العرض الاول «المرقوم»: صانعات المرقوم ملح هذه الأرض وذاكرتها الحية أبدا

في منطقة منسية ولد الحلم، من رحم الطبيعة والبداوة ولدت تفاصيل الحلم وتشكلت لتكون

وليدا جميل الشكل والصوت هو «المرقوم» في جبال السند كانت الولادة طبيعية لعرض موسيقي يستلهم التراث الغنائي والتشكيلي عند صناعة قطعة المرقوم لصياغة فرجة معاصرة اتحدت فيها الموسيقى الجبلية بانماط موسيقية حديثة وجسدت بالسينما لحظات الولادة لتراث منسي.
المرقوم عملية توثيق وتقديم موسيقي لذاكرة لا تموت ذاكرة من سكنوا الجبل وصنعوا الصوف وحاكوا معه كل تلوينات الحياة وتفاصيلها بالصوف والوبر والاغنية، هناك تعلموا الغناء لانه وسيلة للمقاومة وعنوان لتاريخ شفوي يتداوله النسوة ويقدمونه في كل مناسبات الفرح ، المرقوم يلخص الذاكرة الجماعية ويقدم تعريفا بتلك الحرفة، عرض موسيقي مختص في اغاني المرقوم دون غيره لنزار السعيدي واشراف موسيقي لنبيل بن علي.

المرقوم رحلة البحث عن تفاصيل الحلم
انتشرت الوان الحياة، هنا في ساحة المهرجان بالقطار من ولاية قفصة تمازجت الوان الحب والحياة وتناغمت تباشير الامل في ازياء مستوحاة من المرقوم والوانه الزاهية، «الكوستيم» جزء اساسي من العرض له الوانه الخاصة، اينما وليت نظرك وجدت بعض تفاصيل المرقوم في لباس العازفين والمغنين والكوريغراف، هنا اتحدت تلوينات «الحرام» الزهري والازرق والبنفسجي مع الوان «مريول فضيلة» الاخضر والأبيض والأزرق الداكن زادته «الشاشية» الحمراء اللون مع زينة «الخلال « و «الخمسة» بريقا خاصا فكان تونسيا دون منازع.

صوت حفيف الرياح، نقرات الطبلة يرافقها موال جبلي يتغزّل بالمرأة صانعة المرقوم، الضوء بنفسجي وكأنه يدعو الحضور لساعة ونصف من الحب، تدخل النسوة أولا جميعهن» يضعن «المشطية» السندية فوق الرأس، لذاك الغطاء سحره بكل الوانه المختلفة، «البخنوق» او «المشطية» يختلف اسمه من جهة الى اخرى ولكنه يشترك في جماله وجمال رموزه، تقريبا يشترك في الرموز المرسومة اعلى الراس والمتمثلة في «الخمسة» او « قرن الغزال» كإشارة الى طرد العين وإبعاد الحسد عمن ستلبس ذاك اللباس الذي تغنت به الفنانة صليحة في «بخنوق، بنت المحاميد عيشة، ريشة بريشة، وعامين ما يكملوش نقيشة» دليل على دقة التفاصيل وصعوبة نسجه.
المشطية لأنها لباس للعروس فهي عادة ما تكون حمراء موشاة بالوان اخرى والأحمر في الموروث الشعبي هو لون الحب والحياة ويكون طرفها في شكل ظفيرة كدلالة على التلاحم والوحدة التي ستحملها تلك المرأة الى بيت زوجها وقبيلته.

أما مجموعة العازفين فجميعهم يضعون حزاما موشى بالألوان استمد الوانه وتشكيلاته من المرقوم بكل رموزه ويضعون على الرأس «اللحفة» الطويلة التي تحمي الراس من الشمس صيفا ومن البرد شتاء مع بعض زينة البرنس التونسي التقليدي.

