين الاعتباريين لمشروع رسومها، وربط جميع ذلك بتقنيات مبتكرة تمزج بكثير من الحسّ والطرافة بين فن مستظرف يحيل على مخزون ذاكرة اليابانيين الجماعية ونقصد فن «المانغا» طبعا، وفن حديث، بل ما بعد حديث، يعالج الواقع الإنساني الراهن بأدوات يعكس تشعّبها صعوبات العيش المشترك راهنا، متخيّلا وبشكل استلهامي ابداعي حلولا لتلك العقبات أو المصاعب.

ما الذي بالوسع استخلاصه بعد استيفاء التعريف بهاتين العينتين الكاشفتين على جوانب من تقنيات الاستظلال الإبداعي بالتاريخ في سوق الصناعات الثقافية التاريخية حاضرا؟

لعل ما يتعين التركيز عليه هو طابع الانتشار الكوني لتلك الأعمال الإبداعية التي يزداد تأثيرها يوما بعد يوم وتتدخل بقوة غير مسبوقة في إعادة تشكيل الذهنيات وتنميط الأذواق لدى الأجيال الصاعدة كونيا. ويدفع التلقّي الجماهيري لمختلف هذه الصناعات الثقافية الاستهلاكية في تنوّع أشكالها وتعدّد حواملها (المكتوبة والمسموعة والمرئية) وبعد أن تزايدت وتيرة اقتباسها من معين التاريخ البشري الذي لا ينضب، إلى التساؤل بإلحاح حول اتجاه التسوية ضمنها وتفكيك الآليات التي عوّلت عليها في مدّ جسور التواصل بين الشعوب والثقافات والأُمم، والقطع مع التوجهات الثقافة النمطية المُهيمنة والمجازفة بإلقاء الاحكام القيمية المسبقة، الدافعة نحو مزيد من الرهاب والانغلاق والتصديق على جميع الدعوى المضلّلة بخصوص عنجهية المختلف أو «بربريته».

فهل سيكون بوسع الاجيال الجديدة مستقبلا تفادي الانحدار في ظلمات القرون الوسطى والانخراط وعلى النقيض في توجهات تفتح مجالا شاسعا للتنوع الثقافي، بدل الانغماس في آتون المواجهات العمياء، وفق ما تشي بذلك سلسلة «لعبة العروش» الموسمية؟ وهل ستعيد الإنسانية تملّك إرث الحضارات المتوسطية القديمة (الإغريقية والرومانية) من بوابة الاعتراف بخصوصياتها المحليّة والافتخار بإسهام منجزها الحضاري في تقدم تاريخ البشرية وفق ما نستشفه من متابعة رسوم «ماري يامازكي» المتحركة؟ ثم ما الذي يعنيه اكتشاف أفق جديد أمام البشرية، إذا لم يكن مصحوبا بوعد حقيقي في اقتسام نعمة العيش بكرامة وتحقيق الازدهار والرفاه، مصداقا لمأثور الحكمة الكونية القائلة، بـأنه «لا ثمّة رُقيّ إذا لم تقتسمه الكافة «Le progrès ne vaut que s'il est partagé par tous «، وهو عين ما أومأت إليه العديد من الابداعات الروائية والفنية المعاصرة؟

إن من أدركوا عصرنا لابد أنهم قد استوعبوا أن مغازلة المستقبل هي أسوء ضروب الامتثال وأدهى أشكال التملّق الجبان للأقوياء، فإذا لم يعد للمستقبل عامة من قيمة تُرجى بعد استحكام راهن يأبى أن يذهب في حال سبيله، فلمن سيتوجه خطاب المبدعين مستقبلا ؟ هل سيتحوّل الروائي إلى مجرد واعظ ديني، أو إلى ممجّد مبتذل لحب الأوطان أو كاتب منحاز لوصاية فكر الجماعة أو مُتعصب مبتسر لحرية الأفراد؟ ليس هناك من جواب على مختلف هذه الاستفهامات سوى محاولة إدراك ما يعيشه العالم على أنه شيء غامض، وأن الابداع الحقيقي هو مواجهة حقائق نسبية متعدّدة لا مكابدة حقيقة مطلقة واحدة. فالمبدع الحق هو ذاك الذي يتمسك في مغامرته الفنية على الدوام بحكمة لا تبلى لخّصها «ميلان كوندورا» في استلهام بديع لـ «كيشوت» ثربانتيس: «الحقيقة اليقينية الوحيدة تكمن في حكمة اللايقين».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115