روبورتاج معالم من بلادي في زيارة الى القيروان: يا باحثا عن سحر المعرفة زر القيروان

من قال ان الحجارة صماء لا تنطق؟ من اشاع ان الزخارف لا تتحدث بلغة العشق؟

من نوّه بصمت الأعمدة و القباب، فهو مخطئ فهنا الحجارة ستحدثك عن الفتوحات الإسلامية ستخبرك عن حقيقة مدينة العلم و التاريخ والثقافة الاسلامية، مدينة أنجبت ابن رشيق وابن شرف والحصري المنصف الوهايبي وجعفر ماجد و امهر الفرسان والقادة المدينة المعسكر التي حملت احلام العرب بنشر دينهم و ثقافتهم وهويتهم العربية الاسلامية ، مدينة الـ300 مسجد، مدينة «رابعة الثلاث» بعد مكة والمدينة المنورة و القدس مدينة العلم دون منازع.

إلى القيروان ومعالمها ستكون الرحلة التي تنظمها وكالة احياء التراث، الى المدينة معشوقة جعفر ماجد التي يقول فيها:
أخلصتك الحب في سري وفي علني وهمت فيك هياما غير متزن

وعشت بين رباك الخضر منتقلا كأنني طائر يشدو على فنن
زرعت فيك ورودا ليس يذبلها ولا يريق شذاها عاصف الزمن

تكون الوجهة، رويدك ايها القارئ لك الكثير من المتعة في جولة ثقافية سياحية تحدثك فيها القيروان عن سحرها ستخبرك عن بعض اسرارها لك ان تستنشق عبق الحب هنا فالقيروان مدينة للحب لهدوءها غموض ولقبابها ومعالمها آلاف الحكايا فهلاّ أتيت؟

جامع عقبة تايخ حرب وعلم
للتاريخ خباياه، شواهد سُجّلت على الحجارة والمعمار، الى القيروان تكون الوجهة، من تونس العاصمة تنطلق قافلة الاسئلة لتمر بالنفيضة فبني واعر ثم تلك الطريق الطويل الناطقة بآلام سكان الريف البسطاء الذين امتهنوا بيع «الطابونة»، القيروان اليوم تعرف اكبر نسبة انتحار ستلاحظ بعض حزن ووجم على وجوه المارة ووجوه العملة لا عليك دع الحاضر بكل اثقاله و رتب دفاتر عقلك لتعود الى العام 50 هجري.

لك ان تغمض عينيك، لك كل الحق لتستحضر معلوماتك التاريخية عن «المعسكر» جولتنا تنطلق من الجامع الكبير، جامع عقبة ابن نافع تلك الايقونة المعمارية والتاريخية، لبابه البني الكبير العديد من الاسرار، اغمض عينيك للحظات وحاول تشكيل الصورة الاولى لهذا المعلم الكبير، لك ان تتخيل صرخات الجنود وهتافهم اول وصولهم الى القيروان، لك ان تحاول تركيب صورهم ربما سترسم امامك عمامة عقبة ابن نافع ربما تكون محبا للاساطير فتكتب فسيفساء من البطولة و تكتب اساطير عن الجيش وعقبة و القبلة والماء الذي تدفق تحت حوافر الخيول حين وصلت الى تلك السهول الممتدة.

هنا القيروان، في باب الجامع شيخ يستقبل ضيوف المكان، يوزع الجبة القيروانية واغطية للرأس على الزوار، ستستقبل ساحة كبرى، اينما وليت وجهك تجد امامك العديد من الاقواس والاعمدة الموشاة باجمل الالوان و الخط الكوفي المميز، فانت في الجامع الاكبر.

و هو معلم اسسه عقبة بن نافع سنة 670 ميلادي الموافق للعام 50 هجري وهو اول مسجد ببلاد المغرب العربي وفي عام 155هـ / 724 م أعيد بناؤه على يد يزيد بن حاتم، وظل على حاله إلى أن تولى زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب إمارة إفريقية عام 201هـ / 817 م فزاد فيه. ولقد سارت التوسعات في العصور المختلفة حتى أصبح يشغل اليوم مساحة مستطيلة تتراوح أضلاعها ما بين (70و122) مترا ويحتوي على 17 بلاطة و ثمانية اساكيب ، لا تنبهر بالصومعة العالية ولا بكل تلك الاقواس فلازال وقت الدهشة، في الداخل إذ ستبهرك الوان السجاد، وستشعر ببرودرغم حرارة الطقس، الوان السجاد الزاهية زادت المكان بريقا، قبالتك مباشرة اقدم محراب في المغرب الاسلامي، منذ شيد في عهد زيادة الله ابن الاغلب ظلّ يحافظ على تفاصيله ونقوشه والخط الكوفي الذي زاد الكتابة بهاء.

لون بني داكن يشد انتباهك حتما يسيطر على الالوان رغم قتامته وهدوءه، بني كما لون التراب بعيد قطرات المطر امامك جزء فريد وبديع الصنع ايضا هو المنبر الذي حافظ على شكله ولونه الاصليين منذ العام 248هجري، المنبر المصنوع من خشب الساج يعد من اقدم المنابر الاسلامية.

