أرشاق: حول «كلِيمَنْسِيا الجميلة» وحِيَالَها... يَهْطُلُ الحِبْرُ (بمثابة مقدمة الطبعة الجديدة )

بقلم: ماجدة السباعي

  يَاحُبُّ
أيُّهَا اُلْحُبُّ...لاَ تَحْزَنْ
سَيَظَلُّ اُلْحُزْنُ قَرِيــــنكَ

(1)
مِنْ جَديدٍ وبَعْدَ كِتَابِ «دِيلاَنو شَقيقِ الورْد» يُطِلُّ عَلَيْنا سَليم دُولَة برَائِعَتِهِ « كليمَنْسِيا اُلْجَميلَة  التونسية قادِحة الصّوان الكونية» ويُضِيفُ بذلِكَ نُقْطَةَ ضَوْءٍ جَدِيدَةٍ في لَيْلِ اُلْإبْدَاعِ اُلْعَرَبِي وَقَدْ احْلَوْلَكَ وصَارَ أَدْعَجًا طَيْلَسَانِيّا واسْوَدَّ اُلْحِبْرُ زَمَنَ قَتَامَةِ اُلنَّوَايَا وسَوَادِ اُلرَّأْسمَال اُلْمَادّي علَى اُلرّأْسْمَال اُلرَّمْزِي وزَمَنَ عَذَابَاتِ اُلْلّغَةِ واضْمِحْلاَلِ عُذُوبَتِها بَين أَنَامِلِ الشّعَارِير ِاُلْمُتَمَرِّغِينَ عَلى عَتَبةِ سَلاَطِينِ كُلّ اُلْأَزْمَانِ وتَعْذِيبِها عَلَى أَيَادِي جَلاّدِي اُلْكَلِمَة اُلْحُرّة واغْتِصَابِ اُلْإبْدَاعِ مِنْ طَرَفِ سَمَاسِرَةِ الْفِكْرِ واُلثَّقَافة

(2)

في هَذَا المَخْطُوطِ اُلْمُبْهِرِ يُحَوِّلُ الشّاعِرُ وهُو جَرِيحُ اُلْأَهْلِ واُلْوَطَنِ واُلْأُمَّةِ اُلْجرْحَ إلَى وَرْدَةٍ وعُصْفُورٍ

(3)

يَزِفُّ اُلْكَاتِبُ اُلْحُرُّ إلَى اُلْقَارِئ اُلْعَرَبِي عَرُوسَ الشِّعْرِ «كلِيمَنْسِيَا» تَتَبَخْتَرُ فِي أَبْهَى حُلَلِهَا عَلى هَوْدَجٍ تَحْمِلُهُ أَجْمَلُ نُوقِ قَبَائِلِ الضَّادِ وَسَطَ قَوَافِلِ اُلْمَجَازَاتِ تَارِكَةً خَلْفَها بِيدَ اُلْلُّغَةِ و عَبَابِ اُلْقَوَافِي

يَبْدُو اُلْكِتَابُ فِي ظَاهِرِهِ مُرَاوَحَةً بيْنَ اُلْعَاطِفِي والسِّيَاسِي في جُغْرَافِيَا اُلْقَلْبِ والوَطَنِ لَكِن في طَيَّاتِه أَدْغَالٌ وغَابَاتٌ تَسْكُنُهَا حَيَوَاناتُ الذّاتِ البَشَرِيَّةِ وغِيلاَنُهَا ، ذِئابُ الجُوعِ ...ثَعَالِبُ الشّكِ..ثَعَابِينُ الغِيرَة...حَرْبَايَاتُ تَقَلُّبِ الأَهْواءِ. عَوَالِمٌ مُسْتَعْصِيَةٌ ومُعَقَّدَةٌ تَسْتَلْزِمُ مُقَارَبَةً مُوَازِيَةً لاسْتِكْشَافِ الذَّاتِ الشّاعِرَة هِيَ الأُخْرَى غَابَةٌ كَثِيفَةُ الأشْجَارِ، مُنْبَسِطَةٌ ولَيّنَةُ التَّضَارِيسِ حِيناً ،عَدِيدَةُ النُّتُوءَاتِ والانْحِدَارَاتِ أَحْيَاناً ،عَائِمَةٌ في اُلضَّوْءِ ،غَائِمَةٌ في اُلظِلّ.
«يا أَبنَاءَ اُلْعَتَمَة..لاَ شَيْءَ وَاضِحٌ
كَمَا في البِلاَدِ ..لاَ شَيْءَ وَاضِحٌ