تدق الطبول بصوت عال، ترحب بضيوف «المرقوم»، فموسيقى القيثارة المجنونة، حوار عجائبي بين الطبلة والقيثارة، يرافقها صوت للجمال ثم شاشة الفيديو تعرض صور للجمال اثناء ترحالها ورعيها ومعها اغنية «بكرة المراس» بتوزيع موسيقي جديد جد ممتع، اغنية من موروث جهة السند اعاد نبيل بن علي توزيعها بلحن شبابي ممتع « حاولنا تقديم الاغنية الاصلية من حيث الكلمة مع اعادة توزيع اللحن ليكون اقرب للشباب حتى يتصالح الشباب مع موروثهم الشفوي ويقبلوا على الاغنية التراثية بسهولة، الهدف هو احياء تراث منسي لتقريبه من العصري» على حد تغبير نبيل بن علي، لذلك تماهت موسيقى الطبل مع القيثارة ورافقتهم الكمان في غنجها مع الفيديو في الخلف لتشعر انك جزء من العمل ستجدك تلاعب تلك الابل او تحاول التركيز مع تفاصيل الراعي.

الموسيقى ذاكرة واللحن هوية فانصت
قيثارة هيثم عبيدي تغازل الجميع نوتة مجنونة وقوية وكأنها صوت «القرداش» اثناء عملية «التقرديش»، موسيقى كمان هيثم الهلالي الرقيقة تماما مثل عملية الغزْل و طريقة استعمال المغزل ليكون الصوف خيوطا رقيقة، للطبول صوت «الخلالة» اثناء المنسج، في الشاشة الخلفية صور للنسوة اللواتي لازلن يصنعن المرقوم بجهة السند من ولاية قفصة، خلف المنسج او «السداية» عجوز مازالت تنسج وتغني، مازال لصوتها سحره،وعلى الركح تغني «خالتي جميلة» كما يناديها الجميع موال جبلي يتغزل بتلك اليدين وذاك الوجه الذي كتبت فيه السنون حكاياتها وتركت اثارها مثل وشم لا يمحى.
تقترب الكاميرا وتتضح الصور المعروضة في الشاشة اكثر، صور ستخاطبك وتقول ارأيت تلك القسوة المرسومة على اليدين، اشاهدت تلك الهالة السوداء اسفل العينين اشاهدت بياض الشعر هل قرأت ما خطته السنون على محياها، تأمّل الصورة جيدا وستقرأ كل ما كتبه الزمن على تلك اليدين تأملها قبل ان تسمع الانيقة حذامي القاسمي وهي تغني» لا من يجينا مريض الدلالة، برنوس جريدي على كتف سيدي، ونحيتو بيدي بدقّ الخلالة « اغنية هي الاخرى اعيد توزيعها وأصبح للقيثارة سحرها ولنغماتها المجنونة صخبها وباتت اكثر ايقاعا من اللحن القديم.

المرقوم حكاية
هو ليس مجرد عرض موسيقي بل بحث متكامل عن صناعة المرقوم منذ عملية الجز الى حد الانتهاء من نسجه وتقديمه في ابهى حلة، في المرقوم تكون الاغاني اداة للتعريف بذاك النسيج، اغان اختارها نبيل بن علي صحبة نزار السعيدي ومجموعة من الباحثين لتقديم عرض مختص ليس مجرد ايقاعات اعتباطية او اغان تراثية فقط تقدم لتجعل الجمهور يرقص وانما هو بحث علمي اساسه الموسيقى والتاريخ في الذاكرة الشعبية.

في المرقوم للصورة وقعها، مجموعة من المصورين تنقلوا اثناء الزيارات الميدانية ووثقوا للحياة في السند، وثقوا لكيفية صنع المرقوم وللأغاني التي تغنيها المرأة اثناء صناعة المرقوم.

يرتفع صوت ناي نبيل بن علي عاليا، صوته الهادئ يبعث في النفس الشجن، لموسيقاه الحزينة وقع البعد على نفس العاشق ، تجيبه الكمان بموسيقى اشد شجنا، يغازلها بنغمات رقيقة فتجيبه بألحان ممتعة، حديث الناي والقيثارة وكأنه حديث المرأة مع حبيبها البعيد تخاطبه وتتغزل بمناقبه وهي تصنع المرقوم، بعدها يكون للطبلة بايقاعاتها القوية صوت المجتمع والضمير الجماعي، صوت قوي وكأنه عملية ردع لمشاعر حب بانت للجميع واشرقت عليها شمس السر وتداولها الكل، ثم يكون للملولية وصوت السبتي سحره وكأنه يخاطب الجبل ويسأله ان يوصل صدى حبه الى تلك الجالسة خلف المنسج بين اخذ ورد بين موسيقى هادئة حينا وغاضبة احيانا تكون الرحلة في المرقوم.

