رسالة مفتوحة: إلى أصحاب القرار رئيس الدولة - رئيس الحكومة رئيس مجلس الشعب إلى المثقفين والوطنيين

بقلم: عبد العزيز الدولاتلي
المدير العام السابق للمعهد الوطني للتراث
التراث هو حصيلة الابداعات الحضارية الموروثة عن الأجيال السابقة. وهو العلامة المضيئة

التي تتميز بها الشعوب وتعمل للمحافظة عليها للأجيال اللاحقة. والدولة هي الحافظ الأمين له والرقيب المدافع عن كيانه والساهر الغيور على حظوظه. وهي المسؤولة الأولى عن استثماره الاستثمار الملائم خدمة للتطور الاقتصادي والنمو الاجتماعي والثقافي. ومن أجل تحقيق تلك الأهداف فهي تستصدر القوانين وتنشئ المؤسسات وتحدث الكفاءات وترصد الأموال.

ويعد الإرث الحضاري التونسي من أثرى ما جادت به البشرية. لذلك أقدمت اليونسكو على تسجيل عدد من معالمه ومواقعه ضمن قائمة التراث العالمي. وبذلك الاعتراف فهي تعترف ضمنيا بمقدرة الدولة التونسية على حماية تراثها من كل عوامل التدهور والانحطاط وربما الزوال. وفعلا فقد اكتسبت تونس خلال الستين سنة الماضية تجربة رائدة معترف بها دوليا في شتى الميادين مثل البحث الأثري والتنقيب والترميم والصيانة والإحياء والتثمين. فأعدت القوانين وآخرها مجلة التراث الأثري والتاريخي والفنون التقليدية التي تم استصدارها في فيفري من سنة 1994 ثم جهزت المؤسسات المختصة كالمعهد الوطني للتراث (1993) ووكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية (1988) والديوان القومي للصناعات التقليدية (1959) إلى غيرها من المؤسسات ذات الطابع التكويني او المخبري.

ومع ذلك يمر قطاع التراث منذ سنين بأزمة خانقة قد تؤول إذا لم تتخذ الدولة لتفاديها كل التدابير العاجلة والآجلة، إلى مزيد من الأضرار. وهي أزمة ظرفية إلى حد ما لها صلات وثيقة بما شهده قطاع التراث كغيره من القطاعات من تجاوزات خطيرة وسوء تصرف في أواخر العهد السابق. إلا أنها تحولت بعد أحداث جانفي 2011 بطول المدة وانخرام الأنظمة وتفشي التسيب واللامبالاة إلى أزمة هيكلية. ولم نكن نتوقع أن الدولة الحديثة ستتباطأ إلى هذا الحد في اتخاذ القرارات الضرورية وكأن الأمر لا يعنيها.

ويزداد استغرابنا عندما نشاهد أن الموضوع مع ما يكتسيه من الخطورة بقي باستمرار على مدار السنين الأخيرة غائبا في كل المشهد السياسي والفكري والثقافي. وهنا تأتي المفارقة العجيبة لهذا الوضع الخطير والمسكوت عنه وكأن سياسيينا ومثقفينا قد فقدوا الوعي بخطورة التراث وبأنه جزء من الشخصية الوطنية، وأن بضياعه يفقد الشعب هويته وبانحلال الذاكرة الجماعية تنحل روابط التضامن بين أفراد المجموعة الوطنية.

ولا شك أنه لو تمادي الوضع على ما هو عليه ستترتب عنه عواقب وخيمة يتحمل مسؤوليتها أصحاب القرار أولا وبالذات. فعلى سبيل المثال نلاحظ أن نصف عدد المعالم والمواقع مثلا التي تم ترتيبها خلال الفترة الاستعمارية والذي كان يقارب الألف قد اندثرت ولم يبق منها أي أثر يذكر. كما أن الحفريات العشوائية لم تنقطع بل ازدادت اتساعا وتوغلا في كامل تراب الجمهورية. وكذلك المتاجرة غير الشرعية بالآثار التي اتسع نطاقها اتساعا مهولا فأمست بأيدي شبكات دولية شديدة الخطورة. أما عن المدن التاريخية التي تزخر بها البلاد والتي تكتسي قيمة استثنائية فحدث ولا حرج فقد طالتها عوامل التسيب والفوضى ونال من معظم بيوتها ومحلاتها وشوارعها التآكل والخراب.