لاَ اُلْحُبُّ وَاضِحٌ..لاَ اُلْخِيَانَةُ
لاَ شَيْءَ وَاضِحٌ»
وتَلْتَحِقُ رُوحُ الفَيلَسُوفِ بالذّاتِ الشّاعِرَة في هذا الكِتابِ ورُبَّمَا تُلاَزِمُها ولاَ تَنْفَصِلُ عَنْها إذْ نَتَبَـيَّنُ أنَّ فُصُولَ اُلْكِتَابِ المَفَاصِلَ والفَوَاصِلَ ،فيهاَ إحَاطَةٌ شَامِلَةٌ بِإقَامَةِ الإنْسَاَنِ في الوُجودِ منْ جَمِيعِ جَوانِبِها وبِكُلِّ تَدَاعِيَاتِها سَواءٌ في عَلاَقَةِ الإنْسَان بآنِيتِهِ عَلَى ما يَعْتَرِيها مِنْ تَحَوُّلاَتٍ عَاطِفيّةٍ وسَيْكُولُوجِيَّةٍ مِنْ حَيْثُ أنَّهُ كَائنٌ زِئْبَقِيٌّ بامتِيازٍ لاَ يَهْدَأُ علَى حَال ٍ،أَو في علاقَتِه معَ الآخَرِ ومَع العَالَمِ المُحيطِ به و ما يشُوبُها منْ تجَاذبَات إيجابِيّة أو سَلْبِيّة يَحْكُمُها المُعَاشُ اليَوْمِيّ المَوْصومُ غَالِبًا بالمُعَاناةِ والضُّغُوطاتِ الحَيَاتيّة ..فلا يغْفَلُ الشّاعِرُ عن الفَقْرِ والاحْتِياجِ لأبْسَطِ مُقَوِّمَاتِ الحَياة الكَرِيمَة والتَّشَرُّدِ وهُو صَدِيقُ الفُقرَاءِ ويَتَامَى الوَطَن والمَجْرُوحِينَ والمَجْرُوحَاتِ، كَارِهُ الظُّلْمِ بأشْكَالِه.

(4)

تُبْهِرُكَ اُلْأَرْشَاقُ اُلرَّشِيقَةُ الشَّائِقَةُ ، اُلْمُشْرِقَةُ باُلْمَجَازِ ،مَمْشُوقَةُ الإيقَاعِ ،شَاهِقَةُ الإيحَاءِ ، شَيِّقَةُ المَعْنى ،شَيّكَةُ الحِياكَةِ وتَرْشُقُ اُلْفُؤَادَ بِسِهَامِ الشَّغَفِ فَتَنْتَزِعُ شَهْقَةَ الانْبِهَارِ

تحْمِلُ بُشْرَى لِذَوِي القُلُوبِ المَوْجُوعَة بِدَاءِ الأوُطَانِ ،المَوْطُونَةِ بحُبِّ الأوْطَانِ والمُتْعَبَةِ مِنْ عِلَلِ الرّاهِنِ السّيَاسِي والحَضَارِي في حقْبَة الحَضَارَة البلاَسْتيكيّة وحضَارَةِ اُلْمُعلّبِ واُلْمُجَمَّدِ والصّالِح للاسْتِعْمَالِ مَرَّةً وَاحِدَةً ..ومِنْ أوْجَاعِ الحَاضِرِ الثّقافي المُتَّسِمِ «بالفَوضَى الخلاّقة» والشّراَهَة في الْتِهَامِ القِيمِ والثّوابِتِ
يأتِي الكِتابُ بالحَلَقَة اُلْمَفْقُودَة في دَائرَة اُلْوِجْدَان العَرَبي ويَدْعُو إلى التَّشَبّثِ بالمَعْنىَ والقِتَالِ منْ أَجلِ الجَمَال والمَحَبّةِ واُلْلُّجُوء إلَى كيمِيائِيّ الحُبِّ لِمُكَايَدَة المِحَنِ في تونس ومصروفلسطين والعراق والشّام ..ومُدَاوَاةِ حُزْنِ الأوطان وتَجَنُّبِ السُّقوطِ إلى اُلْهَاوِيَة:

(5)