في المرقوم لك ان تستمتع بالموسيقى مع الدرازي و الربايلي والفزاني، ستمتعك «قصبة» الخامس في تمازجها مع صوت لقيثارة والقيثار باس، تمازج بين الات مختلفة ولّد فرجة موسيقى لها خصوصيتها.

في المرقوم تكون الاغنية عنوان للذاكرة الشعبية، بالأغنية وثقوا لصناعة المرقوم وقدموها الى الجمهور وثقوا التراث الشفوي وحرفة تكاد تندثر من خلال الاغنية التي كانت دليل الزائر ليتعرف على خصوصيات المكان وتاريخه، لموسيقى عرفت بالسند ومغاورها الجبلية وبالحياة اليومية لسكانها فالموسيقى ليست مجرد متعة بل كانت درس في التاريخ الشفوي عمل على تقديمه نبيل بن علي ونزار السعيدي في ابهى حلّة.

انا المرا..المقدية والمرقوم حكايتي وتاريخي
هنّ الحياة، هنّ الجمال هن الحرائر هنّ من يصنعن المرقوم و معه يحكن تفاصيل الامل، في المرقوم بالموسيقى يكرمون المرأة الريفية، صور سالم قوادرية ووائل ناصري عن الحياة البدوية اليومية التي تعيشها صانعة المرقوم كانت لطاقة تعريف لهنّ، في العرض لهنّ الحضور الأكبــر، طيلة العرض تسمع زغاريد النسوة وتستمتع بتفاصيل الفرحة والجمال، في العرض كان لهن» النصيب الاوفر من جمالية «الكوستيم» والألوان المميزة، تغني «جميلة الناصري» الملولية وتجيبها حذامي القاسمي باغنية «هزي حرامك» وهي تلبس لباس صنع من الحرام الملون الجميل وتخاطبها وتقول «يا لابسة خرس وخلال الحزام واتى حرامك السالف على الخد مال وفي الساقي ناي نشبح وشامك» ، لتجيبها سعيدة الهاني بموال جبلي من جبال القصرين، وفي الركن تلبس افراح البدوي الشاشية التونسية وبلكنة انجليزية مميزة تتغنى بالمرقوم صحبة موسيقى القيثارة، اربعتهنّ كن مثال عن المرأة البدوية المميزة، لكل واحدة منهنّ طريقتها الخاصة في التعامل مع الموسيقى ومن اختلافهنّ صنعت موسيقى المرقوم ملونة موشاة وكانها على المنسج.

تتواصل رحلة الفيديو الذي اشرف على اعداده وقام بعملية المونتاج المبدع ايمن الزوالي، مع كل اغنية هناك صور محددة، صور ملونة ولكل منها حكاية، فالمرقوم حكاية، لك ان تتأمل تلك الالوان المختلفة، لك ان تستمتع بجمال الاشكال الهندسية وتحاول البحث عن شيفراتها، المرقوم اداة للتاريخ ايضا لأنه يوثق لليومي الذي تعيشه المرأة، فهناك مرقوم تجد به شكل منحنيات تدل على الكثبان الرملية واسفلها بالمربعات يصورون الجمال كدليل على ترحال تلك القبيلة اي انها تقطن الجنوب ويوجد خاصة في المرقوم زاوية العانس جهة نفزاوة.

في السند تجد في المرقوم الكثير من المربعات المتدرجة في شكل درج وكأنها ترمز الى صعودهم الجبل او صعود الغرفة العلوية اين يوضع المنسج عموما، في المرقوم ايضا ستجد مثلثات متقابلة ما يعرف برمز «ايدك في ايد خوك» في اشارة الى الوحدة بين ابناء العرش الواحد، كما يظهر في المرقوم الوذرفي.
المرقوم ايضا يوثق لفترات تاريخية عاشتها تونس، في الشاشة صور لأشكال هندسية عبارة عن معينات ومثلثات ان جمعتها ستكون صورة لرجل او عسكري في اشارة الى العسكر العثماني الذي وجد في التراب التونسي في القرن 19.