ومن أغرب ما يشاهد اليوم والذي يزيد من تخوفاتنا مدى الإهمال والتسيب الذي طال الكثير من المتاحف والمعالم المعدة للزيارة أو لغيرها من أنواع الاستغلال والتي بعد أن استثمرت فيها أموال طائلة، هي إما مهجورة أو الإقبال عليها محتشم جدا أو مغلقة تماما. كما أن الكثير من المعالم التي تم ترميمها منذ عقدين أو أكثر أصبحت في حاجة إلى الترميم من جديد بعد افتقادها لأي تعهد وصيانة.

حتى المعالم والمواقع السبعة المسجلة في قائمة التراث العالمي (قرطاج، القيروان، تونس، الجم، سوسة، دقة، كركوان) فقد شملتها هي أيضا مظاهر الإهمال والتسيب بفرض غياب أي تدابير قانونية كفيلة بحمايتها عملا بمجلة التراث الأثري والتاريخي والفنون التقليدية. مع أن اللجنة الوطنية للتراث قد عقدت اجتماعا خاصا بها في 29 ديسمبر 2015 قدمت إثره تقريرا لوزيري الثقافة والتجهيز موصية بترتيبها. ومنذ ذلك التاريخ لم يحصل أي شيء وبقيت الأمور على حالها. والجدير بالملاحظة أن مثال الحماية والتهيئة الخاص بقرطاج كان جاهزا منذ سنة 1996 ينتظر المصادقة إلا أن ذلك لم يحدث على الرغم من التجاوزات الخطيرة التي حصلت في العهد السابق والتي ذهب ضحية لها عشرات الهكتارات من الأراضي الأثرية.

والأغرب من كل ذلك أن مجلة حماية التراث الأثري والتاريخي التي صدرت منذ ربع قرن تقريبا لا تزال تنتظر صدور أوامرها التطبيقية مع أنها كانت منذ سنة 1995جاهزة، ما عدى الأمر الخاص بإحداث اللجنة الوطنية للتراث الوحيد الذي صدر في نفس السنة أي 1995. ومع ذلك فقد عقدت هذه الأخيرة عدة اجتماعات وأبدت ٍرأيها في الكثير من مشاريع الترتيب وإحداث المواقع الثقافية والمناطق المصانة. إلا أنه إلى يوم الناس هذا لم ينل أي موقع ثقافي مثالا للحماية والإحياء وأي منطقة مصانة مثالا للصيانة والإحياء. كما لم تصدر الأوامر التطبيقية الخاصة بالتشجيعات الجبائية والمالية وغيرها من الترتيبات التي من شأنها أن تساعد على تطبيق القانون الذي يعده معظم المختصين في حماية التراث من أحدث وأنجع القوانين في العالم.

ولم تكن المؤسسات التي تم إحداثها خلال الربع قرن الأخير أحسن حظا لاسيما المعهد الوطني للتراث الذي صمم ووزعت في نطاقه الإدارات والمصالح والمؤسسات لكي تساعد على التطبيق الميداني لما جاءت به مجلة التراث من إجراءات وتراتيب وأعمال ميدانية. إلا أنه بقي لسنوات طويلة مكبلا بفرض نقص الإطارات الكفأة المتعددة الاختصاصات والموارد المالية والوسائل اللوجستية فضلا عما شهده خلال الفترة الأخيرة من العهد السابق وطيلة السنوات الأولى بعد أحداث الثورة من انتهاكات وتجاوزات وتسيب مريع.

ولم تكن وكالة إحياء التراث التي مر على إحداثها ثلاثون سنة في منأى عن التجاوزات إذ تم تحويلها منذ سنة 1996 لكي تضطلع بمهام التنشيط الثقافي فضلا عن مهمتها الرئيسية المتمثلة في تثمين التراث وتهيئته لكي يساعد على تنمية السياحة الثقافية. ولم يكن ذلك التحول دون المساس من مواردها المالية المتمثلة في استغلال مداخيل المعلم والمواقع والمتاحف. وخير دليل على تدني مردودها وقلة نجعتها أن نسبة 87/° من جملة الزائرين المقبلين على المعالم والمتاحف والمواقع المعدة للزيارة لم تتغير بل تمادت على ما كانت عليه منذ أكثر من نصف قرن، مقتصرة على خمسة أماكن فقط وهي: متحف باردو، قرطاج، الجم، القيروان وسوسة. وما تبقى وهو الأكثر عددا وأحيانا قيمة تاريخية وأثرية ومعمارية وجمالية فلا يزوره سوى ال 13/° المتبقية. وهذا الاختلال بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية التي لا تقل ثراء من حيث مخزونها التراثي، يشكل في حد ذاته برهانا صريحا على إخفاق كل من السلطتين الثقافية والسياحية على إرساء سياحة ثقافية لا تخضع للسياحة الشاطئية الموسمية، ذات مردود وطني وبالأخص جهوي ومحلي متزن بين الجهات.