تَرَدّْدَتْ كَلِمَةُ «قَلْب « مَا يَزِيدُ عَنِ اُلْمِئَتَيْ وخَمْسِ مَرَّاتٍ وتَكَرّْرَتْ كَلِمَةُ « حُبّ» حَوَالَيْ خَمْسٍ وسَبْعِينَ مَرَّةٍ وذَكَرَ الشَّاعِرُ كَلِمَةَ «وطَن» في ما يُنَاهِزُ الْخَمْسِ وخَمْسِينَ مُنَاسَبَةٍ
ثَلاَثُ كَلِمَاتٍ مَفَاتِيحٌ لاَ أَظُنُّ الشَّاعِرَ تَقَصّدَ حِسَابِيَّا إيرَادَهَا بِهَذِه اُلْكَثَافَةِ وإنّماَ ذَاتُ الشَّاعِرِ اللاّواعية اُلْبَاطِنَةُ تُدْرِكُ مَكَانَةَ هذِهِ الثلاَثِيّةِ في التَصَوُّرِ العَامِّ لِلنَصِّ وقَدَاسَتَها في أَبْجَدِيّاتِ اُلْوجُودِ واُلْكَيْنُونَة كَكُلٍّ فَكَانَتْ هَذِهِ الثُلاَثِيَّةُ أَسَاسِيّة ومِحْوَرِيّة في نَسِيجِ النَّصِّ وتأْثِيثِ فَضَائِهِ.

القَلبُ ، الحُبُّ والْوَطَن ..مُتَلاَزِمَةٌ خَصْبَةُ اُلْمَعَانِي تَفْتَحُ علَى كُلِّ النَّوَافِذِ وتُحِيلُ إلَى كُلِّ الجُغْرَافِيّاَتِ بأَبْعَادِهَا اُلْكُوسْمولُوجِيّة اُلْقَرِيبَةِ واُلْبَعِيدَةِ ،اُلْمُتَخَفِيّةِ اُلْكَامِنَة اُلْلاَّبِدَة في بَاطِنِ الذَّاتِ الشّاعِرة والظّاهِرَةِ اُلْمَكْشُوفَةِ الّتِي تَتَعَرّى أَحْيَانًا مِنَ الاسْتِعَارَاتِ واُلْكِنَاياَتِ
بَيْنَ الذّات الشّاعِرَة وبَيْنَ كُلِّ عُنْصُرٍ من هذِهِ الثُلاَثِيّةِ جَدَلِيَّةٌ تَتَّسِمُ بازْدِوَاجِيَّةٍ مُفْلِقَةٍ هيَ عَيْنُهَا إيَّاهَا الجَدَلِيّةُ الْوجُودِيّةُ التّي تَمْخَضُ الذّاتَ الإِنْسِيّةِ مُنْذُ اُلْوِلاَدَةِ إلَى آخِرٍ نَبْضٍ في الشَّرْيَانِ

وَأنْتَ تَقْرَأُ كِتَابَ كلِيمَنْسِيا اُلْجَمِيلَة تَجِدُ نَفْسَكَ في قَلْبِ مَلْحَمَةٍ هِيَ اُلْحَيَاةُ لأَنّ اُلْكِتَابَ هُوَ كِتَابُ اُلْحَيَاةِ بامتِيازٍ ، هُو مَلْحَمَةُ أَفْعَالٍ و مَفَاعِيلَ وتَفَاعُلاَتٍ تَحْدُثُ فِي اُلْقَلْبِ وفي اُلْوَطَنِ وبَيْنَهُمَا اُلْحُبُّ ،أمّا اُلْقَلْبُ فهُوَ أحيانا اُلْفَاعِلُ حَيْثُ يَنْسب إلَيْهِ الشّاعِرُ الكَثِيرَ مِنَ اُلْأَفْعَالِ ( يُحِبُّ.. يَمُوءُ..يُخَتْرِشُ..يَطْرَبُ..يَفَرَحُ..يَحْزَنُ..يَتَذَكّرُ..يَنْسَى..يَسْتَغْفِرُ..يَوَحْوِحُ..يَشْتَاقُ...إلخ ) وأَحْيَانًا أُخْرَى هُوَ مَفْعُولٌ بِه إذْ هُوَ مَجْرُوحٌ ومَظْلُومٌ ومَوْجُوعٌ ومَكْسُورٌ ...إلخ .

كَمْ هُوَ مُهِمٌّ دَوْرُ اُلْقَلْبِ في كِتَابِ سليم دُولَة ، القَلْبُ كَانَ قَلْبَ اُلْكِتَابِ ومُحَرِّكَهُ تَمَامًا كَمَا هُوَ القَلْبُ في جَسَدِ الإنْسَانِ وهَذا الكِتَابُ حَضَرَ إلَى الدُّنْيَا كَجَسَدٍ مُتَمَاسِكٍ شَذَرَاتُهُ وأَرْشَاقُهُ عَقْدٌ منْ دُرٍّ حَبّاتُهُ كُوَيْرَاتُ دَمِ الشّاعِرِ اُلْبَيضَاء واُلْحَمْرَاء وحُبَيْبَاتِ قَلْبِهِ واُلْعُمُرِ تَنْسَابُ في دِينَامِيكِيّةٍ مُتَعَدِّدَةِ الاِتّْجَاهَاتِ واُلْوِجْهَاتِ بَيْنَ أَنَامِلِ اُلْأَيّامِ ،اُلْخَشِنَةِ حِينًا والنّاعِمَةِ أَحْيَانًا.أَنَامِلُ اُلْأَيّامِ الّتي إنَّمَا هِيَ طِفْلٌ يَلْهُو بنَا وبأَيّامِناَ كَمَا لَو كُنّاَ دُمَى مِنْ قُمَاشٍ .