فالمرقوم هنا بكل رمزية اشكاله ودلالات ألوانه ليس اعتباطا بل هو وثيقة تاريخية مادية كتبت عليها النسوة حياتهن، وما تعيشه العشيرة او القبيلة والعائلة وكيف يعيشون و الوضع العام للبلاد ايضا، صور ووثائق رسمتها النسوة بكل شغف والحب وحاول الموسيقيون تقديمها الى الجمهور بكل حرفية وخصوصية.
يقول التوحيدي «انّ الكلام على الكلام صعب» فكيف بالكلام على بحث موسيقي دام اشهرا عن المرقوم واغانيه، عن اهازيج الحياة وما تقوله المرأة وهي تصنع «المرقوم» بكل شغف الحياة عن تاريخ السند والجنوب عموما، عن ولع المرأة بالحرفة اليدوية وكيفية صناعة نص جميل من العدم.
المرقوم العرض التونســي الهــــوى والتقديم، عرض جمع الذاكرة الجنوبية مع صوت محمود العرفاوي الذي تغزل بالصحراء وغازل كثبانها، المرقوم حمل الجمهور الى القصرين وجبالها وموسيقى الدرازي مع صوت سعيدة الهاني وتجول في ربوع الريف و حياة المرأة الريفية الذي قدمته حذامي القاسمي ليعود الى السند، الى الملولية و اهازيج الجبل والصحراء التي غنتها جميلة الناصري، المرقوم حكاية تونسية حكاية الريف بكل تلويناته، حكاية نسوة لازلن متمسكات بالاصل ولازلن يرسمن بالصوف احلى «مرقوم».

السينما في خدمة الموسيقى
في المرقوم اجتمع عدد من امهر سينمائيي ومصوري قفصة، سالم قوادرية الفائز بالجائزة الاولى في الملتقى الدولي للصورة الفوتوغرافية بصورة العجوز صانعة الكسكسي، الصورة تم التقاطها اثناء الزيارات الميدانية لعرض المرقوم، في العرض يكون للجمهور موعد مع الصور الفوتوغرافية المميزة التي تحكي تقاليد الجهة ابدع ايمن الزوالي في عملية المونتاج ليقدم فيديو سينمائي يحكي حكاية المرقوم.

حذامي القاسمي اينما حلت ابهرت الجمهور
لصوتها خصوصيته، كلما غنت تميزت وامتعت مستمعيها، تعشق الموسيقى وتغني في كل ركن ومكان، ابنة القيروان حذامي القاسمي من الريف تعلمت البساطة و الحب، حذامي القاسمي لها طريقتها الخاصة فغي الغناء لإحساسها المميز وقع البلسم كلما سمعتها ستطلب المزيد، تغني التونسي جيدا ولها مشروع فني خاص تعمل عليه منذ مدة، تونسية مبدعة كلما غنّت تميزت.

جميلة الناصر: ذاكرة المكان
بسيطة في لباسها، حديثها حلو ولكلماتها وقع البلسم على الروح، لمليتها السوداء اللون والتخليلة حكاية امرأة تونسية متمسكة بموروثها وهويتها، جميلة السندي من اشهر مغني «الملولية» في السند، تقريبا هي الوحدة التي تحفظ الملولية وتغني اهازيج الجبل دون خجل، تلقائية وللمرة الاولى تصعد على الركح وتغني في عرض موسيقي له اخراجه وسينوغرافيا متكاملة، «خالتي جميلة» برائحة السخاب والعود التي تزينت بها ولباسها التقليدي غنّت وّهزت الطرق» كما يقولون، امتعت جمهور القطار وقفصة وكانت عنوانا للذاكرة التي لا تموت، جميلة الناصري ذاكرة متقدة تحفظ الكثير من الاغاني المنسية غير الموثقة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115