أما قطاع الصناعات التقليدية الذي وضع من أجله منذ سنة 1959 الديوان القومي للصناعات التقليدية لكي يحافظ عن أصالة وثراء الإنتاج الوطني حتى يتحول إلى انتاج قادر على المنافسة، فقد أمست أوضاعه متردية إلى أقصى حد كما هو الشأن بالنسبة لأوضاع التراث غير المادي على العموم مثل العادات والتقاليد الشعبية وكل ما له صلة بالذاكرة الجماعية.

إن افتقاد السلطة الموكلة إليها مسؤولية حماية التراث وتثمينه بعد مرور سبع سنوات على قيام نظام الجمهورية الثانية، لأي خطة إصلاحية متكاملة الجوانب يتم العمل بموجبها، بل إن غياب أي مبادرة جدية من أجل توفيرها في أقرب الآجال، ليبعث على التشاؤم بالنسبة لمستقبل ممتلكاتنا الثقافية. كما يبعث على الشك في وجود إرادة سياسية حقيقية لدى المسؤولين وأصحاب القرار للنهوض بالقطاع وإخراجه من الأزمة التي ما انفك يتخبط فيها منذ زمن بعيد.

إن القضية تتعدى كونها قضية إصلاح هياكل أو توفير موارد أو وضع حد للفساد بل هي قضية إيمان بقيمة الإرث الحضاري وبمقدرته على توفير أسباب الرقي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والتطور الثقافي والتواصل بين الأجيال والتضامن بين الجهات. إنها قضية تتجاوز جيل اليوم والأجيال السابقة، هي قضية جيل الغد، قضية أبنائنا وأحفادنا وأحفاد أحفادنا الذين سيحملوننا، لا قدر الله، مسؤولية التفريط في مكتسباتنا الحضارية ذات المرجعية التاريخية والحضارية الضاربة في أعماق التاريخ.

كان بإمكان ذلك المخزون الثقافي وتلك الثروة الحضارية أن يغدقا على بلادنا مزيدا من الثراء والرخاء لو توفر الوعي لدى المسؤولين وأصحاب القرار. في جهات أخرى من الأرض وغير بعيد عنا مثل إيطاليا خصص المسؤولون السياسيون للممتلكات الثقافية وزارة كاملة لكي تعتني بالتراث محافظة وإحياء وتثمينا. أ لم يحن الأوان للسير على خطاهم؟ ألا يستحق موروثنا التاريخي والحضاري ببعديه المادي وغير المادي الذي طالما تباهينا به أمام الأمم، مزيدا من الاهتمام والتضحية؟ هل كثير عليه أن تخصص له وزارة تجمع شمله وتعتني بشؤونه المتعددة الجوانب والاختصاصات بما فيها الصناعات التقليدية التي طالما شٌتتت وبعثرت بين وزارات لا تمت بها أي صلة؟

هذا قرار لو اتخذ، سيلقى حتما ترحابا كبيرا من لدن أصحاب الفكر والثقافة وكل الوطنيين. ولا نشك أنه سيلقى أيضا دعما كبيرا من طرف نواب الشعب الغيورين. كما ستكون له أبعاد تاريخية وحضارية سيشهد بها التاريخ وسيعده غيرنا من الشعوب مثالا يحتذى. من أجل ذلك نناشد سيادة رئيسي الدولة والحكومة المحترمين لكي يسعيا على استصداره في أقرب الآجال. لعل الأمل يعود ويسود التفاؤل وتتأكد الثقة بجدية الدولة للأخذ بزمام الأمور وبأنها بحق عاقدة العزم على تلافي الأوضاع الحالية المزرية وعلى تحقيق ما عجز عن تحقيقه أصحاب السلطة والقرار المتعاقبون منذ أكثر من عقدين.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115