(6)

ثَمّةَ نُصُوصٌ تَفْرِضُ حُضُورَهَا عَلَى اُلْقَارِئِ وتَأْسَرُ دِيبَاجَتُهَا لُبَّهُ وتَتَغَلْغَلُ مُنْعَطَفَاتُهَا السَّرْدِيّةُ في ذَاتهِ فَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكوُنَ مُحَايِدًا أوْ لاَمُبَالِـيًا إِزَاءَ النَّصِّ ولاَ يَقْدِرُ عَلَى تَجَنُّبِ التواطئي اُلْحِبْرِي بَلْ يَنْشَأُ بَيْنَهُ وبَيْنَ النَّصِّ عِقْدٌ عَاطِفِيٌّ
هَكَذا هُوَ كِتَابُ كلِيمَنْسِيَا الجَمِيلَة  ،يَذْهَبُ بِكَ خَارِجَ ذَاتِكَ ثُمَّ يَعُودُ بِكَ دَاخِلَكَ مَرّاتٍ ومَرّاتٍ. يُقَرِّبُكَ مِنْ خَطِّ الاسْتِوَاءِ ثُمَّ يَحْمِلُكَ إلى الأَقَاصِي واُلْمَجْهُولِ واللاَّمُتَنَاهِي في حَرَكَةٍ لَوْلَبِيَّةٍ سَريعَةٍ حَدَّ الدُّوَارِ والإغْمَاءِ..و تُعِيدُ اُلْقِرَاءَةَ دُونَ مَلَلٍ وفي كُلِّ مَرَّةٍ تَبْقَى مشْدُوهًا ، مَذْهُولاً ، مَشْدُودًا وكَأنَّ حِبَالَ رُوحِكَ شُدَّتْ إلَى جِذْعِ شَجَرَةِ اُلْكَلِمَاتِ.

(7)

يُخَاطِبُ الشّاعِرُ حَبِيبَتَهُ بِحَوَالَيْ خَمْسٍ وسَبْعِينَ اسْمٍ مُرُورًا بكلِيمَنْسِيَا ، كِلِيمُورَا ، نُورِيتَا إلى تُونِسْتَا ،أَشْوَجَنْدَا .مِرْوَحَةٌ صينِيّةٌ مُزَخْرَفَةٌ هي أَسْمَاء كِليمَنْسِيَا تَفْتَحُ عَلَى سُمْفُونِيَّةٍ عَذْبَةٍ مِنْ عَزْفِ الشّاعِرِ اُلْفَنَّانِ ،رَهِيفِ اُلْحِسِّ مُفْرَطِ اُلْإِحْسَاسِ.
« اُلْأَسْمَاءُ احْتِمَاءُ اُلْكَائِنِ ..مِنْ سَدِيمِ النِّسْيَان »

هَلْ يُمْكِنُ أَنْ نَعْتَبِرَ أَنَّ إقَامَةَ الشَّاعِرِ في عَالَمِ الأَسْمَاءِ تُحِيلُ عَلَى تَعَلُّقِهِ بالرُّمُوزِ وهُوَ الشَّغُوفُ بِكُلّ مَا يَرْتَبِطُ بالرَّأْسمَالِ اُلْاِسْتيطِتيقِي اُلْمُعْنَى بالجَمَالِيّاتِ فِي كُلِّ أَشْكَالِهَا.
يَقُولُ اُلْكَاتِبُ «امْبرْتو إيكُو» في رِوَايَةِ « اسْم اُلْوَرْدَة» : لَقَدْ كَانَت اُلْوَرْدَةُ اسْمًا ونَحْنُ لاَ نَمْلِكُ غَيْرَ اُلْأَسْمَاءِ».

هَذَا اُلْكَمُّ اُلْهَائِلُ مِنَ اُلْأَسْمَاءِ الرَّائِعَة اُلْفَرِيدَةِ هُوَ كَسْبٌ لكليمنسْيَا اُلْأَيَقُونَة وانْتِصَارٌ لِنَرْجَسِيّةِ الشَّاعِرِ اُلْحِبْرِيّةِ ..ألَيْسَ هُوَ ثَرِيُّ اُلْمِخْيَالِ ، خصْبُ اُلْمُخَيّلَة اُلْقَادِرُ عَلى ابْتِكَارِ أَسْمَاءٍ هِي قِطَعُ حَلْوى .