الى جانب المنبر تحفة معمارية اخرى، بنية اللون ايضا مستطيلة الشكل مع مربعات تزينها امامك مقصورة المعز نسبة الى المعز ابن باديس ، في الجامع الكبير الكثير من الالوان بعيدا عن رمزيته الدينية له رمزية حضارية لانه تحفة معمارية فريدة، تحفة باتت انموذج في جل المساجد في المغرب الاسلامي، تحفة للعلم ايضا لان الجامع كان مقر لقاء عشاق العلم والباحثين، اقصى اليمين يتحلق مجموعة من قارئي القرآن صورة قد تعيدك الى اجتماعات فقهاء القيروان وقضاتها وتلاميذها قد تستحضر الإمام سحنون وابن رشيق القيرواني وابن شرف وأسد بن الفرات وابن الجزار،والشاعر ابو عبيد الله ابن القزّاز و عبد الرحمن بن رافع التنوخي أول من تولى القضاء بمدينة القيروان،والمعز ابن باديس وعبد الله الاغلب الذي جعل من القيروان اسما ملأ الدنيا وشغل كل العلماء والفقهاء فابتسم ودع الجامع للمصلين فلازال الكثير من الاسرار في جولتك ولاتنسى وانت تغادر الجامع قارئنا العزيز ان تقول ما قاله شاعر القيروان ابن شرف:
«يا قيروان وددت انّي طائر فاراك رؤية باحث متامل

آها واية آهة تشفي جوى قلب بنيران الصبابة مصطلي»
فسقية الاغالبة حكمة الماء
لازالت الجولة في معالم القيروان متواصلة، لسائل ان يسأل عن الماء ومن اين ارتوت تلك المدينة وكيف قاوت الجفاف، الجواب يقدمه الباحث جهاد صويد من خلال اشارته من فوق سطح مبنى وكالة احياء التراث والتنمية الثقافية الى احدى المنجزات البديعة معماريا وهي فسقيات الاغالبة، بين الفسقية الصغرى والكبرى والمواجل أسرار استنبطت في ابداع لجلب المياه من وادي ملاق لتصب في تلك الفسقيات وتستخدم لشراب القوافل التي كانت تمر من القيروان جنوبا وشمالا.
وقد شيد القرويون في العهد الأغلبي فسقيتين كبيرتين وبعض المواجل لتقدّم لنا صورة عن المنشآت المائية الضخمة التي تعد أهمّ ما أنجز في هذا المجال على امتداد القرون الوسطى. وتمسح هذه الأحواض في الجملة 11.000 م2 وتبلغ سعتها 53.000 م3 . وفي وسط الفسقيّة الكبرى ذات الشكل الدائري بقطر 127,7 م وعمق 4,8م، كان ينتصب برج مثمّن الزوايا كان يقصده الأمير طلبا للراحة. .

للفسقيات جمالها للون الأزرق البهي متعته، من فوق السطوح تستمتع بجمال الماء وصوته الجميل وكأنه يعزف لحن الحياة دائما، لمنظره سحر ربما الهم سميح القاسم ليقول:
هي كانت حبيبتي وستبقى
وردة الحب في كتاب الزمان
وستبقى مضاءة بالأماني
وستبقى مضيئة بالمعاني
وتسمى بالقيروان..
فعذراً يا ذويها.. سميتها
قيرواني
المقامات.. مزار للعلم ايضا

ساحة ممتدة تجمّع بها العديد من المارة اجتمعوا ليتحادثوا وليرتاحوا قليلا من الحرارة، لافتة كتب عليها ساحة المغرب العربي، باب بني اللون كبير، الى يساره رخامة خط فوقها «مقام الصحابي الجليل ابي زمعة البلوي»، درجة، اثنتان تجد في بهو كبير، الى يسارك اولا «المخزن» سابقا لك ان تتجول في تلك القاعة الكبرى فهي تخفي حكايا واسرار البنات زهرات صنعن الزربية الاولى وقدمنها الى «سيدي الصحبي» تبركا بعلمه وفقهه. و و «الصحبي» هي اختصار لكلمة الصحابي هو أبو زمعة عبيد بن أرقم البلوي، من أصحاب الشجرة. استشهد سنة 34 هـ / 654م خلال الغزوات الإسلاميّة لإفريقيّة في غزوة معاوية بن حديج وذلك إثر معركة ضدّ الجيوش البيزنطيّة قرب عين جلولة ( 30كم غرب القيروان ). وقد دفن جثمانه في موضع القيروان قبل تأسيسها. ويذكر أنه كان يحمل معه شعيرات من الرّسول ويلقّبه أهل القيروان بـ»صاحب الشعرات».