« كليمَنْسِيَا » اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ اُلْفَرَنْسِيّةِ مِنْ كَلِمَة clémence وتَعْنِي الرّحْمَةُ .ولَكنْ هَلْ رَحَمَتْ كليمنْسِيا قَلْبَ حَبِيبِها ؟ وقُلُوبَ عُشّاقِها ؟ وقَلْبَهَا ؟ وهلْ رَحَمَهَا الأهْلُ ؟ وهَلْ رَحَمَهَا الوَطَنُ ؟ كليمَنْسِيا اُلْمُتَقَلِّبَةُ ، الْهَوَائيّةُ، اُلْمِزَاجِيَّةُ ..قَاسِيَةٌ ولَيّنَةٌ في نَفْسِ اُلْوَقْتِ ، مَجْنُونَةٌ وعَاقِلَة ، صَلْبَةٌ وهَشّةٌ .كليمنسِيَا هِيَ كُلُّ الأَضْدَادِ،هي رَحْمَةٌ ولَعْنَةٌ ..هي نِعْمَةٌ ونِقْمَةٌ ..هي كليمَنْسِيَا.
لَيْسَ غَرِيبًا أنْ تُذْكَرَ كَلِمَةُ « حُبّ» خَمْسٌ وسَبْعُونَ مَرّةٍ تقْرِيبًا وأَنْ يَنْسب الشَّاعِرُ لكليمنْسِيا قُرابَةَ اُلْخَمْسِ وسَبعِينَ اسْمًا هي صُدْفَةٌ جَمِيلَةٌ أُخْرَى غَيْر مُتَعَمَّدَة ، أَلَيْسَتْ كليمَنسِيَا هِيَ اُلْحُبُّ؟

عَبَّرَ « سُوفُوكلِيسْ » اُلْكاتِبُ اُلْمَسْرَحِي اُلْإغْرِيقِي عنْ حَقِيقَةِ اُلْحُبّ اُلْمُرَكَّبَةِ قَائِلاً : « اٌلْحُبُّ لَيْسَ وَحْدَهُ اُلْحُبُّ ولَكِنَّ اسْمَهُ يُخْفِي فِي ثَنَايَاه أَسْمَاء أخْرَى مُتَعَدِّدَة ، إنَّهُ اُلْمَوْتُ واُلْقُوَّةُ الّتِي لاَ تَحول ولاَ تَزوُل ، إِنَّهُ الشَّهْوَةُ اُلْمَحْضُ واُلْجُنُونُ اُلْعَاصِفُ واُلنّوَاحُ».

(8)

تُلاَمِسُ نَسَائِمُ اُلْإيحَاءَاتِ في هَذَا اُلْكِتَابِ جِلْدَ اُلْقَارِئِ فَتُرْبِكُ شُعَيْرَاتَ جِلْدِهِ ومَسَامِّهِ وتَسْتَفِزُّهَا في قُشَعْرِيرَةٍ خَفِيفَةٍ لَذِيذَةٍ . رَوَائِحٌ ،عُطُورٌ،بَخُورٌ وأَصْوَاتٌ وهَمَسَاتٌ ولَطَائِفٌ ولَمَسَاتٌ وغِنَاءٌ ورَقْصٌ..كِيمْيَاء أَخْلاَطٍ مِنَ اُلْحَوَاسِّ واُلْأَحَاسِيسِ يُتْقِنُهَا الشّاعِرُ في مِخْبَرِ التَّجْرِبَة اُلْإِبْدَاعِيّةِ ويَتَمَثّلُ أَرْوَعَ التَّصَوُّرَات اُلْفُنْتَازْمُوغُوريّة . عِشَابَةٌ ، صَحَارَى ، بَرَارِي ،طُيُورٌ ،سَوَائلٌ ، أمَاكِنٌ وشَخْصِيّاتٌ...إلخ .كُلُّهَا تَصْنَعُ اُلْفنْطَازِيَا الشّعريّة وتُضْفِي لَمْسَةً سِريَالِيّة سِحْريّة على اُلْحَدَثِ السَّرْدِي .
فِي كُلِّ الْتِوَاءَةِ حَرْفٍ ، في كُلِّ اسْتِدَارَةِ حَرْفٍ وانْحِنَاءَةِ حَرْفٍ تَكْمُنُ رِيحٌ عَبِقَةٌ تَفُوحُ مِنْ رُوحِ النّصِّ الّتي هي رُوحُ الشَّاعِرِ. في كلّ حَرْفِ عَطْفٍ تَفِيضُ اُلْعَاطِفَةُ ، في كُلِّ أَدَاةِ كَسْرٍ يَنْزَفُ اُلْجُرْحُ ، في اُلْحُرُوفِ السَّاكِنَةِ هُبُوبُ عَواصِفَ ، في كُلِّ إشَارَةٍ عِبَارَةٌ .

لُغَةُ الشَّاعِرِ لَيْسَتْ كَكُلّ اللُّغَاتِ ، لُغَتُهُ مُلاَغَاةٌ وجَدَاوِلٌ مُتَنَاغِمَةُ الخَرِيرِ. لُغَتُهُ مُتَغَلْغِلَةٌ جُذورُهَا في سَدِيمِ اُلْأَصَالَةِ ، مُنْفَتِحَةٌ أَغْصَانُهَا عَلى اُلْحَدَاثَةِ واُلْكَوْنِيّة وفيها كُوسْمُوفِيلِيَا لِسَانِيّة شَيِّقَةٌ. لُغَتُهُ مُتَمَرّدَةٌ عَلى اُلْمَأْلُوفِ واُلْمُعْتَادِ تَقْطَعُ مَعَ الرّتَابَةِ واُلْهَجَانَة واُلْلَّقَاطَةِ الشِّعْريّة ، حَانِقَةٌ مُزَمْجِرَةٌ كَالبَرَاكِينِ عِنْدَ احْسَاسِهِ بالظُّلْمِ واُلْهَوَانِ ..قَاطِعَةٌ لُغَتُهُ كَنَصْلِ اُلْحُسَامِ اُلْمَسْلُولِ مِنْ غمدِه في وَتَرِيّاتِ انْفِعَالِهِ عِنْدَ لَحْظَة اُلْهَشَاشَةِ اُلْفَاصِلَةِ بَيْنَ اُلْمَلْحِ
والشَّهْدِ .لُغَةُ سليم دولة هي حدِيثُ الرُّوحِ للرُّوحِ وبَوْحُ الْخَاطِرِ للطَّيْرِ اُلْحُرِّ وَبَرِيدُ اُلْقَلْبِ اُلْمَوْجُوعِ إلى القُلُوبِ اُلجَرِيحَةِ... 

(9)

«كلِيمَنْسِيَا اُلْجَمِيلَة»..مَنْ تُرَاهَا تَكُونُ هَذِه الكلِيمَنسِيا ؟
هَلْ هِيَ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ ؟ أَمْ هِيَ كُلُّ النِّسَاءِ ؟

يُخَيّلُ لي أَحْيَانًا أَنَّ الشّاعِرَ يَخْتَزِلُ كُلَّ النِّسَاءِ النَّائِمَاتِ فِي ذَاكِرَتِه في امْرَأةٍ وَاحِدَةٍ وهيَ كليمَنسْيَا ويَخْتَصِرُ كُلّ امْتِحَانَاتِه اُلْعَاطِفِيّة في اخْتِبَارٍ وَاحِدٍ ..نِسَاءٌ تَمُرُّ في حَيَاةِ الشَّاعِرِ ثُمّ تَسْكُنُ دَهَالِيزَ ذَاكِرَتِهِ كَمَا اُلْحَضَارَاتُ تَمُرُّ عَلى مَدَارِ تَاريخِ الإنْسَانيّة – حضارة الأنْكا ، حضارة المَايَا ، حضارة الفَرَاعِنَة ، حضارةُ بَابٍلْ وآشور ..إلخ .كُلُّ حضَارَةٍ تَعْرِفُ اُلْمَجْدَ واُلْعَظَمَةَ ثُمَّ تَخْفُتُ جُذْوَتُهَا وتَسْتَحِيلُ إلَى ذِكْرَى