ولأبي زمعة البلوي مقام من اجمل المقامات يضم مدرسة ايضا بنيت في عهد حمودة باشا عام 1072 هجري،
واصل الجولة فناك بهو طويل، هنا كانت المدرسة التي يجتمع فيها عشاق المعرفة،

بعد البهو الطويل در إلى يسارك ستجد السقيفة مزينة بأجمل النقوش العربية بالاضافة الى الخزفيات ففي فترة ما كان للقيروان نصيبها من التميز في صناعة الخزف والنقش عليه، اللون المسيطر هو الأخضر القيرواني ، بعد السقيفة المميزة بأبوابها الأربعة باحة كبرى تخصص للسهرات الصوفية في شهر رمضان ثم المقام الذي جمع بين الفقه والعلم

متحف التراث الاسلامي برقادة سحر التاريخ والمكان
الى المدينة المهدّئ كما يسميها البعض، الى المدينة التي ساعدت الامير الاغلبي على السكون والنوم بعد ارق طويل تكون الوجهة بعد القيروان المدينة، مدينة الضجيج والعسكر والفقه و النقاشات بعد جولة تاريخية من العام 50 هجري الى العام 264 هجري تكون الوجهة، الى مدينة رقادة.
رقادة هي ثاني المدن بعد القيروان اسسها ابراهيم ابن احمد الاغلبي في العام 264 للهجرة، مدينة كانت مركزا للعلم وشيدت بها بيت الحكمة القيرواني في شكل بيت الحكمة ببغداد.

المسافة ليست ببعيدة 10 كيلومترات تفصل رقادة عن القيروان، في الطريق ستشاهد باعة «خبز الطابونة» يحاولون جلب انتباه المسافرين والزبائن، ستنتبه الى الجفاف و قلة الاشجار ، الى يسارك تحفة «الكسكاس» العملاق الذي شيد منذ عامين فأكلت الشمس لونه وبات اقرب الى البني منه الى البرنزي
بعد 10 كيلومترات تجدك امام قوس كبير من شكله تعرف انه يعود الى الفترة الاغلبية له نفس الزينة وعلو الأقواس الموجودة في المدينة العتيقة، انت في حضرة متحف التاريخ الإسلامي برقادة، متحف بني في الستينات وضم البقايا الأثرية للمدينة في قصر الحبيب بورقيبة الي تبرع بيه الى وزارة الثقافة عام 1983.

يستقبلك في المتحف اولا مجسم كبير للجامع الكبير بكل تفاصيله، المجسم يقدم لك كل الجزئيات التي لن تكتشفها اثناء زيارتك للجامع، اما الى يسارك فمجسم اخر للمحراب بكل تفاصيله وجزئياته، فباب كبير وبهو مزين باجمل النباتات الى يمينك ويسارك، ثم مرآة كبرى تعكس صور الزوار فدرج يحملك اولا الى قاعة المصاحف وجولة مع اجمل المصاحف التي كتبت في القيروان على الرق القيرواني اذ اصبحت الخطاطة صناعة الحذّاق وفنا قائما بالوراقين، تجدك امام مخطوط كبير لسورة «البلد» مكتوبة على الرق بخط كوفي عتيق وقد اشير الى علامات الشكل فيه بنقط حمراء والى همزتي الوصل والتقطع بنقط صفراء وخضراء وذلك على طريقة ابي الاسود الدؤلي وتتمثل فواصل الايات في خطوط قصيرة وعلامات الاخماس والاعشار في اشكال هندسية متنوعة زينت بدايات السور بزخارف هندسية بسيطة تنم عن كتابة المصحف في تاريخ مبكر اي القرن الثاني للهجرة.

من يقول قاعة المصاحف حتما سيلامس صفحات المصحف الازرق القيرواني الوحيد في العالم هو قيرواني الاصل والكتابة، تحفة فنية وخطية كتب بالخط الكوفي المذهّب وقد صبغ بالنيل المستجلب من الهند وهو مثال فريد من نوعه ومختلف الاوراق الموزعة في متاحف العالم جميعها تعود الى القيروان ويعود المصحف الازرق الى القرن الرابع للهجرة.
هنا تتماهى كل ماليات التاريخ تتجمع لتحملك الى عالم القيروان وسحرها الديني، بعد قاعة المصاحف تجدك في قاعة الخزف التي تعرض فيها مجموعة هامّة من الأواني الفخّارية تعود إلى العهود الأغلبيّة ( القرن التاسع) والفاطميّة (القرن العاشر) والمتأتّية أساسا من موقعي رقّادة وصبرة (قرب القيروان) فقاعة للنقود ، اما اجمل القاعات وختام الجولة فهي المسمّاة قاعة القبّة والتي تجلب انتباه الزائرين بدقّة زخارفها وتنميق زجاجيّاتها وإشرافها على المنتزه. وفي هذه القاعة تعرض قطع ثمينة من البلّور والرصاص والبرنز.

بعد ساعات من الجولة في بعض معالم القيروان تنهي الجولة ايها القارئ، ربما الرحلة كانت جد متعبة ولكنها ممتعة اكثر، جولة تكشف سحر القيروان والبعض من اسرارها ، وانت تودع المكان ستجدك امام مقولة «لو هبت كل رياح الكون لن تقتلعني من مكاني» وتلك هي القيروان التي ملأت الدنيا وشغلت الناس.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115