وكَأَنّ قَلْبَ الشّاعِرِ كمَا اُلْأمْصَارُ وكليمَنْسِيّاتُهُ كمَا اُلْحَضَارَاتِ .قَلْبُ الشَّاعِرِ أَرْضٌ خَضْرَاء تُنْبِتُ القَمْحَ والزَّيْتونَ والورْدَ، تَنْجَذبُ وتَأْوِي إلَيْهاَ الكليمنْسِيّاتُ طَمَعًا في السّكْنى والاحتِمَاء..قَلْبُ الشَّاعِرِ بِفَسَاحَتِه هُو مُنْتَجَعُ أَيْقُونَاتٍ وغَزَال بَرّي وأَسْرَابِ بَجَعٍ ومَهَا ومَوطِنُ يَمَامٍ وحَجَلٍ وعَصَافِير تُؤسِّسُ للْوَحْيِ الشِّعْرِي وتَغْزِلُ خُيوطَ الإلْهَامِ وحَرِيرَ اُلْغَزَلِ وتَنْسُجُ دَنْتِيلاّ اُلْمَجَازِ.
في قِرَاءَةٍ أُخْرَى بَعَيْنٍ ثَالِثَة .. كليمَنْسيَا لَيْسَتْ امْرَأة واحِدَة وليْسَتْ كُلَّ النِّسَاء..هي الأَنا الأُخْرَى للشَّاعِرِ ..هي ذَاتُهُ الأْنْثَى أوْ صُورَةُ الأنثَى كَمَا يَتَمَثَّلُهَا وِجْدَانُهُ ..تَكُونُ عِنْدَئِذٍ كليمَنْسِيَا هِيَ الحُلْمُ ، هِيَ الأمَلُ ، هي التَّوْقُ إلى الإنْعِتَاقِ مِنْ طَوْقِ المُتَدَاوَلِ والسّائِدِ والطَّقْسِ .تَكُونُ كليمنسيا هي أرضُ المِيعَادِ في التَّوْقِيتِ اُلْمَوْعُودِ اُلْوَاعِدَة باُلْخَلاَصِ
كليمنسيا في ذات السِّيَاقِ تُمَثّلُ الحَلَقَة المَفْقُودَة في دَائِرَةِ اُلْمُمْكِنِ اُلْجَمَالِي الذي يأَرّقُ جَفْنَ الشّاعِرِ ذي النّزْعَةِ اُلْمِثَاليّة ويُسَبِّبُ قَلَقَهُ وماَ يَكُونُ قَلَقُه غَيْرَ أَلقِ التّمَيُّزِ برَهَافَةِ اُلْإحْسَاسِ.وتُمَثِّلُ أَيْضًا المَلْجَأَ العاطفي أو « الوطن العاطفي « كمَا اسْتَلَذّ الشّاعِر صِيَاغَةَ اُلْمَعْنَى.روحُ الشّاعِرِ تَحْتَمِي بأحْضَانِ الْحُبِّ خَوْفًا مِنْ فَجِيعَةِ السّقُوطِ في اُلْعَدَمِيّةِ ، لَكِنْ أَليسَ الحُبُّ هَاوِيَةً سحِيقَةً تُغْرِي بالوُقُوعِ في الجُبِّ وتُنْذِرُ بالتَّسَرْسُبِ والانْحِدَار إلَى قِيعَانَ دونَ قَرَار؟

كليمنسيا هيَ سَلِيلَةُ اُلْيُتْمِ اُلْعَاطِفي في اُلْوطَن، تَكَوّنَتْ في تُرْبَةِ ذَاكِرَةِ اُلْوَجَعِ ، تَرَعْرَتْ تَتَمَرّغُ علَى رَمَادِ كُتُبِ الشّاعِرِ ودَفاتِرِه حِينَ حَرِيقٍ أشْعَلُوه في بَيْتِهِ ،أَيْنَعَتْ فَوقَ وَصْمَاتِ اُلْحُرُوق في معْصَمِ الشّاعِرِ ، كَبُرَتْ عَلى ضِفَاف اُلْجِراحِ في قَلْبِ الشَّاعِرِ ، بَانَتْ صَبِيّةً جَميلَةً مِنْ شُقُوقِ اُلْكُسُورِ في الْعِظَامِ في رِجْلِ الشَّاعِر وَشَبَّتْ زِنْبَقَة تَغْتَسِلُ في سَيْلِ النّزفِ كُلَّ يَوْمٍ في اُلْغَسَقِ.

(10)

في غَفْلَةٍ مِنْ زَمَنِ اُلْكِتَابِ ،يَسْتَيْقِظُ الطِّفْلُ النَّائِمُ في أَقَاصِي الذّاتِ الشَّاعِرَة عَلَى نَايَاتِ شَجَنِ الرّوحِ وهي تَشْكُو اُلاغْتِرَابَ وكَمَنْجَاتِ النّشِيجِ حِينَ اُلْغِيَاب ..يفْتَحُ الطّفْلُ أَدْرَاجَ الذّاكِرَة ويَنُطُّ إلى اُلْخَارِجِ عَبْرَ نَوَافِذِ الذّكْرى ..يَعُودُ أَدْرَاجَهُ إلى أُمِّه وخَالَتِه وجَدّاتِه وأَبِيه ويَسْتَحْضِرُاُلْلَّحْظَةَ الأولَى في قَصِيدَةِ اُلْعُمُرِ..يَنُطُّ الطِّفْلُ ، يَنُطُّ القَلْبُ في غَفْلَةٍ مِنْ زَمَنِ وِجْدَانِ الشّاعِرِ إلى حُضْنِ حَبِيبَتِهِ مُغَنْطَسًا كَمَا تحْتَ تَأثِيرِ قُوَى مِغْنَاطِيسيّة بالرّغْبَةِ اُلْجَارِفَة في الكِتابَة بقَلَمِهِ السرّي علَى كتَابِهَا السّري مَلْحَمَةَ اُلْحَيَاةِ واُلْمَوْتِ فَيُخَصّبُ اُلْمَدَى و تُولَدَ اُلْقَصيدَةَ . يَنُطُّ اُلْقَلْبُ في رَمْشَةِ عَيْنٍ لِفَرَحٍ مَسْرُوقٍ مِنْ سِرْبِ اللَّحَظَاتِ
يَتَوَقَّفُ الطِّفْلُ عَنْ عَدْوِهِ ، يَكُفُّ اُلْقَلْبُ عَنْ شَدْوِهِ ،يُحَادَفُ اُلْقَلْبُ باُلْحَصَى ويُرْمَى بأَلْفِ حَجَر يُضْرَبُ الطّفْلُ بِعَصَى ظُلْمِ اُلْبَشَر..وتَنْأى اُلْمَسَافَاتُ بينَ الذّاتِ الشَّاعِرَة وبيْنَ قَوسِ قُزَح ويصِيرُ اُلْقَلْبُ الْوَحِيدُ مَرِيضًا باُلْغِيَاب وباُلْوَطَن ويَسْتَوِي اُلْإيقَاعُ ..هُنَا تَتّخِّذُ التّجْرِبَة الشّعْرِيّة مَنْحَى قُصْوَوِيّا وتَزدَادُ الهَشَاشَةُ ،في اُلْقُصْوَوِيّةِ هَشَاشَةٌ وفي اُلْقُصْوَوِيّةِ تَمَلْمُلٌ وتَذَبْذُبٌ وتَقَلقُلٌ وفيهِ قَلقٌ ..لَكّنّهُ أَلَقٌ في سَمَاءٍ تَرْنُو إلَى انْقِشَاعِ اُلْغُيُومِ.

(11)

نَصُّ اُلْكِتَابِ لَحْظَةٌ شِعْريّةٌ خَالِصَةٌ مُخْلِصَةٌ لاخْتِلاَجَات الشّاعِر وَفَقَاتِهِ .هَذهِ الْلّحْظَةُ هي رَفَّةُ عَيْنٍ ،خَفْقَةُ قَلْبٍ ،رَعْشَةُ يَدٍ ،هَمْسَةُ وَجْدٍ ،لَمْسَةُ حَنَانٍ ،قُبْلَةُ حُبٍّ ، شَهْقَةُ شَبَقٍ ،بَسْمَةُ رِضَى ، ضَحْكَةُ فرَحٍ ، دَمْعَةُ شَوْقٍ ،لَهْفَةُ لِقَاءٍ ، رَجْفَةُ وَدَاعٍ ، أَنّةُ وَجَعٍ ، رَقْصَةُ مَوْتٍ ..لَحْظَةٌ هي كُلّ الْلَّحَظَاتِ ، يَسْقُطُ فِيهَا الزّمَنُ ..لَحْظَةٌ هي اُلْحَيَاةُ.
هَذَا اُلْكِتَابُ هُو لَحْظَةٌ ضَوْئِيّةٌ مُضِيئَةٌ تَشُقُّ السّمَاء إلَى نِصْفَينِ والْأَرْضَ إلى شِقّيْنِ واُلْبَحْرَ إلَى بَحْرَيْنِ وكُلَّ اُلْكَائِنَات إلَى نِصْفين ، تُبَعْثِرُ الأَنْصَافَ في اُلْكَونِ وتُعِيدُ التّرْتِيبَ بإنْصَافٍ.هي بِينْغ –بُونغ في الاّزَمَن تَأْذَنُ بِإِعَادَةِ

التّكْوِينِ وخَلْقِ أَكْوَان جَدِيدَةٍ في عَالَمِ الإبْداعِ الشّعري والأدبي مَجَرَّاتُها ....
و مَدَارَاتُها تَفْتَحُ عَلى:

 «اُلْحُبِّ»
 و«اُلْعَدْلِ»
 و«اُلْحُريّة»

 «مُعَلّقَةُ التّونِسِيّين والتُّونُسِيّاتِ اُلْأَبَدِيّة» 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115